1
أحياناً
تكون الأرقام أكثر صدقاً في إيضاح الحقائق
من الاسترسال في الوصف.
مثلاً
عند الحديث عن دور الشرطة في المجتمع
البريطاني كجهاز خدمي، وليس كأداة قمع
سياسية كما هو حادث في عالمنا العربي
السعيد، لا بد أن نتوقف عند كيفية تعامل
الشرطة البريطانية مع الاضطرابات الأمنية
الكبرى.
بالطبع
سيتداعى الى الذاكرة المشاهد التلفزيونية
التي شاهدها الناس حول العالم لعمليات
السرقة والنهب التي وقعت في لندن ومدن
إنجليزية عدة خلال أغسطس 2011،
وعرفت باسم "شغب
لندن".
هنا
تبدو دلالة الأرقام.
فعدد
من قتلوا خلال حوادث الشغب التي اندلعت
بين السادس والعاشر من أغسطس هم خمسة
أشخاص فقط.
وجميعهم
قتلوا خلال حوادث السرقة والنهب وليس
خلال تعامل الشرطة مع جموع المشاركين في
أعمال الشغب.
أما
عدد الجرحى من الجمهور فبلغ ستة عشر شخصاً،
في مقابل مئة وستة وثمانين شرطياً، وخمسة
كلاب بوليسية.
أي
أن أعداد الجرحى من رجال الشرطة فاق أعداد
الجرحى من الجمهور، والسبب هو قواعد
الاشتباك التي اتبعتها قوات الشرطة خلال
تلك الأحداث.
فقوات
الشرطة وجدت أن أغلبية المشاركين في أعمال
الشغب هم من المراهقين المسلحين بالهراوات،
لذا فغالبية رجال الشرطة الذين نزلوا الى
الشوارع لاستعادة الأمن كانوا مجهزين
للتعامل مع أعمال شغب ولم يستخدموا الخرطوش
أو الغاز المسيل للدموع أو الرصاص الحي،
بل ولم يتدخلوا خلال عمليات النهب التي
كانت تتم أمامهم وذلك خوفا من الاحتكاك
العنيف مع المشاركين في أعمال الشغب،
واكتفوا بصنع حاجز من أجل العمل على منع
امتداد أعمال الشغب الى مناطق أخرى.
أما
جهاز شرطة العاصمة أو ما يعرف باسم
"متروبوليتان
بوليس"
فقد
استخدم شبكة الكاميرات المهولة التي
تنتشر في كل شارع وحي في العاصمة البريطانية
من أجل التعرف على المشاركين في أعمال
الشغب، والقبض عليهم بعد الانتهاء من
السيطرة على الحشود المشاركة في الشغب.
وكي
ندرك دلالة هذه الأرقام أكثر، لابد أن
نعي حجم أعمال الشغب.
فخلال
خمسة أيام بلغ عدد جرائم السرقة والنهب
التي وقعت ثلاثة آلاف وأربعمائة وثلاثة
وأربعين جريمة.
وعدد
من قبض عليهم بلغ ثلاثة آلاف ومئة شخص،
تم توجيه الاتهام إلى نحو ألف فقط، أما
الخسائر فتجاوزت المئتي مليون جنيه
استرليني.
أتذكر
أنني في ليلة الثامن من أغسطس، وتحديدا
بين الساعة الحادية عشر ليلاً ومنتصف
الليل، كنت في الطريق من بيتي الذي يقع
في جنوب شرق لندن الى العمل الذي يقع في
وسط العاصمة.
وشاهدت
مشاهد دمار مروعة في الأحياء الشرقية من
العاصمة والتي تعاني من مشاكل في التنمية
والعلاقة بين المجتمعات المحلية وجهاز
الشرطة ونسبة فقر مرتفعة.
بالطبع
ينبغي هنا أن أشير الى أن المعايير
البريطانية لهذه المشاكل تختلف كلية عن
المعايير المصرية، وربما قد يعتبر أغلب
المصريون أنها معايير تستحق أن نسعى
للوصول إليها في مصر!
في
تلك الليلة شاهدت كيف يتعامل أفراد الشرطة
البريطانية باحترافية شديدة مع أعمال
الشغب الواسعة التي اجتاحت العاصمة ومدن
إنجليزية أخرى.
وكنت
أقارن ذلك مع ما قرأته من تعامل قوات الجيش
التي نزلت الى شوارع المدن المصرية لتطبيق
حظر التجول في أعقاب أحداث الثامن عشر
والتاسع عشر من يناير عام 1977،
عندما قتل خلال يوم واحد من تطبيق الحظر
أكثر من سبعين شخصاً.
بالطبع
كنت أقارن بين ما أراه في لندن وبين ما
اختبرته بنفسي خلال فض مظاهرة في ميدان
التحرير قبل ذلك بأيام قليلة، حيث مشاهد
إمطار الميدان بكميات هائلة من القنابل
المسيلة للدموع، لتفريق بضع مئات من
المتظاهرين.
أو
تلك المشاهد السينمائية لعشرات شاحنات
جنود الأمن المركزي وهي تتمركز في الشوارع
المؤدية الى ميدان التحرير استعدادا
للهجوم على الميدان بعد الانتهاء من
الموجة الأولى من قنابل الغاز.
إنها
مشاهد، عندما تتأمل فيها، تجد أن ورائها
عقلية تفكر بطريقة حربية للقضاء على
العدو، وليست عقلية بوليسية احترافية
تسعى للسيطرة على الحشود ومنع تطور الموقف
لاشتباكات عنيفة قد تؤدي الى جرحى أو
قتلى.
