Wednesday, 6 November 2024

ترامب ومصر.. سيناريوهات عودة الحليف


تم نشر المقال في موقع المنصة يوم الأحد 31 مارس 2024

تبدو عودة دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة غير مستبعدة. ولأن العالم تعرف عليه خلال الولاية الأولى، فإن عودته بعد جو بايدن، تمنحنا فرصة لم تحدث من قبل مع رئيس أمريكي قادم لتوقع سياسته الخارجية تجاه مصر.

ربما علينا تذكُّر أن القاهرة راهنت على ترامب قبل دخوله البيت الأبيض رئيسًا. بدا هذا الرهان في الأشهر التي سبقت انتخابات عام 2016 الرئاسية مُستغربًا. فرغم العلاقة المتوترة بين إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فعدم إعلان الانحياز تجاه أي مرشح رئاسي أمريكي كان أحد ثوابت السياسة الخارجية المصرية.

كسرَ النظام المصري هذه القاعدة في الانتخابات التي اختار فيها الحزب الديمقراطي وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، كي تمثله أمام المرشح الجمهوري دونالد ترامب، ولعل هذا الرهان هو ما جعل السيسي أول رئيس دولة يتحدث مع ترامب هاتفيًا فور إعلانه رئيسًا قادمًا للولايات المتحدة الأمريكية.

أشاد الرئيس المحب للصفقات السياسية البراقة بالرئيس السيسي، خلال فترة وجوده بالبيت الأبيض، واعتبره شريكًا يمكن الاعتماد عليه لتحقيق تصورات إدارة ترامب في الشرق الأوسط مثل مشروع صفقة القرن لإحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.

كما بدا ترامب متفهمًا لمخاوف مصر من سد النهضة الإثيوبي وتأثيره المباشر على أمنها المائي، في الوقت نفسه لم يكن حريصًا على أجندة سلفه أوباما في دعم ملفيّ حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي في الشرق الأوسط أو حتى حريصًا على الأجندة المعلنة للرئيس جورج دبليو بوش الخاصة بدعم نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.

فهل سيحافظ ترامب على نهجه تجاه مصر إذا وصل إلى البيت الأبيض للمرة الثانية؟

ربما تعتمد إجابة هذا السؤال على التحولات العميقة التي تمر بها المنطقة، خاصةً في أعقاب الحرب التي تخوضها إسرائيل في قطاع غزة، تلك الحرب التي أثرت في خطط الولايات المتحدة للانسحاب من الشرق الأوسط ونقل ثقلها العسكري لمنطقة المحيط الهادي من أجل احتواء الصين، كما تعتمد الإجابة أيضًا على أجندة المطالب الأمريكية من مصر خلال السنوات المقبلة.

ملفات ترامب المصرية

خلال سنوات حكم الرئيس السابق حسني مبارك، كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ رونالد ريجان وحتى جورج دبليو بوش تنظر للعلاقة مع مصر من خلال خمسة ملفات.

في مقدمة هذه الملفات يأتي الحفاظ على السلام مع إسرائيل، ثم ملف التعاون العسكري، وملف التعاون الأمني، وملف قدرة القاهرة على تقديم غطاء سياسي للتحركات الأمريكية في المنطقة، وآخر هذه الملفات يتضمن الاستثمار في ربط الاقتصاد المصري بالشركات الأمريكية وبالسوق الأمريكية من خلال تسهيل التصدير للولايات المتحدة كضمانة للحفاظ على التحالف السياسي.

من المرجح أن يحاول ترامب إعادة ترتيب أولويات العلاقات الأمريكية المصرية وفق ملفات المنطقة المشتعلة. وبالتأكيد عند دخوله البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2025 ستظل آثار الحرب الإسرائيلية في غزة مستمرة، حتى وإن توقفت العمليات العسكرية، وهو الأمر الذي سيدفع ترامب لإعلان موقفه من المطالبات الدولية بتنفيذ حل الدولتين بما يتضمنه من تنازلات إسرائيلية لا يريد أي طرف في المعادلة السياسية الإسرائيلية الحالية تقديمها.

من المؤكد أن ترامب سيحاول تفعيل صفقة القرن بما تتضمنه من دولة فلسطينية منزوعة السيادة وخالية من القدس أو من الأراضي التي تم احتلالها خلال حرب 1967، وهي الصفقة التي ستحتاج لغطاء سياسي من الدول العربية، في مقدمتها مصر والسعودية.

ومن المحتمل أن يحاول ترامب تنفيذ رؤية زوج ابنته ومستشاره جاريد كوشنر بشأن غزة، عندما قال في جلسة بجامعة هارفارد إن الجزء الواقع على الواجهة البحرية في غزة "قيم للغاية" لاستغلاله عقاريًا وسياحيًا، وأنه إذا كان يملك القرار في إسرائيل فإنه سيبذل قصارى جهده "لإخراج الناس من غزة وتنظيفها".

إذا تبنت إدارة ترامب رؤية كوشنر لغزة، فإن ذلك سينقل مستوى التوتر السياسي والأمني في المنطقة لمرحلة أعلى، وبالطبع سيكون مطلوبًا من القاهرة أن تنخرط في جهود إثناء ترامب عن تبني هذه الرؤية الكارثية.

المقايضات "الترامبية"!

خلال إدارة ريجان كان الدعم المصري العسكري لجهود الإدارة الأمريكية لمساندة المجاهدين في أفغانستان إحدى ثمار ملف التعاون العسكري، بينما كان الغطاء السياسي الذي قدمته القاهرة للحشد العسكري الأمريكي من أجل تحرير الكويت من الاحتلال العراقي أمرًا مهمًا لإدارة بوش، وهو ما أدى إلى إعفاء مصر من جزء كبير من ديونها العسكرية.

وخلال إدارتي الرئيس بيل كلينتون والرئيس جورج دبليو بوش، كان التعاون الأمني بين مصر ومجتمع الاستخبارات الأمريكي ملفًا يوازي في أهميته ملف الحفاظ على السلام مع إسرائيل بسبب انخراط الولايات المتحدة في حربها مع تنظيم القاعدة.

وخلال كل مراحل التحالف السياسي بين القاهرة وواشنطن، حرصت الإدارات الأمريكية على عقد اتفاقات اقتصادية لزيادة الصادرات المصرية للولايات المتحدة من أجل ضمان تحقيق الأهداف الأمريكية من العلاقة مع القاهرة [1].

تصاعد التعاون الأمني بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية خلال حكم كلينتون وبوش بسبب الانخراط في الحرب على الإرهاب وتحديدًا تنظيم القاعدة، الذي كان مخترقًا من أجهزة الاستخبارات المصرية بشكل مؤثر.

خلال إدارة أوباما تغيرت الأجندة الأمريكية للعلاقة مع مصر. فبعد الإطاحة بمبارك كان من المهم ضمان الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، بينما تراجعت ملفات التعاون العسكري والأمني في مقابل صعود ملفات جديدة مثل ملف حقوق الإنسان وملف التحول الديمقراطي، وهو ما عكسته مضامين البيانات الرسمية وتصريحات مسؤولي إدارة أوباما خلال زيارتهم للقاهرة.

أما مع ترامب فانشغلت السياسة الخارجية لإدارته في الشرق الأوسط بملف الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وبالتخبط حيال الوجود العسكري الأمريكي شمال سوريا ثم الأزمة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وبالطبع التورط في الأزمة الخليجية والتوتر الشديد في العلاقات بين حلفاء واشنطن في المنطقة، ومحاولة التسويق لصفقة القرن التي يعتبرها نهاية الصراع وربما تكون الفرصة الأخيرة!

وخلال ولايته المقبلة من المتوقع أن يعود ترامب لسياسته الأثيرة في إجراء الصفقات التي تتضمن مقايضات بين ما تريده الولايات المتحدة مقابل رغبات الطرف الآخر.

وبالطبع ستكون القاهرة في حاجة ملحة لدعم مالي كبير من أجل الخروج من أزمتها الاقتصادية العميقة. ومن المرجح أن يحاول ترامب مقايضة دعم إدارته للقاهرة من خلال المنح والمعونات الاقتصادية مقابل أن تكون شريكة في صفقة قرن جديدة في المنطقة تتضمن مقاربة "ترامبية" لحل الدولتين.

وخلال العام المقبل ستظل أزمة سد النهضة الإثيوبي حاضرةً، وهو ما سيجعل القاهرة تطلب من إدارة ترامب دعمًا لها في هذا الملف الذي تجاهلته إدارة بايدن خلال سنواتها في البيت الأبيض، وبالطبع لن يكون دعم ترامب للقاهرة مجانيًا.

لكن لن يكون ملف السد الإثيوبي هو الوحيد الذي تنتظر القاهرة موقف إدارة ترامب منه، بل ستنتظر أيضًا موقف ترامب من الأزمة السودانية، وما إذا كان سيلعب دورًا نشطًا في إنهاء القتال هناك عبر الضغط على حلفاء القوتين العسكريتين، أم أنه سيبقي على سياسة إدارة بايدن، التي اكتفت بإصدار البيانات وعقد اللقاءات، دون تحرك جدي لإيقاف القتال والبدء في مرحلة إعادة بناء الدولة في السودان.

