Sunday, 29 September 2013

درعُ الوطن وسيفهُ.. الحزب الأكبر في مصر

 
١

بعد سقوط صخرة عملاقة من جبل المقطم على حي الدويقة الشعبي في عام ٢٠٠٨، وقف مراسل قناة الجزيرة في ذلك الوقت، الأستاذ حسين عبد الغني، وقال أمام الكاميرا: مرةً أخرى تثبت القوات المسلحة أنها الجهة الوحيدة القادرة على إنقاذ سكان مصر من أزماتهم.. ثم انتقلت الكاميرا الى رافعات عملاقة بالقرب من الصخرة العملاقة، فيما صوت عبد الغني يقول "فقد هرعت سيارات الإنقاذ ورافعات القوات المسلحة المصرية لنجدة سكان الدويقة بعد أن أهملتهم أجهزة الحكومة لسنوات".

٢

بعيداً عن المقولات التلفزيونية المتكررة حول أن "مصر هي التي علمت العالم معنى الدولة"، وأن "مصر هي أقدم دولة في العالم"، فإن تاريخ الدولة الحديثة التي نعرفها لم يمض عليه في مصر سوى قرنين من الزمان، وتحديداً مع تولي محمد علي باشا حكم البلاد. 

وتتميز دولة محمد علي، التي لانزال نعيش في ظلها، بأنها صنعت من أجل خدمة الآلة الحربية لمحمد علي والتي تمثلت في جيش إبراهيم باشا. فكل الصناعات والمدارس والمستشفيات التي أنشئت خلال السنوات الأولى من دولة محمد علي، كانت تابعة أو خادمة لجيش إبراهيم باشا.

وقد جرى العرف خلال حكم الأسرة العلوية لمصر، أن يكون الزي الرسمي لملوك مصر هو البدلة العسكرية الموشاة بالنياشين والرتب والعلامات الحربية. وهو تقليدٌ متبع في الأسر الملكية الأوروبية.

٣

لم تعرف مصر الجمهورية رئيساً مدنياً سوى السيد محمد مرسي، والذي قال في آخر خطابٍ علني له: أنا القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأي إساءة لشخص رئيس الجمهورية تعتبر إساءة للقائد الأعلى للقوات المسلحة، والقضاء العسكري هو المكلف بمتابعتها.

وفيما عدا الرئيس السابق مرسي، فإن رؤساء مصر: اللواء محمد نجيب، والبكباشي جمال عبد الناصر، والبكباشي محمد أنور السادات والفريق محمد حسني مبارك والمشير محمد حسين طنطاوي، لديهم صورهم بالبدل العسكرية، التي استبدلوها لاحقاً بالبدل المدنية. (فيما عدا اللواء نجيب الذي داهمته الأحداث ووجد نفسه قيد الإقامة الجبرية قبل أن يستطيع ارتداء بدلته المدنية! أما المشير طنطاوي فلديه جولة شهيرة في وسط البلد بالبدلة المدنية).

وحتى مجيء مرسي الى الحكم، فإن الماكينة الرسمية والمعتمدة لصنع حكام مصر منذ محمد علي كانت الجيش. ولا يمكن التنبوء بهوية رئيس قادم، وإن كانت بعض المؤشرات تذهب في اتجاه ترجيح فرص وزير الدفاع الفريق السيسي. لكن من المؤكد، وأياً كانت هوية الرئيس القادم، فقد ترسخ لدى وجدان الشعب المصري ودوائر صنع القرار الدولية بعد خلع مرسي أن المنصب الأقوى في الدولة المصرية هو منصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، وليس منصب رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة.


