تم نشر المقال في موقع المنصة يوم الأحد 31 مارس 2024
تبدو عودة دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة غير مستبعدة. ولأن العالم تعرف عليه خلال الولاية الأولى، فإن عودته بعد جو بايدن، تمنحنا فرصة لم تحدث من قبل مع رئيس أمريكي قادم لتوقع سياسته الخارجية تجاه مصر.
ربما علينا تذكُّر أن القاهرة راهنت على ترامب قبل دخوله البيت الأبيض رئيسًا. بدا هذا الرهان في الأشهر التي سبقت انتخابات عام 2016 الرئاسية مُستغربًا. فرغم العلاقة المتوترة بين إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فعدم إعلان الانحياز تجاه أي مرشح رئاسي أمريكي كان أحد ثوابت السياسة الخارجية المصرية.
كسرَ النظام المصري هذه القاعدة في الانتخابات التي اختار فيها الحزب الديمقراطي وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، كي تمثله أمام المرشح الجمهوري دونالد ترامب، ولعل هذا الرهان هو ما جعل السيسي أول رئيس دولة يتحدث مع ترامب هاتفيًا فور إعلانه رئيسًا قادمًا للولايات المتحدة الأمريكية.
أشاد الرئيس المحب للصفقات السياسية البراقة بالرئيس السيسي، خلال فترة وجوده بالبيت الأبيض، واعتبره شريكًا يمكن الاعتماد عليه لتحقيق تصورات إدارة ترامب في الشرق الأوسط مثل مشروع صفقة القرن لإحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
كما بدا ترامب متفهمًا لمخاوف مصر من سد النهضة الإثيوبي وتأثيره المباشر على أمنها المائي، في الوقت نفسه لم يكن حريصًا على أجندة سلفه أوباما في دعم ملفيّ حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي في الشرق الأوسط أو حتى حريصًا على الأجندة المعلنة للرئيس جورج دبليو بوش الخاصة بدعم نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.
فهل سيحافظ ترامب على نهجه تجاه مصر إذا وصل إلى البيت الأبيض للمرة الثانية؟
ربما تعتمد إجابة هذا السؤال على التحولات العميقة التي تمر بها المنطقة، خاصةً في أعقاب الحرب التي تخوضها إسرائيل في قطاع غزة، تلك الحرب التي أثرت في خطط الولايات المتحدة للانسحاب من الشرق الأوسط ونقل ثقلها العسكري لمنطقة المحيط الهادي من أجل احتواء الصين، كما تعتمد الإجابة أيضًا على أجندة المطالب الأمريكية من مصر خلال السنوات المقبلة.
ملفات ترامب المصرية
خلال سنوات حكم الرئيس السابق حسني مبارك، كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ رونالد ريجان وحتى جورج دبليو بوش تنظر للعلاقة مع مصر من خلال خمسة ملفات.
في مقدمة هذه الملفات يأتي الحفاظ على السلام مع إسرائيل، ثم ملف التعاون العسكري، وملف التعاون الأمني، وملف قدرة القاهرة على تقديم غطاء سياسي للتحركات الأمريكية في المنطقة، وآخر هذه الملفات يتضمن الاستثمار في ربط الاقتصاد المصري بالشركات الأمريكية وبالسوق الأمريكية من خلال تسهيل التصدير للولايات المتحدة كضمانة للحفاظ على التحالف السياسي.
من المرجح أن يحاول ترامب إعادة ترتيب أولويات العلاقات الأمريكية المصرية وفق ملفات المنطقة المشتعلة. وبالتأكيد عند دخوله البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2025 ستظل آثار الحرب الإسرائيلية في غزة مستمرة، حتى وإن توقفت العمليات العسكرية، وهو الأمر الذي سيدفع ترامب لإعلان موقفه من المطالبات الدولية بتنفيذ حل الدولتين بما يتضمنه من تنازلات إسرائيلية لا يريد أي طرف في المعادلة السياسية الإسرائيلية الحالية تقديمها.
من المؤكد أن ترامب سيحاول تفعيل صفقة القرن بما تتضمنه من دولة فلسطينية منزوعة السيادة وخالية من القدس أو من الأراضي التي تم احتلالها خلال حرب 1967، وهي الصفقة التي ستحتاج لغطاء سياسي من الدول العربية، في مقدمتها مصر والسعودية.
ومن المحتمل أن يحاول ترامب تنفيذ رؤية زوج ابنته ومستشاره جاريد كوشنر بشأن غزة، عندما قال في جلسة بجامعة هارفارد إن الجزء الواقع على الواجهة البحرية في غزة "قيم للغاية" لاستغلاله عقاريًا وسياحيًا، وأنه إذا كان يملك القرار في إسرائيل فإنه سيبذل قصارى جهده "لإخراج الناس من غزة وتنظيفها".
إذا تبنت إدارة ترامب رؤية كوشنر لغزة، فإن ذلك سينقل مستوى التوتر السياسي والأمني في المنطقة لمرحلة أعلى، وبالطبع سيكون مطلوبًا من القاهرة أن تنخرط في جهود إثناء ترامب عن تبني هذه الرؤية الكارثية.