مثلما بدا ترامب خلال سنواته الأربع في البيت الأبيض كإعصارٍ هائجٍ هدفه الإطاحة بكل التقاليد الرئاسية الأمريكية، فإن عودته المرتقبة لن تخلو من إرباكٍ لحسابات حلفائه السابقين في المنطقة، خصوصًا في ظل لحظة هي الأكثر توترًا منذ عقود.

وتبدو عودة ترامب بالنسبة للقاهرة حدثًا تتراوح النظرة إليه بين التفاؤل به بسبب ماضيه كداعم للنظام السياسي، وبين القلق من صفقاته السياسية التي تبشر بالحل الدائم ولا تنتج سوى المزيد من انفجار الأوضاع في المنطقة.


[1] Democracy Prevention: The Politics of the U.S.-Egyptian Alliance,By Jason Brownlee-Cambridge University Press

Thursday, 31 October 2024

أميركا: انتخابات ساخنة، وأزمة عميقة

 


عودة رئيس سابق للمشهد السياسي.. محاكمات قضائية.. إدانات في قضايا جنائية.. أسئلة حول قدرات الرئيس الذهنية الذي هو أيضاً مرشح رئاسي.. محاولة اغتيال.. وتنحي متأخر للرئيس من السباق كي تحل مكانه نائبته التي قد تصبح أول سيدة تشغل منصب رئاسة الولايات المتحدة.

لا توجد انتخابات رئاسية في التاريخ الأمريكي حفلت بكل هذه الأحداث الدراماتيكية والمفاجآت السياسية والقضائية التي تشكل كل مفاجأة منها حدثاً قد يغير نتيجة الانتخابات الأكثر سخونة منذ عقود.

رغم أن حكومات العالم تنتظر نتيجة الانتخابات كي تستعد للسياسات المحتمل أن ينتهجها الرئيس القادم في يناير، إلا أن نتيجة هذه الانتخابات سوف تكون الأكثر تبايناً في الرؤى بين مرشح الحزب الديمقراطي ومرشح الحزب الجمهوري على نحو لم يحدث مع أي انتخابات أمريكية على مدار عشرات السنوات.

لكن أهمية هذا المشهد الانتخابي أنه يلخص أزمة الحزبين السياسيين المهيمنين على الرئاسة خلال عمر الجمهورية الأمريكية.

ترامب وأزمة الجمهوريين

يمر الحزب الجمهوري بأزمة مع ترشيح دونالد ترامب لمنصب الرئاسة في انتخابات 2016، وبالتالي الإطاحة بالأسماء التي كانت تحصل تقليدياً على ترشيح الحزب في الانتخابات الرئاسية، مثل جيب بوش، الحاكم السابق لفلوريدا وابن الرئيس السابق جورج بوش، وشقيق الرئيس السابق جورج دبليو بوش، لصالح رجل أعمال وترفيه من خارج المؤسسة الحاكمة

وبعد أن فاز ترامب بالرئاسة توالت تصرفاته التي خرج بعضها عن الأعراف والتقاليد الرئاسية الأمريكية. كانت قراراته وسياساته اختباراً قاسياً لقدرة مؤسسات الحكم الأمريكية على التوفيق بين ما بدا للبعض تعارضا بين رؤى ترامب الجامحة وبين تحقيق مصالح الولايات المتحدة في العالم. كما كانت تصرفاته تحدياً لفريق من نواب الحزب الجمهوري في الكونغرس والذين حاولوا أن لا يثيروا غضبه حتى لا يخسروا مقاعدهم في انتخابات التجديد النصفي، بعد أن أدركوا أن قاعدة الحزب الانتخابية قد اختطفها ترامب.

وبعد أن خسر ترامب انتخابات الرئاسة أمام جو بايدن في 2020، رفض تسليم السلطة أو الاعتراف بنتيجة الانتخابات، في سابقة لم تحدث من قبل في تاريخ البلاد. وتصاعدت الأزمة إلى حد دعوته إلى إلغاء نتائج الانتخابات، عندما حث أنصاره على إقامة مسيرة نحو مبنى الكابيتول (مقر الكونجرس) "للقتال بكل ضراوة" من أجل ما أسماها باستعادة البلاد! وهو ما أدى إلى اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير 2021 حيث قتل خمسة أشخاص وأصيب أكثر من 140 رجل أمن، وذلك في أكثر لحظات العنف السياسي خطورة منذ الحرب الأهلية الأمريكية.

هذه المرة لم يجد الحزب الجمهوري أي بديل لترامب كي يكون مرشحه في الانتخابات الرئاسية رغم أنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي حاول مجلس النواب أن يعزله مرتين.



ترامب الذي كان عضواً لثماني سنوات في الحزب الديمقراطي (2001-2009)، أصبح الآن الملك المتوج على عرش الحزب الجمهوري دون أن ينازعه أحد في الحزب الذي يطلق عليه اسم Grand Old Party أي الحزب العملاق العريق! فاز بالرئاسة أمام هيلاري كلينتون عام 2016 عكس جميع التوقعات. نجا من محاولتين لعزله من قبل مجلس النواب. تمت إدانته جنائياً في أبريل 2024، عندما قررت هيئة محلفين في نيويورك إدانة ترامب في 34 تهمة جنائية تتعلق بتزوير سجلات تجارية من أجل دفع مبالغ مالية بشكل سري لممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيلز مقابل صمتها وعدم التحدث عن علاقة جنسية بينهما. أصبح ترامب أول رئيس أميركي سابق يتم إدانته بتهم جنائية!

وفي مؤتمر الحزب الجمهوري تم اختيار ترامب كي يخوض الانتخابات القادمة دون أن يقترب من منافسته أي مرشح آخر من داخل الحزب. فقد حصل على أصوات 2268 مندوباً فيما حلت نيكي هيلي في المرتبة الثانية بـ97 صوتاً فقط! تبنى الحزب أجندته والتي ضمت بنوداً مثيرة للجدل مثل إلغاء وزارة التعليم! أو تعديلات من قبل فريق ترامب بشأن مسألة الحق في الإجهاض وترك ذلك لكل ولاية كي تشرع القوانين الخاصة بذلك. وبالطبع لم تخلُ أجندة الحزب التي صاغها فريق ترامب من دعم فرض رسوم جمركية باهظة على الواردات، أو الدعوة لترحيل ملايين المهاجرين غير الشرعيين.

الحزب العملاق العريق الذي أنتج رؤساء للجمهورية الأمريكية بأهمية أبراهام لينكولن وثيودور روزفلت ودوايت أيزنهاور، انتهى إلى كونه مجرد وسيلة يستخدمها ترامب من أجل أن يصل للحكم في المرة الأولى، وأن يحاول ذلك ثانية بعد إدانته في جرائم جنائية، ودوره في عرقلة عملية تسليم السلطة، بل والتحريض على اقتحام مقر الضلع الأهم للجمهورية، وهو الكونجرس!

أصبح الحزب الجمهوري ملكاً لترامب بعد أن اختصره في شخصه ومصلحته السياسية! لكن هذه المرة ترامب الذي يخوض الانتخابات القادمة ليس ترامب الذي خاض انتخابات 2016 أمام هيلاري كلينتون، والذي استطاع حينذاك أن يجذب قطاعات كبيرة من الناخبين الجمهوريين الذين آمنوا بأن هذا الرجل الذي لم يكن ابناً للمؤسسة الحاكمة الأمريكية قادر على "تطهير واشنطن من فسادها" وفق شعاره حينها.

كما أن ترامب في نسخة 2024 ليس ترامب الذي خاض انتخابات 2020 أمام بايدن، وبدا للجمهوريين أن بإمكانه الفوز على نائب الرئيس السابق البالغ من العمر حينها 78 سنة. ترامب بدا للبعض وقد فقد الكثير من كاريزمته التي تمتع بها في انتخابات 2016 كما أنه فقد الكثير من شرعيته السياسية بعد دوره في اقتحام مبنى الكابيتول، فضلاً عن أنه يبلغ من العمر 78 عاماً، وإذا فاز في الانتخابات فسوف يصبح الرئيس الأكبر سناً في تاريخ الرؤساء الأمريكيين، لينتزع اللقب الذي ناله جو بايدن عندما دخل البيت الأبيض في يناير 2021.

ومن اللافت أن أزمة الحزب دفعت أحد عتاة الجمهوريين وهو نائب الرئيس السابق ديك تشيني للإعلان عن عزمه التصويت لهاريس. وما كتبه تشيني في بيانه الذي نشرته وسائل الإعلام الأمريكية يلخص عمق أزمة الحزب الجمهوري، إذ يصل إلى حد القول بأنه "في تاريخ أمتنا الممتد لمئتين وثمانيةً وأربعين عامًا، لم يكن هناك فرد يشكل تهديدًا أكبر لجمهوريتنا من دونالد ترامب .. لقد حاول سرقة الانتخابات الأخيرة باستخدام الأكاذيب والعنف لإبقاء نفسه في السلطة بعد أن رفضه الناخبون .. (إن ترامب) لا يمكن الوثوق به في السلطة مرة أخرى .. كمواطنين، يقع على عاتق كل منا واجب وضع البلاد فوق الانتماء الحزبي للدفاع عن دستورنا. ولهذا السبب سأدلي بصوتي لنائبة الرئيس كامالا هاريس".