٤

أكبر حزب سياسي في مصر هو حزب الجيش. لدى الجيش شعبية هائلة في مصر، تفوق شعبية أي حزب أو جماعة سياسية. وهي شعبية تم بنائها عبر سنوات من التواصل الإعلامي مع الشعب، أو عبر التواصل الفعلي على الأرض عبر مخابز الجيش، مصانع الجيش، مزارع الجيش، مستشفيات الجيش، فنادق الجيش، نوادي الجيش، متاجر تجزئة الجيش، عمارات الجيش، أراضي الجيش، سخانات المصانع الحربية، تلفزيونات المصانع الحربية، وكل ما يحتاجه البيت المصري العصري!

كما أن الشعب المصري لا يستطيع أن ينسى ملحمة الجيش الكبرى في عبور خط بارليف وتحطيم أسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر خلال معركة السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣. وهناك مدينة باسم السادس من أكتوبر، ومدينة أخرى باسم العاشر من رمضان، وهو التاريخ الهجري لملحمة العبور الى الضفة الشرقية من قناة السويس.

ولا يخلو أي بيت مصري من ذكرى جندي استشهد وهو يدافع عن التراب الوطني في معارك مصر منذ حرب ١٩٤٨. لذا فإن أي انتقاد للجيش يعد معركةً خاسرة لن تجلب سوى المزيد من اللعنات من كافة طوائف وطبقات المجتمع المصري.

تبقى ملاحظتان جديرتان بالاهتمام: الأولى أن الامبراطورية الاقتصادية للجيش المصري، والتي تشير بعض الأرقام غير المؤكدة أنها تشكل نحو ٣٠ في المئة من النشاط الاقتصادي على أرض مصر، بدأت تتضخم بشكلها الحالي في أعقاب توقيع الرئيس الراحل أنور السادات لاتفاق السلام في نهاية السبعينيات.

الملاحظة الثانية هي حفظ المؤسسة العسكرية لهيبة قادتها الراحلين والسابقين والحاليين، ودفاع أبناء المؤسسة عنهم، وذلك إيماناً بأن هيبة المؤسسة هي من هيبة هؤلاء القادة. وأن هيبة المؤسسة مقترنة بهيبة الوطن. وصولاً الى ذوبان الحدود بين الوطن والمؤسسة، والتي وصفها الرئيس السادات في خطابه الشهير الذي كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل بأنها "درع الوطن وسيفه".

٥

بسبب تاريخ مصر الحديث المقترن بالحروب مع إسرائيل، وبسبب موقعها الجغرافي المحاط بجيران لديهم اضطرابات أمنية شبه دائمة، فإن الجيش يلعب دوراً أكبر من أقرانه في الدول الأخرى.

فالجيش في مصر هو شبكة الأمان التي تسقط عليها الدولة عندما تتعرض لهزة عنيفة مثل الهزات التي حدثت في ١٩٧٧ أو ١٩٨٦ أو ٢٠١١ أو ٢٠١٣.

ولا يبدو حاضراً في الأفق أية سيناريوهات قد يكون فيها الجيش خارج المعادلة السياسية، خصوصاً بعد أن أثبت السياسيون فشلهم في الانتقال بمصر الى الديمقراطية التعددية خلال العام الذي حكم فيه الرئيس المدني المنتخب البلاد.


٦

قبل بدء المؤتمر الصحفي لمندوب سورية في الأمم المتحدة، دار هذا الحوار بين صحفي أمريكي وصحفي مصري..

