هناك بعض النقاط التي يجب ذكرها قبل الإجابة على السؤال الذي بات توجيهه لي متكرراً: أنت مع مين؟ معانا ولا معاهم؟
أولاً: أنا لست شخصية عامة أو لدي أوهام الشخصية العامة كي يكون تحديد موقفي من ما يجري مهماً. لكن ما حدث بفضل طوفان شبكات التواصل الاجتماعي أن رأي المهتمين بالشأن العام (من منازلهم) أصبح سريع الوصول لعدد كبير من الناس. وأن من بين هذا العدد الكبير من الناس من هو مهتم بتصنيفك.
ثانياً: هذا السؤال يعكس وجهاً من ضمن أوجه كثيرة، لحالة الاستقطاب الحاد التي يمر بها المجتمع المصري. وهذا منطقي ومتوقع بعد تغيير أربع رؤساء خلال أقل من ثلاث سنوات. رقم قياسي بالنسبة لأي دولة تعصف بها كل هذا القدر من الاضطرابات السياسية والشعبية.
ثالثاً: ما سأقوله ليس دفاعاً عن نفسي وإنما يمكن التعامل معه باعتباره إقراراً مني بالأفكار التي آمنت بها خلال السنوات الثلاث الماضية، والتي قد تكون محل خلاف بين الناس حالياً. كما أن السطور القادمة، ينطبق عليها كما ينطبق على غيرها، قول الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
أنا مع مين؟
في الحقيقة أنا لست مع أحد ولن أكون مع أحد بعينه. لأنني قد أقف اليوم مع أناس أعتقد أنهم على صواب، ثم تتغير الظروف فاضطر أن أقف ضدهم. لهذا فقد حسمت أمري مبكراً وقررت أن أقف مع مجموعة بسيطة من المبادئ والأفكار. ووفق هذه المبادئ والأفكار يمكن معرفة موقفي مما يجري.
أولاً: لا أستطيع بحكم جذوري العائلية التي تنتمي الى الطبقة الوسطى والتي ربما (وهذا ما لا أعلمه حالياً) كانت في أزمنة مضت تنتمي الى طبقاتٍ أفقر، أن أقف الى جانب الأثرياء أو النبلاء أو أترحم على العصر الملكي. لم يكن أحداً من عائلتي الكبيرة وزيراً للحقانية أو حاملاً للقب باشا أو نديماً لمولانا الملك أو أميراً من الأسرة العلوية أو نبيلاً من أصول تركية أو شركسية، أو كل هذه الأشياء التي يفتخر بها البعض للتأكيد على عدم انتمائهم لهذا الشعب "من الرعاع". أنا إذن من هؤلاء "الرعاع".
وبالتالي فإن تموضعي الطبيعي سيكون التعاطف دائماً مع الفقراء وغير القادرين على الوصول الى خدمات الصحة والتعليم الجيد بسبب ظروفهم الاقتصادية. وهذا التعاطف الذي ستجده موجوداً في تدويناتي، ليس حباً في الفقر أو تغزلاً في الفقراء، ولا إيماناً بفكر اشتراكي أو يساري، وإنما لأنني كنت سأكون، لولا مقادير الله، أحد هؤلاء الذين حصلوا على تعليم رديء وفشلوا في الحصول على خدمات صحية جيدة، وضاع عمرهم في البحث عن عملٍ كريم، ووصل بهم الحال الى نفس النقطة التي وصل إليها حال الكثيرين من أبناء مصر في أحيائها العشوائية وقراها النائية.
ثانياً: لا أستطيع أن أوافق على القتل أو أهلل له أو أمتدحه، بصرف النظر عن اختلافي أو اتفاقي السياسي مع المقتول.
كنت قد حذرت من وصول الإخوان المسلمين الى الحكم. وكتبت تدوينة شهيرة حملت عنوان "جمهوري إسلامي مصر" قبل الجولة الثانية من الانتخابات، أتخيل فيها حال مصر بعد عشر سنوات، في حال وصول محمد مرسي للحكم. ومن العجيب أنه هلل لهذه التدوينة ونشرها من اتهموني لاحقاً بأنني "إخوان مستتر"..!
وخلال السنة التي حكم فيها الاخوان مصر من خلال دميتهم مرسي، كتبت مجموعة من التدوينات التي حملت انتقاداً قاسياً لهم. بل وفي أكثر من تدوينة تنبأت بتدخل الجيش على النحو الذي حدث بعدها بأشهر. ولم أكن أبشر بهذا التدخل وإنما كنت أعتقد حينها، ولا أزال أحمل نفس الاعتقاد، أن تدخل الجيش لعزل مرسي لن يكون أمراً مثالياً أو جيداً على المسار الديمقراطي، ولكنه ضروري بسبب سياسات الاخوان في معاداة الجميع وما أظهروه من خطر على فكرة الدولة نفسها. كما أن هذا التدخل استدعاه مرسي نفسه عندما تخلى عن دوره كرئيس لكل المصريين وفضل أن يكون رئيساً لفصيلٍ منهم.