وفق كالفن دارك، والذي يعمل كمحلل لسياسات الأحزاب الأمريكية، فإن "ترامب يركز على حشد الناخبين الأساسيين بدلاً من الفوز بالناخبين المعتدلين أو المستقلين. كما تسعى حملة ترامب إلى الوصول إلى الناخبين الذين لم يدعموا الجمهوريين في الماضي، مثل الشباب الأميركيين من أصل أفريقي واللاتينيين. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر لأن هؤلاء الناخبين هم الأقل احتمالا للتصويت في الانتخابات".

أزمة الديمقراطيين

أما الحزب الديمقراطي فتمثلت أزمته في التخبط الذي أصابه بعد هزيمة هيلاري كلينتون في انتخابات 2016 أمام ترامب، ثم اختيار نائب الرئيس السابق جو بايدن في انتخابات 2020 كي يكون قادراً على إيقاف مسيرة ترامب نحو ولاية رئاسية ثانية. حينها قال بايدن الذي كان يبلغ السابعة والسبعين من العمر في تجمع انتخابي حاشد في ديترويت في مارس 2020 إنه يعتبر نفسه "جسرًا" لمن أسماهم بـ"جيل كامل من القادة" و"مستقبل هذه البلاد".

لكنه قرر أن يخوض الانتخابات القادمة مع نائبته كامالا هاريس أمام ترامب.

تزايدت الضغوط على بايدن من أجل الانسحاب من السباق الانتخابي. وأتت الضغوط من داخل قيادات الحزب الديمقراطي الذين شعروا أن بايدن أصبح عبئاً انتخابياً بسبب تقدمه في العمر وافتقاده الحيوية الذهنية التي تمتع بها خلال مناظراته التلفزيونية أمام ترامب عام 2020. تمسك بايدن بالبقاء في السباق رغم نصائح نواب الحزب في الكونغرس، خصوصاً بعد مناظرته التلفزيونية الأولى أمام ترامب في السابع والعشرين من يونيو الماضي.

حينها بدا بيدن مرهقاً أمام ترامب الذي حاول أن يستغل نقطة ضعف خصمه وهي السن، رغم أن الفارق بينهما في العمر لا يتجاوز أربع سنوات. وسائل الإعلام الأمريكية قالت إن المناظرة بين الرجلين "اتسمت بإجابات مرتبكة من قبل الرئيس الحالي، وأكاذيب وتصريحات مغلوطة من قبل سلفه".

ثم أتت محاولة اغتيال ترامب كي تصنع منه بطلاً شعبياً في أنظار مؤيديه، وأن تجعله أقرب للفوز بالرئاسة في حال استمر بايدن منافساً له. نجاة ترامب أظهرت للديمقراطيين أن بايدن سوف يصبح عنواناً متوقعاً لخسارة الانتخابات.

انسحب بايدن من السباق الانتخابي وأفسح المجال لنائبته كامالا هاريس والتي استهلت حملتها الانتخابية بالهجوم على ترامب باستخدام طريقته في مهاجمة خصومه السياسيين. شبهت هاريس خصمها ترامب بالخارجين عن القانون الذين اعتادت مقابلتهم في قاعة المحكمة عندما كانت مدعية عامة: "واجهت مرتكبي الجرائم من جميع الأنواع: المعتدون الذين أساءوا معاملة النساء، والمحتالون الذين خدعوا المستهلكين، والمخادعون الذين خالفوا القوانين لتحقيق مكاسبهم الخاصة. لذا أنا أعرف أي نوع هو دونالد ترامب".



هاريس، والتي بدت في أعين الكثيرين غير قادرة على منافسة ترامب خلال أزمة تمسك بايدن بالسباق الانتخابي، أظهرت تقدما ضئيلا في استطلاعات الأخيرة.

لكن نتائج استطلاعات الرأي لا تعني أن الحزب الديمقراطي لا يمر بأزمة. فالتباين في المواقف بين أجنحة الحزب المختلفة تجاه قضايا مثل الحرب في غزة، يصل إلى حد الانقسام. فهناك جناح تقليدي مؤمن بالانحياز الأمريكي لإسرائيل ويمثله بايدن. وهناك جناح يعتقد أنه لا يمكن تجاهل الربط بين الحرب في غزة وبين الدعم الأمريكي لإسرائيل في ظل الإدارة الديمقراطية الحالية.

هاريس اختارت أن تسير على خطى بايدن في دعم إسرائيل. ففي مقابلتها مع CNN رفضت دعوات البعض داخل الحزب بأن على واشنطن أن تعيد النظر في إرسال الأسلحة إلى إسرائيل، وقالت إنها "تدعم إسرائيل القوية" ولكن يجب التوصل إلى صفقة وقف لإطلاق النار في غزة.

تصريحات هاريس قوبلت باستهجان من الأعضاء العرب داخل الحزب. رشيدة طليب، التي تُعد أول امرأة فلسطينية أمريكية تُنتخب لعضوية الكونغرس، علقت بالقول أن تصريحات هاريس تعني أن "جرائم الحرب والإبادة الجماعية سوف تستمر"، بينما قالت مندوبة الحزب الديمقراطي في جورجيا، "تانجينا إسلام"، إنها تريد دعم هاريس لكنها تشعر بالحزن الشديد لعدم اهتمامها بالفلسطينيين، وإنه "إذا خسرت هاريس في جورجيا، فإن السبب الوحيد سيكون أن الناس لم يخرجوا للتصويت، أو أن الناس صوتوا للحزب الثالث"، وذلك في إشارة إلى تحالف مناهض للحرب في غزة مكون من حركة "الصوت اليهودي من أجل السلام" وطلاب الجامعات والمسلمين السود والمسلمين من الأعراق الأخرى والعرب.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن موقف هاريس من الحرب في غزة قد "يضر بالحزب الديمقراطي في ولاية ميشيغان المتأرجحة حيث توجد مجتمعات عربية أمريكية ومسلمة كبيرة" وفق رؤية كالفن دارك والذي يعتقد أيضاً "إن قضية الإجهاض تعمل لصالح الديمقراطيين لأنها تحشد الناخبين، وخاصة النساء، اللواتي يعارضن موقف ترامب من حقوق الإنجاب للنساء".

بالإضافة إلى الانقسام الذي يمر به الحزب بسبب الموقف من دعم إسرائيل والحرب في غزة، فإن قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة تعتقد أن الحزب الديمقراطي تحت قيادة بايدن أو مرشحته للرئاسة هاريس لم يجعل مشاكلهم الاقتصادية ضمن أولوياته بنفس القدر مثل قضايا الحق في الإجهاض وحقوق المثليين والاحتباس الحراري. ولهذا لم يكن مفاجئاً أن يتم النظر لهاريس باعتبارها "ليبرالية من سان فرانسيسكو، وسياسية تقدمية تهتم بشدة بحقوق الإنجاب والتنوع العرقي".

ما بعد الانتخابات

يعتمد مستقبل الحزب الجمهوري على المدى الطويل على نتيجة الانتخابات القادمة. وفق كالفن دارك فإن الحزب الجمهوري أمام ثلاث احتمالات. الأول هو فوز ترامب وحينها "ستصبح أيديولوجية MAGA "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" الخاصة به هي المنصة الدائمة للحزب الجمهوري وستمهد الطريق لقادة MAGA في المستقبل، مثل جيه دي فانس، لمواصلة حركة ترامب بعد ولايته الثانية.

أما الاحتمال الثاني فهو خسارة ترامب بهامش صغير، وحينها "سنرى صراعًا داخليًا على السيطرة بين الجمهوريين MAGA والجمهوريين البراجماتيين الذين سيصرون على أن الحزب الجمهوري MAGA لا يمكنه الفوز في الانتخابات." فيما الاحتمال الثالث وهو خسارة خسر ترامب بهامش كبير، حيث "سنشهد ظهور حزب جمهوري يستند إلى المبادئ الجمهورية التقليدية إلى جانب بعض عناصر أيديولوجية MAGA لاسترضاء أنصار ترامب المتشددين."

أما الحزب الديمقراطي فيبدو موحداً حول هدف وحيد وهو هزيمة ترامب في الانتخابات القادمة، وتأجيل انقساماته لما بعد الانتخابات. ولهذا فإن "الديمقراطيين التقدميين لا ينتقدون مواقف هاريس الصارمة بشأن الهجرة والشؤون الخارجية والبيئة وامتلاك الأسلحة لأنهم يعرفون أنها لا تستطيع الحصول على الدعم الواسع الذي تحتاجه للفوز إذا ركزت على السياسات ذات الميول اليسارية"، وفق رؤية دارك.

تبدو الآن الولايات المتحدة إما على موعدٍ مع سابقة تاريخية لم تحدث منذ عام 1893 عندما دخل الرئيس، جروفر كليفلاند البيت الأبيض للمرة الثانية بعد أن تركه قبلها بأربعة أعوام، ليصبح الرئيس الثاني والعشرين والرئيس الرابع والعشرين في تاريخ الجمهورية الأمريكية. أو سوف تكون على موعدٍ مع سابقة تاريخية وهي وصول أول سيدة للرئاسة في حال فوز هاريس المنحدرة من أبوين مهاجرين من الهند وجامايكا. لكن الأهم من السوابق التاريخية أن الجمهورية الأمريكية ليست بخير!