S: Hello.. I am Steve from The New York Times
A: Hi Steve.. my name is Attiya and I work for Al Ahram newspaper.. you know Al Ahram?
S: Of course I know Al Ahram.. It's one of the leading newspapers in your region.
A: So, you follow what is happening in Egypt?
S: Of course Attiya.. Actually I find what's happening very confusing. So you had a military coup.. (interrupted aggressively by Attiya)
A: Sorry Mr. Steve.. It's a revolution not a coup.
S: But the Army deposed a democratically elected president!
A: Mr. Steve, this was the will of the people.
S: Any way, do you have in Egypt a functional health system?
A: Yes we do. In fact the best hospitals in Egypt and the Middle East are the Egyptian Military Hospitals.
S: Impressive! And do you have a social welfare system?
A: Yes we do. Our Army always provide the poor areas and working class neighbourhoods with free food. Not only that, but in the middle class neighbourhoods you can find bakeries and supermarkets owned by the Army, selling quality goods for very cheap prices.
S: Free Food?! This is amazing! Tell me about your industry base?
A: We have advanced industries.. In fact we manufacture the M1A1 tank and Jeep Cherokee.
S: And of course you are going to tell me that both the military tank and the civilian car are manufactured in a facility owned by the Army!
A: Yes indeed!
S: Tell me Attiya, who is the commander-in-chief of your country's Armed Forces?
A: Do you mean the commander of the Army?
S: Yes.
A: General Sisi.
S: This explains everything!
A: Tell me Mr Steve, what is the role of the US Army in shaping the policies of the United States?
S: Actually according to your definition of an "Army" Mr Attiya, I don't believe we have one!

Friday, 20 September 2013

الصراع على سورية.. رؤية روسية


أحياناً تبدو بعض الأسئلة البديهية مهمة لفهم ما يجري. وأحياناً تحمل هذه الأسئلة البديهية إجابات غير متوقعة، تساعد على فهم ما يجري.

أحد الأمثلة على فكرة طرح أسئلة "بديهية" وتلقي إجابات "غير متوقعة"، هو هذا الحوار الذي أجريته مع باحثة روسية، كتبت رسالة ماجستير عنوانها: "السياسة الروسية حول مسألة التدخل لأسباب إنسانية: ليبيا وسورية".

بالإضافة الى متابعتها اليومية والدقيقة لتفاصيل التحركات الدولية المتعلقة بالحرب في سورية، فإن هذه الباحثة لديها وجهات نظر قريبة من رؤية الإدارة الروسية.

السؤال الأول: لماذا تصر روسيا على دعم الأسد؟

في الحقيقة روسيا ليست مهتمة بدعم الأسد وإنما بدعم نظامه. والسبب لا يتعلق بالقاعدة البحرية الروسية كما هو شائع في العديد من وسائل الإعلام. فالقاعدة البحرية هناك هي مجرد ميناء بحري متواضع، لا يسمح بأن يكون لروسيا وجود بحري مؤثر في البحر الأبيض المتوسط. وفي الوقت الحالي فإن روسيا تجري مفاوضات من أجل استئجار قاعدة بحرية في قبرص. كما لا تدعم روسيا الأسد لأنه يشتري منها أسلحة روسية. على العكس من ذلك، الأسد الابن والأسد الأب لم يدفعوا ثمن السلاح الذي أخذوه من روسيا على مدى عقود. إنما السبب يتعلق برؤية روسيا للصراع في سورية، والتي تفترض أن انهيار نظام الأسد يعني بالضرورة مجيء نظام حليف للغرب. وبالتالي اقتراب الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، من المجال الحيوي للأمن القومي الروسي.

السؤال الثاني: هل روسيا قادرة على التدخل العسكري بشكل مباشر في سورية؟

بالطبع لا. الإمكانيات العسكرية الروسية تدهورت للغاية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. كل ما تستطيع روسيا فعله هو إطالة أمد الصراع في سورية عبر إمداد دمشق بالأسلحة التقليدية التي تمكن نظام الأسد من تحقيق انتصارات على المعارضة المسلحة، ولكن ليس إمداده بأسلحة تمكنه من تغيير موازين القوى مع إسرائيل. والسبب أن بوتين يرتبط بعلاقات جيدة للغاية مع إسرائيل وهو لا يريد أن يغضبها عبر إمداد الأسد بصواريخ متطورة أو بعيدة المدى أو إمداده بأحدث ما لدى الترسانة الروسية من أنظمة دفاع جوي. وهذا ينطبق أيضاً على باقي زبائن السلاح الروسي في الشرق الأوسط. لكن ما تملكه روسيا هي تلك العقلية الدفاعية التي تنتمي الى عصر الحرب الباردة والتي تعتقد أن الولايات المتحدة تسعى للاقتراب من الحدود الروسية ونصب صواريخ بعيدة المدى هناك. وهذا هو سر المعركة بين موسكو وواشنطن حول مسألة "الدرع الصاروخي" الذي تريد واشنطن نصبه في بعض الدول الأوروبية.