لكن عندما حدثت مذبحة فض رابعة، لم أستطع أن أعبر عن فرحتي وسروري في مقتل ستمائة شخص، على الرغم من اختلافي السياسي مع الحشد في رابعة واختلافي مع من دعوا للحشد واختلافي مع أهداف هذا الحشد. وفي تدوينة بعنوان "على هامش الجنون.. الإنكار لا يفيد!" كتبت أن ما حدث مذبحة وأنه لا يمكن الموافقة على قتل الناس.
على الجانب الآخر لم أستطع أن أتخيل أن هناك من يشمت في مقتل ضباط أو جنود في سيناء أو في أي بقعة من أرض مصر، أو القبول بالشماتة في اغتيال ضابط الأمن الوطني محمد مبروك. ولا أزال أشعر بالضيق الشديد من هؤلاء الذين يعتقدون أن القتل سيحقق أهدافهم السياسية أو سيدخلهم الجنة. أو أن الشماتة في الموت ستجعلهم أكثر ثورية من الآخرين!
فمع من أقف؟
بالتأكيد لن أقف مع القاتل ولن أعتبر أن فعل القتل أمرٌ يستحق الاحتفاء به!
ثالثاً: اختر طرفاً من الأطراف التالية، يمكن أن تحسب عليه: النشطاء، من يدعون أنهم يمثلون ثورة يناير، من يدعون أنهم "الفلول اللي مصلحتها على البلد"، الإخوان ومن يناصرون "الشرعية والرئيس المدني المنتخب ونضال رابعة"؟
لست ناشطاً ولم أكن يوماً ناشطاً ثورياً أو سياسياً أو رياضياً. تركت مصر وأنا ابن ثلاث سنوات، ولم أقم بها إقامة دائمة أو مؤقتة منذ عام ١٩٨٣. كنت أزورها على فترات متباعدة. لم أكن من الداعين أو المشاركين في ثورة يناير ٢٠١١ ولم أكن موجوداً حينها في مصر. كما لم أكن من الداعين أو المشاركين في احتجاج ٣٠ يونيو ولم أكن موجوداً حينها في مصر. المرة الأخيرة التي زرت فيها مصر كانت بعيد انتخاب مرسي رئيساً بأيام.
لا تربطني أي علاقات شخصية مع أي رمز ثوري أو ناشط معروف. لم أظهر في أجهزة الإعلام كمتحدث باسم ائتلاف أو حركة أو جبهة، ولم أكن عضواً في ٦ أبريل أو تمرد. كما أنني لم أوقع على استمارة تمرد. لكنني صوتت بـ"لا" على دستور الإخوان وقاطعت الجولة الأولى والثانية من الانتخابات الرئاسية.
أعتقد أنه من الظلم للنشطاء ومن يدعون أنهم يمثلون ثورة يناير ٢٠١١ أن يتم تصنيفي كواحد منهم! فأنا أكسل من أكون ناشطاً في أي شيء سوى في كتابة ما أعتقد أنه صواب!
أما بالنسبة "للفلول اللي مصلحتهم على البلد وبيحترموا اللواء البطل عمر سليمان الله يرحمه والفريق أحمد شفيق"، فموقفي من نظام الرئيس مبارك ورموزه بات معروفاً لدى الجميع. والحمد لله أنني تلقيت ولا أزال نصيبي من "جواهر وتحف" هذا الفريق الوطني المخلص.
وما ينطبق على الفريق السابق ذكره، ينطبق على فريق "الشرعية ومانديلا العرب مرسي". وقد تلقيت منهم أيضاً ما يشي بأن هناك فجوة كبيرة بين سماحة الدين الإسلامي العظيم وبين من يدعون أنهم يمثلونه!
وفي النهاية أعتقد أنه إذا كان لابد من تصنيفي، فإن السطور التي كتبتها سابقاً وأعيدها الآن هي أفضل ما يمكن أن يتم تصنيفي وفقها:
"بالرغم من كل التعقيدات المحيطة بالحالة المصرية لكن الحل يكمن في الاستجابة لثلاث كلمات، هي: الحرية، الكرامة، العدالة. فالناس بصرف النظر عن توجهاتها السياسية أو دعمها لمرسي أو مبارك أو السيسي أو أي شخص، تريد أن تشعر أنها قادرة على التعبير عن آرائها بحرية وأنه لا توجد وصاية عليهم من نظام ديني أو نظام عسكري. الناس أيضاً بصرف النظر عن توجهاتها السياسية تريد أن تشعر بكرامتها الإنسانية سواء في أقسام الشرطة أو المواصلات العامة أو العمل. الناس أيضاً بصرف النظر عن توجهاتها السياسية تريد أن تشعر أن هناك عدالة في المجتمع الذي تعيش فيها فيما يتعلق بقدرتهم على الوصول للخدمات والتعليم والصحة. الناس أيضاً بصرف النظر عن توجهاتها السياسية تريد أن تشعر أن هناك أملاً في مستقبل البلد الذي يعيشون فيه وأنه لا ينبغي عليهم التفكير الدائم في الهجرة من أجل تأمين مستقبل أبنائهم."