Saturday, 5 October 2024

أم كلثوم: المؤسسة العابرة للأزمنة





يحكى أن أم كلثوم استشاطت غضبًا عندما سمعت قصيدة كلب الست لأحمد فؤاد نجم. فالقصيدة التي اعتبرتها الست تجريحًا وتهجمًا عليها شخصيًا بصورة لا تليق، حوت أيضًا وصفًا دقيقًا وحقيقيًا لمكانة أم كلثوم، "في الزمالك من سنين، وفي حمى النيل القديم، قصر من عصر اليمين، ملك واحدة من الحريم، صيتها أكتر مـِ الآدان، يسمعوه المسلمين والتتر والتركمان، والهنود والمنبوذين، ست فاقت عَ الرجال في المقام والاحترام، صيت وشهرة وتل مال، يعني في غاية التمام، قصره هي كلمة، ليها كلمة في الحكومة...".

عندما كتب نجم كلمات قصيدته عن أم كلثوم، كانت الست مركزًا من مراكز التأثير في الدولة إلى الدرجة التي جعلت وكيلًا للنيابة يفرج عن كلبها الذي عض شابًا ساقته الأقدار أن يمشي أمام منزلها في الزمالك. ووفق نجم فإن وكيل النيابة كتب في حيثيات الإفراج عن الكلب وعدم توجيه أي اتهام جنائي لصاحبته، بأن إسهامات الست أكبر من أن يتم عقاب كلبها!

منذ بدأت أم كلثوم في الانتشار في منتصف عشرينيات القرن العشرين، كانت دون أن تدري تدشن عصرًا جديدًا من الغناء في مصر والعالم العربي. بعد حسم المنافسة لصالحها أمام منيرة المهدية وفتحية أحمد، انتقلت أم كلثوم من مجرد "مغنية" في مجتمع يقوده الذكور وتسوده رؤية سلبية للمرأة التي تعمل في مجال الفن، إلى جزء من المؤسسة* التي تقود المجتمع.

لم تكن المكانة التي حققتها أم كلثوم داخل محيطها الوطني أو الإقليمي مكانةً عاديةً في تلك الحقبة أو حتى بعدها، وصولًا إلى الآن. في عام 1934 غنت في حفل افتتاح الإذاعة المصرية وهو ما جعلها صوت عصرٍ سيتحكم في مزاجه العام الراديو. بعدها بعشر سنوات ستصبح "صاحبة العصمة" عندما منحها الملك فاروق وسام الكمال، المخصص لتكريم الأمراء والنبلاء وصفوة النخبة السياسية، لتكون الوحيدة التي تحصل عليه من المنتمين إلى عالم الفن، وذلك في حفل النادي الأهلي الذي أحيته في سبتمبر/ أيلول 1944 وذكرت فاروق وهي تغني يا ليلة العيد، إذ بدّلت كلام الأغنية من "تعيش يا نيل وتتهنى ونحيي لك ليالي العيد" إلى "يعيش فاروق ويتهنى ونحيي له ليالي العيد".

لكن ذلك لم يجعلها مغنية القصر. حتى في تلك المرحلة كان لدى أم كلثوم إدراك ووعي شديد الدقة بأهمية الموازنة بين الحفاظ على علاقتها بالجماهير، دون أن تكون محسوبة على السلطة، ودون أيضًا أن تناصب هذه السلطة العداء أو تتحول إلى صوت متمرد.

كانت أم كلثوم، ببساطة، هي السلطة ذاتها! حتى عندما غنت قصيدة وُلِد الهدى وفيها بيتٌ يقول "الاشتراكيون أنت إمامهم.. لولا دعاوي القوم والغلواء"، وهي لم تعرف يومًا بأنها صاحبة توجهٍ يساري، أصرت على كلمات البيت رغم طلب تغييره من القصر، في مؤشر على استقلالية قرارها الفني.

خلال حرب 1948 طلب أفراد من اللواء المصري المحاصر في قرية الفالوجة بفلسطين سماع أغنية غلبت أصالح في روحي في حفلها الذي تم نقله عبر موجات الراديو في 3 فبراير/ شباط 1949 من مسرح حديقة الأزبكية. كان حصار اللواء المصري البالغ قوامه أربعة آلاف جندي وضابط، والذي استمر لنحو أربعة أشهر، حدثًا عظيمًا في تلك الأيام.

عندما عادوا إلى القاهرة استقبلهم الملك وكرّمهم وصافحهم ضابطًا ضابطًا، وكان من بينهم جمال عبد الناصر! ثم أقامت أم كلثوم حفلًا لتكريمهم في منزلها وحضره أيضًا الرجل الذي سينهي بعد ثلاث سنوات قرنًا ونصف من الملكية. هنا أم كلثوم بوصفها جزءاً من "المؤسسة" تساهم في تكريم أبنائها العائدين للتو من جبهة القتال.

عندما استولت "الحركة المباركة" على مقاليد السلطة في يوليو 1952، أمر الضابط المسؤول عن الإذاعة المصرية بمنع إذاعة أغاني أم كلثوم باعتبارها رمزاً من رموز "العهد البائد".

ومن الطريف أن سيد قطب الذي كان مقرباً في تلك الفترة من بعض ضباط "الحركة المباركة" طالب في مجلة الرسالة "بإخراس تلك الأصوات" التي غنت للملك! في تلك الفترة كان الصحفي مصطفى أمين يرتبط بعلاقة وثيقة بأم كلثوم وبصداقة حميمة مع البكباشي جمال عبد الناصر، أقوى أعضاء مجلس قيادة الثورة والذي لم يكن معروفًا للجماهير في ذلك الوقت.

نقل مصطفى أمين الخبر لعبد الناصر الذي كان "سمّيعًا" قديمًا للست، وممتنًا لوقفتها مع لوائه المحاصر في الفالوجة. ألغى عبد الناصر القرار فورًا وعادت أم كلثوم لدار الإذاعة، لتبدأ علاقة تحالف وثيقة نادرة بين الرجل الأول في الجمهورية، وأهم سيدة بها، امتدت لثمان عشرة سنة. علاقة لم تتكرر في تاريخ الدولة المصرية الحديث منذ تأسيسها في أوائل القرن التاسع عشر.

من مفارقات التاريخ أن الصداقة بين عبد الناصر ومصطفى أمين انتهت عندما اعتقل الأخير بتهمة تجسس لصالح الاستخبارات الأمريكية. وعندما علمت أم كلثوم بخبر اعتقاله تحدثت مع عبد الناصر ودافعت عن أمين، وفي ذروة انفعالها أخبرته أنهما كانا متزوجين لأكثر من عشر سنوات، ودفعت لعبد الناصر بعقد الزواج، فألقى عليه نظرةً وطواه في جيبه.

بعدها أرسلت لأمين في السجن من يخبره أنها قد أهدته أبياتًا في حفلها الذي أقيم في نادي الضباط، وغنت فيه قصيدة الأطلال على مسامع عبد الناصر نفسه؛ "أعطني حريتي أطلق يديَّ.. إنني أعطيت ما استبقيت شيئًا.. آه من قيدك أدمى معصمي.. لِمَ أبقيه وما أبقى عليَّ"! وليس من المستبعد أن يكون عبد الناصر قد فهم رسالة الست، لم يستجب لها بالطبع ولكنه أيضًا لم يصطدم معها. كان يدرك حجم تأثيرها في العالم العربي الذي يخصص الخميس الأول من كل شهر فقط لأغانيها.

خلال تلك الصداقة الحميمة بين عبد الناصر وأم كلثوم، لم تكن الأخيرة صوتًا للسلطة أو الثورة، كما كان عبد الحليم حافظ. كانت جزءًا من "المؤسسة"، وصوتًا أكبر من أن يُصنّف كصوتٍ مصري. كان "صيتها أكتر مـ الآدان، يسمعوه المسلمين والتتر والتركمان، والهنود والمنبوذين، ست فاقت عـ الرجال في المقام والاحترام". لذا لم يكن غريبًا أن تنجو من تحولات ما حدث في 1952 أو من هزيمة النظام الموجعة في 1967.

لكن قدرة أم كلثوم على تجاوز العصور توقفت مع رحيل عبد الناصر في 1970 وتولي أنور السادات مقاليد السلطة منفردًا في 1971. رغم تأكيد جيهان السادات على العلاقة الطيبة بينها وبين أم كلثوم، فإن ما يروى يعكس حقيقة غير ذلك، وتحديدًا عندما سلمت الست على الرئيس الجديد في حفلٍ وقالت له "إزيك يا أبو الأناور"، في دليلٍ على معرفة قديمة تعود إلى الأيام الأولى للثورة. ضحك السادات وتلقى الجملة بترحاب، لكن جيهان قالت بغضب "اسمه الريس!". حينها فهمت أم كلثوم الرسالة؛ هذه العلاقة مع الرئيس الجديد لن تكون كحال سابقتها مع سلفه. اختارت الست الابتعاد، ورافق ذلك متاعب صحية وصعود لأصوات جديدة وتوهج حاد لعبد الحليم في سنوات عمره الأخيرة!

في 1975 ماتت أم كلثوم، لكن مكانتها لدى العالم العربي انتقلت إلى مرحلة أخرى!

منذ رحيلها دخلت أم كلثوم الخريطة الجينية لعقول أجيال من العرب. عند عمرٍ معين يتم تفعيل "خاصية أم كلثوم" لتصبح صوتًا  لذكريات وقصص حب قديمة! تُستدعى أغانيها في الأعمال الفنية، ويُعاد إنتاجها بأشكالٍ مختلفة، بل وتصبح أغانيها اختبارًا أساسيًا للأصوات الجديدة.