السؤال الثالث: كيف يمكن أن تساعد روسيا الأسد؟

بالإضافة الى إمداده بالسلاح التقليدي، فإن أكبر مساعدة روسية للأسد هي داخل أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. فالشيء الوحيد الباقي لروسيا من إرث أوراق لعب الاتحاد السوفيتي على الساحة الدولية هو حق النقض "الڤيتو" في مجلس الأمن. ولذلك تحاول روسيا أن تجعل قرارات الولايات المتحدة بالتدخل في الصراعات الدولية تمر من خلال مجلس الأمن، وذلك من أجل أن يكون لموسكو القدرة على المناورة أو التفاوض في ملفات أخرى. لكن في حال ضربت الولايات المتحدة سورية، لا يمكن لروسيا أن تحرك قطع أسطولها البحري وتشارك في القتال دفاعاً عن الأسد. والأسد يعلم ذلك، وواشنطن تعلم ذلك وموسكو بالطبع تعلم أنهم يعلمون ذلك! أكبر حلفاء الأسد على الأرض هما إيران وحزب الله. والأسد يعلم أن موسكو على استعداد للتضحية به كفرد، لو حصلت على ضمانات بأن النظام بتركيبته وتحالفاته الحالية سيبقى في الحكم.

بعد أن استمعت لإجابات الباحثة الروسية، دار في ذهني أنه ربما كانت سيناريوهات الإعلام المحلي في مصر حول "ضرورة عودة القاهرة لإقامة حلف سياسي وعسكري مع موسكو كبديل للعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة"، تنتمي الى عصر الحرب الباردة، وأن هذه السيناريوهات ربما ذهبت أبعد كثيراً من قدرات موسكو الفعلية!
  

Thursday, 12 September 2013

على هامش الجنون.. رسالة أليندي الأخيرة



في الحادي عشر من سبتمبر عام ١٩٧٣ قصفت القوات المسلحة التشيلية القصر الرئاسي الذي كان يحتمي فيه رئيس البلاد سلڤادور أليندي. 

...

" أيها الأصدقاء..

أنا متأكد من أن هذه ستكون آخر فرصة لي لأخاطبكم. لقد قامت القوات الجوية بقصف هوائيات راديو ماجلان. كلماتي لا تحمل المرارة ولكن خيبة الأمل. ربما تصبح عقاباً أخلاقياً لهؤلاء الذين حنثوا بقسمهم.

يا جنود تشيلي. القائد العام الأدميرال ميرينو الذي سمى نفسه قائداً للقوات البحرية. السيد ميندوزا، الجنرال المحترم الذي تعهد في الأمس فقط بالإخلاص والولاء للحكومة والذي نصب نفسه أيضاً قائداً للشرطة العسكرية. هذه هي الحقائق أقدمها لكم.

الشيء الوحيد المتبقي لي هو أن أقول للعمال: لن أستقيل. بوجودي في هذا الظرف التاريخي المصيري سأدفع حياتي ثمناً للولاء لهذا الشعب. و أقول لهم أنني متيقن بأن البذور التي غرسناها في وعي آلاف الآلاف من التشيليين لن تذبل إلى الأبد. إنهم يمتلكون القوة، وسيتمكنون من الهيمنة عليها، لكن التحولات الإجتماعية لا يمكن مصادرتها لا بالجريمة ولا بالقوة. التاريخ لنا.. والشعب هو صانع التاريخ.

