قبل نحو عشر سنوات، كنت أكتب عاموداً يومياً للرأي حول السينما وما يتصل
بها في صحيفة خليجية. وفي أحد الأيام كتبت عاموداً تحت عنوان "قتل أمة، مسح
تاريخ.."، تعرضت فيه لأرشيف التلفزيون المصري الذي تم مسحه وسرقته على مدار
سنوات، دون أن يتحرك أحد. وكتبت أن المستفيد الأكبر من هذه السرقة هي إسرائيل التي
تخوض صراعاً حضارياَ مع مصر رغم السلام البارد مع القاهرة.
أرسلت المقال القصير يوم الخميس ليلاً. ولما كانت الصفحة تحتجب يومي
الجمعة والسبت، فقد نشر العامود يوم الأحد. ويبدو أن مدير التحرير لم يلتفت الى
المضمون ودفع به الى المطبعة دون أن يدري أن لقاءً تم في باريس بين وزير خارجية
هذه الدولة الخليجية ونائب وزير الخارجية الإسرائيلي سلڤان شالوم، واتفقا
فيه على إعادة إحياء عملية السلام. وصدرت الصحيفة يوم الأحد وعلى صدر صفحتها
الأولى صورة كبيرة تجمع بين الشخصيتين بينما في الداخل عامود رأي قصير لكاتب غير
معروف ينتقد فيه إسرائيل!
مساء الأحد تلقيت اتصالاً من قيادات الصحيفة التحريرية والإدارية
والمالية يحذرونني من تكرار الكتابة عن إسرائيل، ويطلبون مني بشكلٍ لطيف ومهذب
الابتعاد عن السياسة والاكتفاء بالكتابة عن السينما، ويا حبذا الابتعاد عن التعرض
للأفلام السياسية أيضاً..! وكانت أظرف جملة سمعتها خلال ذلك المساء البعيد: "يا أستاذ
أحمد، مش عايزين صداع ووجع راس، خلينا في الفن من أجل الفن، مش من أجل
القضية!". وحتى هذه اللحظة لم أفهم ما هي هذه "القضية"؟!
منذ عدة أيام قرأت عن تحقيق يجري لمعرفة من سرق غرفة نوم الملك فاروق في
استراحته الأثرية في حديقة حيوانات الجيزة، واستبدلها بأثاث حديث، يبدو أنه
صنع في دمياط! وأسفرت التحقيقات عن أن السرقة تمت على ما يبدو في تسعينيات القرن
الماضي!
منذ عدة أيام أيضاً قرأت شهادةً لشخص كان يتردد على المتحف الإسلامي في
القاهرة منذ سنوات بعيدة، ويمضي ساعات طويلة في رسم السيوف الأثرية والآثار
المملوكية النادرة التي يحتويها المتحف. ثم عاد منذ فترة قصيرة ووجد أغلبها قد
اختفى. سأل عنها، فأجابوه أنها في المخازن من أجل الترميم. ثم طلب من صديقة زارت
قطر أن تصور له مقتنيات المتحف الإسلامي هناك. وضمن أكثر من ٣٠٠ صورة، شاهد كل
الأشياء التي اختفت والتي يعرف تفاصيلها الدقيقة عبر رسوماته. وأبدى هذا الشخص
حزنه في جملٍ بليغة، قال فيها: "كل اللي أعرفه إن الشعوب زي الأشجار، لما
تفقد جدورها تجف وتموت! دي عملية مقصودة لقتل الشعب المصري، مع سبق الإصرار
والترصد!".
وبعد قراءتي لشهادته نشرت رابطاً لها على تويتر، وفوجئت بأن صديقةً فاضلة
تخبرني بأن وزيراً سابقاً للآثار كان قد أهدى مجموعات كاملة من الآثار الإسلامية
الى دولة قطر، وأن ذلك أثار جدلاً كبيراً وقتها في أوساط الأثريين. وبصرف النظر
عن الطريقة التي خرجت بها هذه الكنوز التي لا تقدر بثمن من مصر، فإن النتيجة واحدة..
أن هذا الشعب يتم قتله ببطء عبر مسح ذاكرته!
وقبل كل ذلك كان قد تم سرقة متحف ملوي وتخريب مقتنياته بشكل بشع، وهو ما يشكل
جريمة في حق التراث الإنساني. وقبل ذلك أيضاً كان قد جرى إحراق المجمع العلمي
المصري ومكتبته التي تحتوي على نوادر الكتب والخرائط التاريخية. وأبديت حينها حزني
على من سقطوا في الاشتباكات التي جرت بالقرب من المجمع العلمي، كما أبديت حزني على
إحراقه، لكن صوتاً جاهلاً أدعى أنني أساوي بين الكتب وبين أرواح من قتلوا..! ووفق
نفس المنطق كيف يمكن فهم أن يضحي مجموعة من الناس بأرواحهم في سبيل الدفاع عن حفنة
من الرمال؟!
وهناك أخبار كثيرة تحفل بها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعية عن
عمليات منظمة لسرقة وتخريب المواقع الأثرية في الصعيد والتي تجري على مدار الساعة
دون أي تدخل من الدولة، التي يبدو أن مفهوم الأمن لديها هو الحفاظ عليه في القاهرة والمدن
الكبرى في الدلتا..!
وفي بلادٍ يبدو فيها كل شيء رخيصاً مثل البشر والزمن والتاريخ والآثار، فإن
الكلام ببلاش!
بعد كل الطعنات القاتلة في البلوج جملتك الأخيرة عن الرخص دي قتلتني فعلاً! :-(
ReplyDelete