وبعد أكثر من أربعة عقود على رحيلها لا يتم التعامل مع الست باعتبارها امرأةً مؤثرة يمكن تناول سيرتها الشخصية بشكلٍ محايد أو حتى الحديث عن حياتها العائلية وقصصها العاطفية كما حدث مثلا مع عبد الحليم حافظ أو فريد الأطرش. تجاوزت أم كلثوم كل ذلك لتصبح كائناً هضم الفرق بين الرجل والمرأة، كما هضم من قبل الملحنين الكبار وكتاب أغانيها. فالأغاني تنسب لها، وحتى زمنها ينسب لها ليصبح "عصر أم كلثوم"!

—————————————————————

المؤسسةهي نخبة أو مجموعة مهيمنة تملك السلطة أو مصادر القوة والسيطرة داخل الأمةوهي أيضاً مجموعة اجتماعية مغلقة تختار أعضائها بنفسها، سواء داخل الحكومة أو في القطاعات التي تهيمن على الأنشطة الأخرى في المجتمع.

Sunday, 29 September 2024

في عين الإعصار، رعبٌ يضرب الجميع



 بعد ٣٢ عاماً من قيادته لحزب الله، جاء اغتيال حسن نصر الله  ورحيله عن المشهد السياسي اللبناني والإقليمي كي يكون الزلزال السياسي الأضخم منذ زلزال السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وهو ما سوف يترك آثاراً عميقة على مستقبل الشرق الأوسط الذي يمر حالياًً بفترة هي الأكثر عنفاً ودموية منذ عقود بعيدة وبشكل لا يمكن حتى مقارنته  بمستويات الدموية اللي رافقت الاجتياح الاسرائيلي للبنان في ١٩٨٢ وما تبعه من مجازر مثل صبرا وشاتيلا أو مقارنته بمستويات العنف التي تضمنتها الحرب العراقية الإيرانية.

قد تكون إسرائيل انطلقت من نقطة "الرد على هجوم ٧ أكتوبر" من خلال تبني فكرة القضاء على حماس وحزب الله. وهي الأهداف اللي بدت بعيدة المنال خلال الأشهر اللي تلت الحرب في غزة أو خلال حرب "السقف المتعارف عليه" مع حزب الله في لبنان. ولكن بمجرد ما بدا تحقيقاً لأهداف إسرائيل العسكرية في غزة، اتخذت قرارها بنقل الحشد العسكري باتجاه لبنان والانخراط في تحقيق الهدف الذي فشلت فيه إسرائيل في ٢٠٠٦ وهو القضاء على حزب الله.


وبالتالي انتقلت إسرائيل من نقطة "الرد على الهجوم" قبل عام من الآن، كي تصل إلى نقطة "إعادة رسم المنطقة كلها بما يضمن أمن ومصالح إسرائيل لعشرات السنين".. حدث هذا بعد تنفيذ حملة قصف على غزة يمكن مقارنتها بحملة القصف الأمريكية على طوكيو خلال الحرب العالمية الثانية والتي تركت دماراً أكبر بكثير من أي دمار ناتج عن قصف طوكيو بالقنبلة الذرية، كما فعلت واشنطن مع هيروشيما وناجازاكي.


وخلال حرب غزة كانت إسرائيل منخرطة في اشتباك متواصل مع حزب الله وبوتيرة تشمل التصعيد النوعي مثل اغتيال القيادي في حماس في الضاحية الجنوبية صالح العاروري ثم اغتيال القيادي الميداني في الحزب فؤاد شكر وغيرهم من قيادات ميدانية في بيروت وجنوب لبنان. وخلال كل ذلك كانت الرسالة الإسرائيلية الأهم لطهران هي اغتيال إسماعيل هنية في بيت آمن تابع للحرس الثوري في طهران!


المسار الجديد في الصراع بين إسرائيل وحزب الله بدأ منذ لحظة تفجير أجهزة البيجر وأجهزة الاتصالات. كانت هذه لحظة فارقة لأن حسن نصر الله تعامل معها باعتبارها هزيمة مفاجئة في الجولة الحالية من الصراع بين الحزب وإسرائيل والتي بدأت في ٨ أكتوبر ٢٠٢٣. ثم توالت الأحداث عاصفة لتنتهي باغتيال حسن نصر الله نفسه في ذروة الحرب المفتوحة بين الطرفين.


وخلال كل ذلك تعاملت سوريا مع ما يحدث باعتبارها دولة إسكندنافية تربطها حدود مع السويد. بينما اكتفت إيران ببيانات الحزن العميق والوعيد البعيد، إدراكاً من طهران بأنها مخترقة بشكل مؤلم من قبل إسرائيل وأن أي خطوة جادة لدعم حليفها الإقليمي الأهم سوف يعني رداً إسرائيلياً لن تكون قادرة على دفع تكاليفه في الوقت الحالي.


الولايات المتحدة رأت في كل ما يحدث فرصة عظيمة للوصول مع إيران إلى اتفاق كانت ترفضه الأخيرة في السابق. في اتفاق ٢٠١٥ كانت الصفقة الأمريكية الإيرانية تتعلق بالبرنامج النووي. أتى ترامب وألغى الصفقة ثم أتى بايدن وبدأ الحديث مجدداً عن صفقة جديدة تشمل البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي والنفوذ الإيراني في المنطقة من خلال حلفائها ورجالها في اليمن ولبنان والعراق وسوريا. خرجت سوريا من معادلة التحالف مع إيران بعد تفاهمات مع روسيا كي تنأى بنفسها عن الصراع الحالي، وبعد انخراطها في محاولات إعادة تأهيل نظامها ضمن المنظومة العربية الرسمية، وبالتزامن مع فتح قنوات اتصال مع الاتحاد الأوروبي. وبقي حزب الله هو الحليف الإقليمي الأهم لإيران على الإطلاق. 


تدرك إيران الآن أنّ أوراقها الإقليمية تمر باللحظة الأضعف على الإطلاق. وأنه من الأفضل الخروج بصفقة تضمن أمن النظام ومصالحه في محيطه الحيوي الضيق وليس لدى حلفائه في بيروت وصنعاء. فيما يواجه حزب الله خيارات مصيرية وتحديات هائلة بعد اغتيال عدد كبير من قادته الميدانيين والسياسيين وأهمهم على الإطلاق رمزه التاريخي حسن نصر الله. أما لبنان فيبدو قريباً من تفاعلات قد تؤدي إلى انفجار الحرب الأهلية مرةً أخرى بعد ٣٤ عاماً من توقفها!


وأمام هذه الصورة القاتمة والدموية، يعيش العالم العربي حالة من الرعب والخوف والإحساس بالانكشاف الشديد أمام إسرائيل أو الولايات المتحدة، حيث الكل يرفع شعار: الهدف هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لو بدا قليلاً وضئيلاً كي لا تنفجر فينا شاشات التلفزيون وغسالات الأطباق! لا توجد لحظة أكثر بؤساً وعجزاً ورعباً في تاريخ العالم العربي من اللحظة الراهنة!


هذه لحظة تفوقت في كابوسيتها على لحظة غزو العراق للكويت أو اجتياح إسرائيل للبنان أو حتى هزيمة ١٩٦٧.. العالم العربي الآن تجاوز القاع واقترب من مركز الأرض حيث الخوف من الاحتراق أصبح أحد الاحتمالات المتوقعة!


وهي أيضاً لحظة تأسيسية لمنطقة جديدة على نحو يمكن مقارنته بما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن هذه المرة بدون أوهام الثورة العربية الكبرى وأحلام الشريف حسين وأبناؤه في بناء دولة عربية كبيرة مستقلة.. هذه المرة هي لحظة تأسيسية لمنطقة تعمل جاهدة للحفاظ على أمن المنتجعات وموانئ اليخوت وكمبوندات السكن الفاخر المحاطة بملاعب الجولف وأشجار الأكاسيا! 








Thursday, 19 September 2024

نبوءة ديجول: "كراهية بريطانيا المتجذرة" تهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي



تم نشره يوم  الخميس 23 يونيو 2016

في السابع والعشرين من نوفمبر عام 1967، وداخل قصر الإليزيه، قال الرئيس الفرنسي شارل ديجول أمام نحو ألف شخص من الدبلوماسيين وكبار رجال الدولة الفرنسية: إن بريطانيا تملك "كراهية متجذرة" للكيانات الأوروبية. وحذّر من أن فرض بريطانيا كعضو في السوق الأوروبية المشتركة سوف يؤدي إلى تحطيمه.

قصة انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة؛ كانت بنفس قدر درامية سيناريوهات خروجها المطروح من الاتحاد الأوروبي.

ففي عام 1961 تقدمت بريطانيا بطلب الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة، وبعد ذلك بعامين رفض ديجول الموافقة على دخول بريطانيا. حاولت بريطانيا مرة أخرى وأعلن ديجول رفضه لانضمام بريطانيا في عام 1967 بالرغم من موافقة الدول الأخرى المنضمة للسوق. 

لم تستطع بريطانيا الانضمام للاتحاد إلا بعد أن ترك ديجول الحكم عام 1969، لتصبح عام 1973 دولة كاملة العضوية في السوق الأوروبية المشتركة، وجرى الاستفتاء الأول على عضوية بريطانيا في عام 1975.