المقايضات "الترامبية"!
خلال إدارة ريجان كان الدعم المصري العسكري لجهود الإدارة الأمريكية لمساندة المجاهدين في أفغانستان إحدى ثمار ملف التعاون العسكري، بينما كان الغطاء السياسي الذي قدمته القاهرة للحشد العسكري الأمريكي من أجل تحرير الكويت من الاحتلال العراقي أمرًا مهمًا لإدارة بوش، وهو ما أدى إلى إعفاء مصر من جزء كبير من ديونها العسكرية.
وخلال إدارتي الرئيس بيل كلينتون والرئيس جورج دبليو بوش، كان التعاون الأمني بين مصر ومجتمع الاستخبارات الأمريكي ملفًا يوازي في أهميته ملف الحفاظ على السلام مع إسرائيل بسبب انخراط الولايات المتحدة في حربها مع تنظيم القاعدة.
وخلال كل مراحل التحالف السياسي بين القاهرة وواشنطن، حرصت الإدارات الأمريكية على عقد اتفاقات اقتصادية لزيادة الصادرات المصرية للولايات المتحدة من أجل ضمان تحقيق الأهداف الأمريكية من العلاقة مع القاهرة [1].
تصاعد التعاون الأمني بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية خلال حكم كلينتون وبوش بسبب الانخراط في الحرب على الإرهاب وتحديدًا تنظيم القاعدة، الذي كان مخترقًا من أجهزة الاستخبارات المصرية بشكل مؤثر.
خلال إدارة أوباما تغيرت الأجندة الأمريكية للعلاقة مع مصر. فبعد الإطاحة بمبارك كان من المهم ضمان الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، بينما تراجعت ملفات التعاون العسكري والأمني في مقابل صعود ملفات جديدة مثل ملف حقوق الإنسان وملف التحول الديمقراطي، وهو ما عكسته مضامين البيانات الرسمية وتصريحات مسؤولي إدارة أوباما خلال زيارتهم للقاهرة.
أما مع ترامب فانشغلت السياسة الخارجية لإدارته في الشرق الأوسط بملف الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وبالتخبط حيال الوجود العسكري الأمريكي شمال سوريا ثم الأزمة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وبالطبع التورط في الأزمة الخليجية والتوتر الشديد في العلاقات بين حلفاء واشنطن في المنطقة، ومحاولة التسويق لصفقة القرن التي يعتبرها نهاية الصراع وربما تكون الفرصة الأخيرة!
وخلال ولايته المقبلة من المتوقع أن يعود ترامب لسياسته الأثيرة في إجراء الصفقات التي تتضمن مقايضات بين ما تريده الولايات المتحدة مقابل رغبات الطرف الآخر.
وبالطبع ستكون القاهرة في حاجة ملحة لدعم مالي كبير من أجل الخروج من أزمتها الاقتصادية العميقة. ومن المرجح أن يحاول ترامب مقايضة دعم إدارته للقاهرة من خلال المنح والمعونات الاقتصادية مقابل أن تكون شريكة في صفقة قرن جديدة في المنطقة تتضمن مقاربة "ترامبية" لحل الدولتين.
وخلال العام المقبل ستظل أزمة سد النهضة الإثيوبي حاضرةً، وهو ما سيجعل القاهرة تطلب من إدارة ترامب دعمًا لها في هذا الملف الذي تجاهلته إدارة بايدن خلال سنواتها في البيت الأبيض، وبالطبع لن يكون دعم ترامب للقاهرة مجانيًا.
لكن لن يكون ملف السد الإثيوبي هو الوحيد الذي تنتظر القاهرة موقف إدارة ترامب منه، بل ستنتظر أيضًا موقف ترامب من الأزمة السودانية، وما إذا كان سيلعب دورًا نشطًا في إنهاء القتال هناك عبر الضغط على حلفاء القوتين العسكريتين، أم أنه سيبقي على سياسة إدارة بايدن، التي اكتفت بإصدار البيانات وعقد اللقاءات، دون تحرك جدي لإيقاف القتال والبدء في مرحلة إعادة بناء الدولة في السودان.
مثلما بدا ترامب خلال سنواته الأربع في البيت الأبيض كإعصارٍ هائجٍ هدفه الإطاحة بكل التقاليد الرئاسية الأمريكية، فإن عودته المرتقبة لن تخلو من إرباكٍ لحسابات حلفائه السابقين في المنطقة، خصوصًا في ظل لحظة هي الأكثر توترًا منذ عقود.
وتبدو عودة ترامب بالنسبة للقاهرة حدثًا تتراوح النظرة إليه بين التفاؤل به بسبب ماضيه كداعم للنظام السياسي، وبين القلق من صفقاته السياسية التي تبشر بالحل الدائم ولا تنتج سوى المزيد من انفجار الأوضاع في المنطقة.
[1] Democracy Prevention: The Politics of the U.S.-Egyptian Alliance,By Jason Brownlee-Cambridge University Press