عمال وطني، أريد أن اشكركم على الإخلاص الذي طالما حملتموه، والثقة التي وضعتموها في إنسان كان مجرد مترجم لأشواق عظيمة للعدالة. الذي منح كلمته بأنه سيحترم الدستور والقانون. هذا كل ما أنا عليه.

في هذه اللحظة المصيرية، المرة الأخيرة التي أستطيع مخاطبتكم فيها، أتمنى أن تتعلموا الدرس: رأس المال الأجنبي والإمبريالية، مع ما يجري من أحداث، خلقوا المناخ الذي كسرت فيه القوات المسلحة تقاليدها. التقاليد التي لقنها الجنرال شنيدر والقائد أرايا. ضحايا نفس الطبقة الإجتماعية التي تأمل اليوم، بمساعدة أجنبية، أن تنتزع القوة لتستمر في الدفاع عن أرباحها وامتيازاتها.

أخاطب - فوق كل شيء - أكثر نساء أرضنا تواضعاً: الفلاحة التي آمنت بنا، الأم التي أدركت اهتمامنا بأطفالها.

أخاطب حرفيي تشيلي، الحرفيين الوطنيين الذين استمروا في العمل ضد التحريض المدعوم من روابط الحرفيين والروابط الطبقية التي دافعت أيضاً عن مصالح الرأسمالية.

أخاطب الشباب، هؤلاء الذين منحونا بهجتهم و روحهم النضالية. أخاطب الرجل التشيلي، العامل، الفلاح، المثقف، هؤلاء الذين سيُضطهدون لأن الفاشية موجودة في بلدنا منذ ساعات طويلة: في الهجمات الإرهابية، تفجير الكباري، قطع السكك الحديدية، تدمير أنابيب النفط والغاز. في وجه صمت هؤلاء الذين وجب عليهم التحرك.. لقد شاركوا معهم. التاريخ سوف يحاسبهم.

راديو ماجلان سيتم إسكاته بالطبع. صوتي المعدني الهادئ لن يتكمن من الوصول إليكم بعد الآن.. هذا لا يهم.. ستستمرون في سماعه. سأبقى دائماً إلى جانبكم. ستكون ذكراي على الأقل إلى جانبكم. ذكرى رجل له كرامة ظل وفياً لبلاده.

يجب أن تدافع الجماهير عن نفسها، لكن يجب ألا تضحي بأنفسها. يجب ألا تسمح الجماهير لنفسها بأن تُدمر أو تُمزق بالرصاص، ولكن لا يمكن إهانتها أيضاً.

يا عمال وطني. أنا لدي أمل في تشيلي وفي قدرها. رجال آخرون سينتصرون على هذا الظلام و على هذه اللحظة المريرة حين سعت الخيانة إلى أن تسود.

تقدموا وأنتم تعلمون، قريباً وليس بعيداً، أن سبلاً عظيمة سوف تتفتح وسيسير خلالها رجال أحرار لبناء مجتمع أفضل.

تحيا تشيلي! يحيا الشعب! يحيا العمال!

هذه هي كلماتي الأخيرة وأنا على يقين بأن تضحيتي لن تكون هباءاً. أنا على يقين أنها على الأقل ستصبح درساً أخلاقياً سيطارد الغدر والجبن والخيانة."*

...

قتل أليندي وتولى الحكم الجنرال أوغستو بينوشيه، الذي حكم تشيلي بالحديد والنار حتى عام ١٩٨٧ عندما بدأ الانتقال الى الديمقراطية، وصولاً الى تسليم السلطة عام ١٩٨٩. 

لكن بينوشيه ظل قائداً لأركان القوات المسلحة التشيلية حتى عام ١٩٩٨، ثم عضواً في مجلس الشيوخ مدى الحياة، لتحصينه من أي ملاحقات قضائية عن مسؤوليته في قتل وخطف الآلاف من المعارضين.