كانت بريطانيا تطمع في الحصول على المزايا الاقتصادية التي توفرها السوق الأوروبية المشتركة لأعضائها، خصوصًا رفع الإجراءات الجمركية أمام التجارة بين أعضاء السوق. وكانت بريطانيا تدرك أيضًا، خطورة الابتعاد عن أي مشروع وحدة أوروبية، لأن هذا لن يؤدي سوى إلى المزيد من العزلة السياسية بعد أن خسرت مستعمراتها حول العالم.

ومن اللافت أن بريطانيا لم تكن عضوًا في التجارب الأولى للوحدة الأوروبية، مثل تجربة إنشاء تجمع للحديد والفحم عام 1952. كما لم توقع على اتفاقية روما عام 1957 والتي ضمت ست دول من أوروبا الغربية، وأسست لكيان اقتصادي لا يتم فيه فرض الجمارك على التجارة بين الدول الست. 

تبدو مشكلة بريطانيا أنها تريد أن تكون جزءًا من أوروبا، دون أن تكون عضوًا حقيقيًا فيها. فعندما اختار أعضاء الاتحاد الأوروبي الاشتراك في نظام موحد لتأشيرات الدخول، الشنجن، رفض البريطانيون الانضمام. وعندما تبنوا اليورو كعملةٍ موحدة لهم، اختار البريطانيون الاحتفاظ بالجنيه الاسترليني، والحفاظ على سلطة بنك انجلترا المركزي في تحديد أسعار الفائدة، وعدم الخضوع لقرارات البنك المركزي الأوروبي في تحديد سعر الفائدة في منطقة اليورو.

رئيسة وزراء بريطانيا خلال الثمانينيات، مارجريت ثاتشر، لخصت علاقة بريطانيا بأوروبا من خلال قول "لا" ثلاث مرات في جلسة لمجلس العموم عام 1990. كانت ثاتشر معارضة شرسة لمنح بروكسل، حيث مقر المفوضية الأوروبية، أي سلطات مركزية أو تشكيل ما يعرف باسم "الولايات المتحدة الأوروبية".

تاريخيًا لم يكن حزب المحافظين من المؤمنين بفكرة الاندماج الكامل في أوروبا أو كياناتها السياسية مثل الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن زعيم المحافظين التاريخي وينستون تشرشل كان من الذين يؤمنون بأن حل المشاكل الأوروبية لن يكون سوى بإقامة وحدة كاملة.

في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، بدأ التململ يزداد في القاعدة الشعبية للمحافظين تجاه المهاجرين من دول أوروبا الشرقية التي انضمت للاتحاد عام 2004 و2007. لمواجهة هذا التململ والضغط الشعبي، قام رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون بالتعهد بإجراء استفتاء حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في حال تم انتخاب المحافظين للحكم عام 2015. 

نقطة تفتيش على الحدود البريطانية 

كان كاميرون يعتقد أنه سيضطر للدخول في مشاورات لتشكيل حكومة ائتلافية وأن وعده الانتخابي سيكون أول الأشياء التي يمكن التضحية بها. كما أراد كاميرون أن يقضي على الأصوات المناوئة لأوروبا داخل حزبه من خلال نتيجة استفتاء شعبي سيحسم، وفق تصوره، الجدل حول أوروبا إلى الأبد.

فاز كاميرون بعدد كافٍ من المقاعد التي تمكنه من الحكم دون الدخول في ائتلاف مع الديمقراطيين الأحرار، وخلال الشهور الماضية خاض كاميرون جولات من المفاوضات الماراثونية مع زعماء دول الاتحاد الأوروبي، من أجل الحصول على صفقة تمكنه من تسويق البقاء داخل الاتحاد للبريطانيين.

وفق رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جونكر فإن كاميرون "حصل على أقصى ما يستطيع ونحن قدمنا أقصى ما نستطيع، وبالتالي لن يكون هناك المزيد من التفاوض ولن تكون هناك صفقة جديدة غير تلك التي اتفقنا عليها في فبراير.. الخروج سوف يعني الخروج"!

الصفقة التي حصل عليها كاميرون شملت نقاطًا عدة؛ أهمها أن لا يحصل المهاجرون الأوروبيون إلى بريطانيا على مساعدات حكومية إلا بعد أن يحصلوا على وظائف في الأراضي البريطانية، ويساهموا في النظام الضريبي للبلاد. كما تشمل الصفقة عدم مسؤولية بريطانيا على إنقاذ الاقتصادات التي تتعثر في منطقة اليورو. 

خلال المناظرات التي جمعت أنصار معسكر الخروج؛ وأبرزهم عمدة لندن السابق بوريس جونسون (محافظين)، وأنصار معسكر البقاء؛ وأبرزهم عمدة لندن الحالي صديق خان (عمال)، كان من المهم ملاحظة أن كلا المعسكرين لا يعبران عن الأحزاب السياسية أو التوجهات الأيدولوجية. فعدد كبير من أبرز من طالبوا بالبقاء هم من حزب المحافظين، ومنهم بالطبع رئيس الوزراء ووزير المالية جورج أوزبورن وزعيمة المحافظين في اسكتلندا روث دافيدسون. وبالتالي أظهر الاستفتاء انقسامًا داخل المحافظين. كما أن عددًا لا بأس به من البريطانيين من أصول غير أوروبية (عرب وأسيويون من شبه القارة الهندية) أعربوا عن رغبتهم في الخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى لا تقتصر الهجرة لبريطانيا على القادمين من أوروبا فقط وأن تعود لتشمل الجميع من خارج القارة الأوروبية. 

وبالتالي جمع معسكر الخروج أفرادًا من تيار اليمين المحافظ الذي ينادي "بعودة بريطانيا إلى البريطانيين"، إلى جانب أفراد من البريطانيين ذوي الأصول غير الأوروبية. كما جمع أعضاءً في حزب المحافظين إلى جانب أعضاءً في حزب العمال.

لم يعد الاستفتاء إذن ذا صبغة حزبية؛ وإنما أصبح حول رؤية الأطراف المتعددة داخل المجتمع البريطاني لشكل وموقع بريطانيا على خريطة العالم خلال العقود القادمة. وبدا أن الاستفتاء يحاول أن يعيد صياغة هوية بريطانيا والبريطانيين. هل هم أوروبيون أم لا؟

استطلاعات الرأي أظهرت أن المقيمين في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية يعتبرون أنفسهم أوروبيون، وبالتالي فإنه من المحتمل أن تحاول اسكتلندا إعادة الاستفتاء على انفصالها من المملكة المتحدة، في حال خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وذلك من أجل نيل الاستقلال والانضمام إلى الاتحاد. ما يعني أن المملكة المتحدة مهددة بالتفكك إذا ما قررت الخروج. 

أوباما في انجلترا

وبالرغم من الحساسية الموجودة لدى بريطانيا تجاه هيمنة ألمانيا على الاتحاد، فإن الخروج منه سوف يضر بمكانة بريطانيا السياسية في العالم، وتحديدًا لدى الولايات المتحدة التي قام رئيسها باراك أوباما بزيارة خاصة إلى بريطانيا من أجل حث البريطانيين على البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي.

فواشنطن ترى أن وجود بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي يعد مصلحةً أمريكية من أجل إبقاء التوازن، والحفاظ على التنسيق بين الولايات المتحدة والكتلة الأوروبية. وبالتالي لا يرغب الأمريكيون في أن يخسروا حليفهم الأهم داخل الاتحاد الأوروبي.

 وإذا بات في حكم المؤكد أن بريطانيا سوف تتأثر سلبًا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، فإن الأخير سوف يتأثر أيضًا بشدة. فالأحزاب اليمينية المتطرفة في أكثر من دولة أوروبية، لديها ذات الطموح الانفصالي، وتراقب عن كثب استفتاء الخروج البريطاني من أجل المطالبة به في دولها. وتكمن الخطورة في أن شعبية هذه الأحزاب في ازدياد، وهو ما يعني أن خروج بريطانيا من الاتحاد قد يشكل بداية انفراط عقده، وعودة القارة الأوروبية إلى عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية.

ومن المتوقع أن يكون تأثير الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي مروعًا على الصعيد الاقتصادي. فالاتحاد الأوروبي سوف يخسر شريكًا تجاريًا كبيرًا، واقتصادًا يعد خامس أكبر اقتصاد في العالم. أما بريطانيا فستخسر شريكها التجاري الأكبر، وسوف تفقد عملتها الكثير من قيمتها بسبب الخروج، وفق تصريحات رئيس بنك انجلترا المركزي. كما سينعكس الخروج سلبًا على حقوق العمال في بريطانيا والتي ينظم الاتحاد الأوروبي الكثير من قواعدها.

وقد يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى التسريع ببدء أزمة اقتصادية عالمية جديدة بسبب الأوزان النسبية الكبيرة للطرفين في الاقتصاد العالمي. أما سياسيًا؛ فسيفقد الطرفان الكثير من مكانتهما في العالم، وهو ما سينعكس سلبًا على قدرتهما في التدخل لحل النزاعات الإقليمية، أو تحقيق توازن في القوى الدولية المؤثرة سياسيًا، أمام روسيا والصين والولايات المتحدة.

لم تواجه أوروبا تحديًا يهدد كيانها السياسي الأهم في تاريخها، مثل تحدي استفتاء مواطني المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي هذه اللحظات يتذكر الأوروبيون كلمات ديجول ويقولون: ربما كان الجنرال الفرنسي العجوز على حق!

Sunday, 15 September 2024

التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب: شركة ذات مسؤولية محدودة



تم نشره يوم الأحد 20 ديسمبر 2015

خلال حرب 1991 حصلت مصر على إعفاء كبير من ديونها وعلى مساعدات ضخمة من الدول الخليجية. لكن الخطاب الرسمي كان يسوق للمشاركة العسكرية المصرية باعتبارها ضمن واجبات الشقيقة الكبرى لتحرير شقيقة صغرى من عدوان شقيقة أخرى.

عند الأزمات لا بد من التحرك للأمام. ربما مرت هذه القاعدة على ذهن المسؤولين عن صناعة القرار في الرياض عندما أعلنوا عن تشكيل تحالف "إسلامي" مكون من 35 دولة "لمحاربة الإرهاب في العالم".

فالرياض تدرك أن التنظيم الذي يسمي نفسه باسم "الدولة الإسلامية" قد بات التهديد الأخطر على أمنها الداخلي، خصوصًا وأن التنظيم استطاع أن يظهر قدرة على القيام بهجمات إرهابية حول العالم من خلال عناصر متعاطفة معه كما حدث في باريس. في نفس الوقت تعتبر المملكة السعودية إيران التهديد الأكبر لأمنها الإقليمي، خصوصًا مع التمدد الإيراني في الفراغات المحيطة بالمملكة كما حدث في اليمن وسورية والعراق.

لمواجهة هذه التهديدات كان الحل من وجهة نظر الرياض هو تشكيل "تحالف إسلامي لمكافحة الإرهاب حول العالم". عبارة تبدو قابلة للتأويل والتفسير بأكثر من طريقة. لكن ربما التأمل في الدول الإسلامية المستثناة من التحالف وأبرزها العراق وإيران، هو ما  جعل وزير الدفاع الأمريكي يصرح بأن "هذا التحالف يبدو متماشيًا مع ما كنا نحث عليه قادة الدول العربية السنية على القيام به وهو المشاركة بشكل أكبر في مكافحة داعش".

هو تحالف "إسلامي سني" بطبيعة الدول المستثناة منه. وهو تحالف يجمع دولًا تخوض حربًا باردة فيما بينها مثل مصر من جهة وتركيا وقطر من جهة أخرى. وهو تحالفٌ يأتي كي يشكل مظلة واسعة تقودها الرياض من أجل المشاركة بجنود على الأرض في مناطق لا ترغب العواصم الغربية بالانتشار بريًا فيها، مثل العراق وسوريا وليبيا.

فهل سيستطيع هذا التحالف تحقيق المهمة التي تشكل من أجلها؟

على الأرجح سيواجه التحالف صعوبات تجعل مهمته شبه مستحيلة للأسباب التالية:

​لا يوجد جيش واحد في التحالف لديه القدرة على خوض حرب برية بعيدة عن حدوده بدون دعم لوجيستي وغطاء جوي من جيش دولة كبرى مثل الولايات المتحدة. 

أولًا: الجيوش المشاركة في التحالف هي جيوش مصممة للدفاع عن حدود دولها أو القيام بمهمة حفظ الأمن الداخلي عند حدوث اضطرابات شعبية واسعة. لا يوجد جيش واحد في التحالف لديه القدرة على خوض حرب برية بعيدة عن حدوده بدون دعم لوجيستي وغطاء جوي من جيش دولة كبرى مثل الولايات المتحدة. ثم أن نتائج الحملة العسكرية السعودية في اليمن أو التحديات الأمنية التي تواجه مصر في سيناء أو التحديات التي تواجه تركيا في شمال العراق أو تلك التي تواجه باكستان في مناطق القبائل تطرح علامات استفهام حول قدرة جيوش الدول المشاركة على خوض معارك في مناطق مثل سورية أو العراق أو ليبيا أو مالي.

ثانيًا: تم الإعلان عن التحالف فجأة وبدون استشارة دول مشاركة فيه. وزير خارجية باكستان قال إنه لا يوجد علم لدى حكومته بالتحالف وأنه طلب إيضاحات من سفير باكستان في الرياض. أما ماليزيا فقالت على لسان وزير دفاعها أنها تدعم فكرة التحالف لكنها لن تشارك بقوات عسكرية فيه. أندونيسيا قالت إنها "تنتظر معرفة طبيعة التحالف العسكري الذي ستقوده السعودية". مصر لم يصدر عنها أي تصريح رسمي بالترحيب أو التحفظ. كما لم يتم معرفة رأي الحكومة المصرية في الاشتراك في تحالف عسكري مع تركيا وقطر. لكن اللافت هنا أن السعودية لم يكن لديها "جرأة" الإعلان عن مشاركة دول في التحالف مثل الجزائر وسلطنة عُمان.

تاريخيًا فإن سلطنة عُمان لا تشارك في أي تحالفات عسكرية إقليمية أو معارك خارج حدودها، وهو ما مكن القيادة العُمانية من الحفاظ على علاقات بجميع دول الإقليم خلال الأزمات الكبرى. كانت مسقط العاصمة الوحيدة التي حافظت على علاقات جيدة مع طهران وبغداد خلال الحرب العراقية الإيرانية.

كما كانت العاصمة الخليجية الثانية مع الدوحة التي حافظت على علاقات مع بغداد بعد حرب 1991 لتحرير الكويت. ولاتزال عُمان الدولة الخليجية الوحيدة التي لديها علاقات جيدة للغاية بإيران وفي نفس الوقت لديها علاقات جيدة للغاية مع الولايات المتحدة، وهو ما مكنها من لعب دور الوساطة بين الطرفين للتوصل الى الاتفاق النووي الأخير مع طهران. كما أن سلطنة عُمان أبدت تحفظها على الحملة العسكرية التي قادتها السعودية في اليمن.

أما غياب الجزائر فيطرح علامات استفهام حول قدرة التحالف على القيام بعمل عسكري بري في ليبيا دون أن تكون الجزائر حاضرة سواء بالتنسيق أو المشاركة، أو تحقيق أحد الأهداف الرئيسية للتحالف وهو محاربة "القاعدة في بلاد المغرب".

ثالثًا: في أعقاب الإعلان عن التحالف، وقبل أن يصدر أي تصريح رسمي مصري، أعلن ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز عن التكفل باحتياجات مصر من البترول لخمس سنوات. كما أعلن عن زيادة استثمارات المملكة في مصر.

كان واضحاً أن الرياض تريد قطع الطريق أمام القاهرة في حال أرادت إبداء أي تحفظ على المشاركة العسكرية تحت مظلة السعودية. لكن الأزمة المرتقبة ستكمن في كيفية تسويق القيادة السياسية المصرية لهذا التحالف داخليًا، خصوصًَا وقد بدا أن المشاركة تمت وفق "صفقة شراء" كان ثمنها معلنًا.

هذه ليست المرة الأولى التي تشارك فيها مصر في تحالف عسكري إقليمي مقابل الحصول على منافع وامتيازات. خلال حرب 1991 حصلت مصر على إعفاء كبير من ديونها وعلى مساعدات ضخمة من الدول الخليجية. لكن الخطاب الرسمي كان يسوق للمشاركة العسكرية المصرية باعتبارها ضمن واجبات الشقيقة الكبرى لتحرير شقيقة صغرى من عدوان شقيقة أخرى.

كانت المشاركة العسكرية المصرية أيضاً تحت قيادة الحليف الأكبر لمصر وهي الولايات المتحدة، وكان الهدف العسكري واضحاً وهو تحرير الكويت فقط وعدم التورط في أي عمليات عسكرية داخل حدود العراق. أما هذه المرة فالسعودية هي التي ستقود الحلف العسكري، وهو أمر سيصعب من عملية تسويقه داخليًا.

ولا تبدو القيادة العسكرية الباكستانية بعيدة عن مأزق تسويق المشاركة في التحالف داخليًا دون الحصول على "ثمن مناسب". فبرلمانها كان قد رفض المشاركة في الحملة العسكرية السعودية في اليمن، وهو ما تسبب في أزمة بين الرياض وإسلام آباد.

رابعًا: يبدو مستبعدًا أن تشارك مصر في أي عمل عسكري في "التحالف الإسلامي" دون أن تحصل على دعم هذا التحالف في القيام بعمليات عسكرية برية في ليبيا ضد تنظيم الدولة الإسلامية والتنظيمات المتطرفة المتحالفة معه. لكن هذا التحالف غير المتجانس يضم دولًا غير متفقة حول رؤيتها تجاه الأزمة الليبية. فتركيا وقطر يدعمان فصائل لا ترحب بها القاهرة. فكيف يمكن تجنب الاختلاف حول أي تحركٍ عسكري للتحالف في دولة لا يتفق حولها المشاركون في التحالف نفسه.

ومن اللافت أنه تم الإعلان عن أن التحالف مستعد لمكافحة الإرهاب في دول مثل العراق وسورية وليبيا واليمن ومصر. فهل تقبل مصر رسميًا أن تشترك قوات أجنبية في محاربة الإرهاب على أرضها؟

خامسًا: إيجاد غطاء أممي أو دولي للمشاركة العسكرية في أي دولة لمكافحة الإرهاب سوف يكون أحد التحديات الكبيرة التي ستواجه التحالف، خصوصًا عند شن عمليات عسكرية برية في دول مثل ليبيا. لكن من المرجح أنه إذا تم التحرك عسكريًا من قبل التحالف فإن ذلك لن يتم دون موافقة الولايات المتحدة، وهو ما يعني أن التحالف في حال تفعيله سوف يكون ذراعًا بريًا للقوى الكبرى الغربية في المنطقة.