ومن المهم الإشارة الى أن انقلاب بينوشيه على أليندي كان نتيجةً مباشرة للصراع بين الولايات المتحدة وبين الاتحاد السوفيتي وعصر الحرب الباردة بينهما. أليندي كان يمثل فكرة الاستقلال الوطني لبلاده والتيار اليساري، فيما بينوشيه كان ممثلاً للمصالح الأمريكية في بلاده، مؤمناً بالنيوليبرالية الاقتصادية، معتقداً أن الفاشية يمكن أن تحقق في تشيلي نتائج أفضل من الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.

...

محمد مرسي ليس أليندي. مرسي لم يحترم الدستور والقانون. مرسي لم يأتٍ بمشروعٍ اجتماعي واقتصادي من أجل مواجهة تحديات مصر الحقيقية والانتصار لحقوق الطبقة الوسطى.

كما أن بينوشيه ليس الفريق السيسي. فالمخابرات الأمريكية التي دعمت بينوشيه في الاطاحة بأليندي، لم تدعم الاطاحة بمرسي، والذي لم يقف في وجه السياسات الأمريكية في المنطقة خلال سنة حكمه. بل أنه وجد مساحات للتعاون وحاول توسيعها، سيراً على خطى الرئيس المخلوع مبارك. وتوسطه لوقف إطلاق النار بين حركة حماس وبين إسرائيل دليل، ضمن أدلة أخرى على سعيه لتمتين علاقاته مع الغرب ومع الولايات المتحدة تحديداً.

لكن المهم هنا هو ألا نكرر تجربة بينوشيه في تشيلي. فالفاشية ليست حلاً. والقمع ليس حلاً. الديمقراطية تحتاج الى الكثير من الوقت والى العمل على زيادة الوعي، والعمل على مواجهة الفقر والجهل، لكن الديمقراطية تبقى طريقاً أفضل من السير وراء أوهام الانتقام والإبادة والقمع ودروب الخوف والقهر.

اليوم تمر الذكرى الأربعون لانقلاب بينوشيه وقتل أليندي.. التاريخ لنا، والشعب يصنع التاريخ!



ترجمة الدكتور حسن حمدان لنص كلمة أليندي الأخيرة التي ألقاها عبر الاذاعة للشعب التشيلي.

Saturday, 7 September 2013

على هامش الجنون.. قتل أمة، مسح تاريخ


قبل نحو عشر سنوات، كنت أكتب عاموداً يومياً للرأي حول السينما وما يتصل بها في صحيفة خليجية. وفي أحد الأيام كتبت عاموداً تحت عنوان "قتل أمة، مسح تاريخ.."، تعرضت فيه لأرشيف التلفزيون المصري الذي تم مسحه وسرقته على مدار سنوات، دون أن يتحرك أحد. وكتبت أن المستفيد الأكبر من هذه السرقة هي إسرائيل التي تخوض صراعاً حضارياَ مع مصر رغم السلام البارد مع القاهرة.

أرسلت المقال القصير يوم الخميس ليلاً. ولما كانت الصفحة تحتجب يومي الجمعة والسبت، فقد نشر العامود يوم الأحد. ويبدو أن مدير التحرير لم يلتفت الى المضمون ودفع به الى المطبعة دون أن يدري أن لقاءً تم في باريس بين وزير خارجية هذه الدولة الخليجية ونائب وزير الخارجية الإسرائيلي سلڤان شالوم، واتفقا فيه على إعادة إحياء عملية السلام. وصدرت الصحيفة يوم الأحد وعلى صدر صفحتها الأولى صورة كبيرة تجمع بين الشخصيتين بينما في الداخل عامود رأي قصير لكاتب غير معروف ينتقد فيه إسرائيل!

مساء الأحد تلقيت اتصالاً من قيادات الصحيفة التحريرية والإدارية والمالية يحذرونني من تكرار الكتابة عن إسرائيل، ويطلبون مني بشكلٍ لطيف ومهذب الابتعاد عن السياسة والاكتفاء بالكتابة عن السينما، ويا حبذا الابتعاد عن التعرض للأفلام السياسية أيضاً..! وكانت أظرف جملة سمعتها خلال ذلك المساء البعيد: "يا أستاذ أحمد، مش عايزين صداع ووجع راس، خلينا في الفن من أجل الفن، مش من أجل القضية!". وحتى هذه اللحظة لم أفهم ما هي هذه "القضية"؟!

منذ عدة أيام قرأت عن تحقيق يجري لمعرفة من سرق غرفة نوم الملك فاروق في استراحته الأثرية في حديقة حيوانات الجيزة، واستبدلها بأثاث حديث، يبدو أنه صنع في دمياط! وأسفرت التحقيقات عن أن السرقة تمت على ما يبدو في تسعينيات القرن الماضي!

منذ عدة أيام أيضاً قرأت شهادةً لشخص كان يتردد على المتحف الإسلامي في القاهرة منذ سنوات بعيدة، ويمضي ساعات طويلة في رسم السيوف الأثرية والآثار المملوكية النادرة التي يحتويها المتحف. ثم عاد منذ فترة قصيرة ووجد أغلبها قد اختفى. سأل عنها، فأجابوه أنها في المخازن من أجل الترميم. ثم طلب من صديقة زارت قطر أن تصور له مقتنيات المتحف الإسلامي هناك. وضمن أكثر من ٣٠٠ صورة، شاهد كل الأشياء التي اختفت والتي يعرف تفاصيلها الدقيقة عبر رسوماته. وأبدى هذا الشخص حزنه في جملٍ بليغة، قال فيها: "كل اللي أعرفه إن الشعوب زي الأشجار، لما تفقد جدورها تجف وتموت! دي عملية مقصودة لقتل الشعب المصري، مع سبق الإصرار والترصد!".

وبعد قراءتي لشهادته نشرت رابطاً لها على تويتر، وفوجئت بأن صديقةً فاضلة تخبرني بأن وزيراً سابقاً للآثار كان قد أهدى مجموعات كاملة من الآثار الإسلامية الى دولة قطر، وأن ذلك أثار جدلاً كبيراً وقتها في أوساط الأثريين. وبصرف النظر عن الطريقة التي خرجت بها هذه الكنوز التي لا تقدر بثمن من مصر، فإن النتيجة واحدة.. أن هذا الشعب يتم قتله ببطء عبر مسح ذاكرته!

وقبل كل ذلك كان قد تم سرقة متحف ملوي وتخريب مقتنياته بشكل بشع، وهو ما يشكل جريمة في حق التراث الإنساني. وقبل ذلك أيضاً كان قد جرى إحراق المجمع العلمي المصري ومكتبته التي تحتوي على نوادر الكتب والخرائط التاريخية. وأبديت حينها حزني على من سقطوا في الاشتباكات التي جرت بالقرب من المجمع العلمي، كما أبديت حزني على إحراقه، لكن صوتاً جاهلاً أدعى أنني أساوي بين الكتب وبين أرواح من قتلوا..! ووفق نفس المنطق كيف يمكن فهم أن يضحي مجموعة من الناس بأرواحهم في سبيل الدفاع عن حفنة من الرمال؟!

وهناك أخبار كثيرة تحفل بها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعية عن عمليات منظمة لسرقة وتخريب المواقع الأثرية في الصعيد والتي تجري على مدار الساعة دون أي تدخل من الدولة، التي يبدو أن مفهوم الأمن لديها هو الحفاظ عليه في القاهرة والمدن الكبرى في الدلتا..!

وفي بلادٍ يبدو فيها كل شيء رخيصاً مثل البشر والزمن والتاريخ والآثار، فإن الكلام ببلاش!