تدرك الرياض أن الدول المحيطة بها تنهار وتترك فراغًا لا تستطيع أن تتمدد فيه سوى إيران وإسرائيل وتركيا. وإذا كانت الرياض لا تخشى تركيا وإسرائيل في الوقت الراهن، فإنها تعتبر طهران الخطر الأكبر الذي يتهددها، وأنه لم يعد بإمكانها التعويل على الولايات المتحدة في حماية المملكة من التمدد الإيراني بعد قرار واشنطن بالانسحاب من المنطقة والتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران.

ولا تعكس سرعة الإعلان عن التحالف "الإسلامي السني" والطريقة التي تم بها الإعلان سوى القلق المتزايد لدى الرياض حيال التمدد الإيراني من جهة وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى. لكن على الأرجح سيكون مصير هذا التحالف الإسلامي مماثلًا لمصير "القوة العربية المشتركة" التي اقترحتها مصر. محاولات يائسة لمواجهة الطوفان.

الحرب العالمية الثالثة.. هل تبدأ أم بدأت بالفعل؟


تم نشره يوم الاثنين 7 ديسمبر 2015 في موقع المنصة

بعد دقائق من بث خبر إسقاط مقاتلات حربية تركية لقاذفة حربية روسية على الحدود بين تركيا وسوريا، بدأ سيلٌ من تعليقات منصات الاتصال الاجتماعي ينظر للخبر باعتباره لحظة إشعال فتيل الحرب العالمية الثالثة.

التغريدات العربية على تويتر، والتي كتب بعضها أسماء معروفة تعمل بالإعلام والسياسة، قارنت لحظة إسقاط القاذفة الروسية بواقعة اغتيال ولي عهد النمسا في ٢٨ يونيو/حزيران عام ١٩١٤ والتي أشعلت الحرب العالمية الأولى على مدار ٤ سنوات كاملة، ومنهم من قارنها بغزو ألمانيا النازية لبولندا في مطلع سبتمبر/أيلول عام ١٩٣٩ والتي أشعلت حربًا استمرت لست سنوات ويوم واحد!

فهل حقًا ستندلع الحرب العالمية الثالثة خلال الأسابيع المقبلة؟!

هناك ٣ إجابات يمكن الحصول عليها، كل إجابة تعتمد على إيجاد تعريف لما يمكن أن يطلق عليه اسم "الحرب العالمية".

الإجابة الأولى تفترض أن حرباً عالمية ستندلع، ومن الأدق أن نسميها: "الحرب العالمية الرابعة"، إذا ما اعتبرنا أن الحرب الباردة كانت الحرب العالمية الثالثة. وتفترض تلك الإجابة أن مفهوم "الحرب العالمية" لا يقتصر على الحرب التي يتم خوضها بالأسلحة التقليدية ولكن يشمل تلك الحروب التي تشترك فيها قوى إقليمية عديدة وتكون عابرةً للقارات.

فإذا كانت جبهات الحرب العالمية امتدت من المحيط الهادي وحتى المحيط الأطلنطي مرورًا بالبحر الأبيض المتوسط، فإن الحرب الباردة كانت أيضاً عابرةً للقارات والمحيطات، بل وفي مرحلةٍ منها وهي حقبة الثمانينات امتدت لتشمل الفضاء الخارجي وحينها أطلقت عليها إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان اسم "حروب النجوم".

كانت الحرب الباردة حربًا عالمية بكل ما تعنيه تلك الكلمة جغرافيًا. لم يحدث أن تواجهت القوتين الأكبر حينها بالأسلحة التقليدية، ولكنهما تواجهتا من خلال تكديس الأسلحة النووية ونشرها في دول العالم المختلفة، ومن خلال الحروب بالوكالة وأشهرها حربي فيتنام وأفغانستان.

وما يجري في العالم اليوم من حروبٍ إقليمية كبرى مثل الحرب في سوريا أو العراق أو اليمن، وما جرى في أوكرانيا، هو إعادة إحياء لفكرة الحرب الباردة ومحاورها المتورطة في صراعات مباشرة أو عبر الوكالة.

وإذا أخذنا الشرق الأوسط كمثال للجبهة الأكثر اشتعالًا الآن على الساحة الدولية فإننا يمكن أن نرى بدايات لما يمكن أن نطلق عليه اسم "الحرب العالمية الرابعة"، حيث أكثر من دولة مشتركة فيها إما بجهدٍ عسكري في سوريا مثل روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيران والإمارات والأردن، أو بشكلٍ غير مباشر عبر تسليح ودعم فصائل المعارضة السورية مثل السعودية وتركيا وقطر. وتمتد قائمة الدول المشتركة في عمليات عسكرية في العراق لتشمل بلجيكا وهولندا وكندا وأستراليا وأسبانيا والنرويج والدنمرك.

الإجابة الثانية تفترض أن مفهوم الحرب العالمية يعني تلك الحروب الكبرى التي تعيد رسم حدود دول، وينتج عنها اختفاء بعضها وقيام دولٍ أخرى مكانها.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى رسمت بريطانيا وفرنسا خريطة الشرق الأوسط وقسمت سوريا الكبرى الى الدول التي عرفت لاحقاً كسوريا، العراق، فلسطين، الأردن، لبنان. وهي دول لم تكن منسجمة إثنياً مثل العراق، أو دينياً وطائفياً مثل سوريا ولبنان، ولم تكن دولاً لها امتدادات طبيعية مثل الأردن. لذا كان البديل هو إيجاد فكرة "الدولة الوطنية/القومية" في تلك الدول، والتي بدأت في الانهيار الكامل في أعقاب حرب العراق عام ٢٠٠٣ واستمرت في الانهيار في سوريا وليبيا.

وإذا كانت الحرب العالمية تعني إعادة رسم الخرائط، فإن حرباً عالمية "صغرى" تدور حالياً في منطقة الشرق الأوسط وتعيد رسم خرائط دوله كما لم يحدث منذ مائة عام. وهي حربٌ عالمية لأن آثارها ممتدة خارج حدودها، مثل ظواهر الهجمات الإرهابية في أوروبا أو موجات النزوح من دول المشرق العربي باتجاه الشواطئ الأوروبية أو الهجمات الإرهابية في تونس وليبيا ومصر واليمن والتي يعلن عن مسؤوليتها أفرع محلية لتنظيم ما يعرف باسم "الدولة الإسلامية".

أما الإجابة الثالثة فتفترض أن مفهوم الحرب العالمية سيكون شبيهاً بالحربين العالميتين الأولى والثانية من حيث الاستخدام الكثيف للأسلحة التقليدية والأعداد الهائلة من الجنود والمعدات.

ووفق ذلك المفهوم فإن حرباً عالمية ثالثة تبدو مستبعدة بسبب ما جرى صباح يوم ٦ أغسطس/آب عام ١٩٤٥ عندما تم إلقاء "الصبي الصغير" على مدينة هيروشيما اليابانية، وما جرى بعد هذا الصباح بثلاثة أيام عندما تم إلقاء "الرجل البدين" على مدينة ناجازاكي. حينها أدرك العالم أن عصراً جديداً من الرعب قد بدأ.

استطاعات الولايات المتحدة في لحظة أن تبيد أثر ١٤٠ ألفاً من البشر في هيروشيما، وأن تبيد أثر ٨٠ ألفاً غيرهم في ناجازاكي. لم تعد الدولة النووية الأولى في التاريخ تحتاج لآلاف الغارات الجوية لقتل مثل هذا العدد من سكان مدينتين.

ما جرى في صباح ٦ و٩ أغسطس عام ١٩٤٥ هو الذي أسس لفكرة "الردع النووي"، والتي كانت السبب الرئيسي في منع نشوب حرب إبادة بين الاتحاد السوفيتي وبين الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب الباردة. وهي أيضاً الفكرة التي نجحت حتى كتابة هذه السطور في منع نشوب حرب إبادة نووية بين الهند وباكستان.

ليس سراً أن باكستان طلبت من الولايات المتحدة أن تنقل معلومةً للهند حول برنامج صواريخها النووي. هذه المعلومة تفيد بأن إسلام آباد لا تملك رفاهية الرد على أي هجوم نووي هندي. لذا فإن من يمتلك قرار إطلاق الصواريخ الباكستانية لن ينتظر هجومًا نوويًا هنديًا، بل سيضغط الزر ويخلد للنوم إذا أحس بالخطر!

إذن فانتشار الردع النووي لدى عدد من القوى الإقليمية حول العالم هو الذي قد يمنع نشوب حرب عالمية ثالثة بالمفهوم التقليدي الذي عرفه العالم خلال النصف الأول من القرن العشرين. وهو الذي يمكن أيضاً أن يطلق سباقًا للتسلح النووي في مناطق أخرى!

أيًا كانت الإجابة التي يمكن أن تجد فيها تفسيرًا لما يحدث في عالم اليوم من صراعات إقليمية ودولية، فإنه بات من حكم المؤكد أن عالماً جديداً يتشكل الآن وأننا في لحظةٍ شبيهة بتلك التي شهدها العالم أثناء انهيار نظامه في الحربين العالميتين السابقتين.