من
المدهش هو كيفية تعامل جهاز الشرطة
البريطانية مع تداعيات الحدث الجلل الذي
اجتاح العاصمة.
أولى
هذه الخطوات تمثل في إنشاء وحدة من
المحققين، ينتمون الى عدة أجهزة تحقيق
مختلفة، من أجل التوصل الى معرفة الأحداث
التي أدت الى عمليات الشغب.
ثم
جرى حوار عميق في أجهزة الإعلام والصحافة
ووصل الى الأروقة الأكاديمية لبحث الأسباب
التي دفعت بحشود من المراهقين لارتكاب
أعمال الشغب العنيفة تلك، ووجدوا أن من
بين الأسباب هو تسلل ثقافة العنف الى جيل
من المراهقين البريطانين عبر ألعاب
الفيديو والأفلام، بالاضافة الى أسباب
أخرى تتعلق بالتعليم وجودته وإدماج
المراهقين في الخدمة العامة.
ومن
بين ما علمه الجمهور بعد انتهاء أعمال
الشغب أن قوات الشرطة البريطانية تم
تجهيزها برصاص بلاستيكي خلال الأحداث،
لكنها لم تطلق رصاصة واحدة، حتى ولو في
الهواء!
بل
أن أحد قادة جهاز شرطة العاصمة قال في
تصريح صحفي إن قوات الشرطة فكرت في استخدام
الرصاص المطاطي عندما تفاقمت الأحداث،
لكن ذلك لم يحدث أيضا.
2
خلال
سنوات إقامتي وعملي في العاصمة البريطانية،
تم تكليفي بتغطية أكثر من مظاهرة سياسية
تعارض الحكومة.
في
كل هذه المظاهرات كان هناك تنظيم دقيق من
قبل قوات الشرطة في كيفية توجيه الحشود
وكيفية منع أي أحداث قد تؤدي الى أعمال
عنف أو شغب.
بل
وتأمين المظاهرة من المتربصين بها من
التيار السياسي الآخر بالاضافة الى تأمين
المشاركين فيها من أي جرائم قد تتم بين
المتظاهرين.
ومن
يزور العاصمة البريطانية سيجد عددا من
الخيام المنصوبة أمام مجلس العموم
البريطاني في ميدان البرلمان والتي مضى
على نصبها سنوات، ولم يجري التعرض لها من
قبل قوات الشرطة بالرغم من أنها لا تضفي
أي "بعد
جمالي"
للميدان،
ولكنها تؤكد على قيمة أساسية من قيم
الديمقراطية البريطانية وهي حق الاعتصام
السلمي.
وربما
التظاهرة الحاشدة التي جرت ضد قرار الحرب
على العراق في الخامس عشر من فبراير عام
2003
هي
مثال على طريقة تعامل الشرطة البريطانية
مع هذه الفعاليات الضخمة.
فقد
قدر عدد المتظاهرين خلال ذلك اليوم بأكثر
من مليون شخص، تجمعوا في حديقة هايد بارك،
وساروا في مسيرات أدت الى شلل كامل في بعض
الشوارع الرئيسية لوسط العاصمة البريطانية،
وانتهى اليوم دون إصابة شخص واحد!
3
من
المعروف أن رجال الشرطة البريطانية لا
يحملون أي أسلحة نارية، وإنما يتعاملون
مع أعمال العنف عبر استخدام الهراوات
وعبوات الإسبراي وبعض مسدسات الصدمات
الكهربائية.
وفي
حال مواجهتهم موقفاً يتم فيه استخدام
أسلحة نارية، فإنه يجري استدعاء وحدات
خاصة داخل الشرطة البريطانية تحمل أسلحة
نارية نصف أوتوماتيكية.
وقد
جرى نقاش عريض داخل المجتمع حول مسألة
تسليح رجال الشرطة بأسلحة نارية كما هو
حادث في الولايات المتحدة ودول أوروبية
أخرى، وكان الرفض هو النتيجة، وذلك لأن
الدراسات أثبتت أن انتشار رجال الشرطة
المسلحين في المجتمع سيؤدي الى رفع مستوى
تسليح رجال العصابات.
ولا
تضم قوات الشرطة البريطانية، رجال شرطة
محترفين فقط، بل أن هناك رجال شرطة متطوعون
يحملون اسم "ضابط
شرطة دعم المجتمع"،
وهم متطوعون من أفراد المجتمع ويقومون
بأعمال الحفاظ على الأمن العام في الشوارع،
الى جانب رجال الشرطة المحترفين.
ويتلقون
تدريبات على أعمال الشرطة وتنظيم المرور
وحفظ الأمن وتحرير المخالفات، ويتلقون
رواتب.
لكنهم
ليسوا متفرغين للأعمال الشرطية، بل أنهم
يستطيعون الجمع بين هذا العمل التطوعي
وعمل آخر، حيث المطلوب منهم إعطاء 16
ساعة
فقط من وقتهم للعمل الشرطي كل شهر.
والهدف
من وجودهم هو إيجاد وسيلة كي يساهم فيها
المجتمع بالمشاركة في أعمال حفظ النظام
العام، بالاضافة الى تخفيف الأعباء على
رجال الشرطة المحترفين من أجل التفرغ
للتعامل مع الجرائم الأكثر خطورة.
وعادة
ما يستخدم رجال شرطة دعم المجتمع الدراجات
كوسيلة تنقل بين الأحياء المكلفين
بحمايتها.
4
الشيء
الذي قد يبدو أكثر إثارة للتأمل من كيفية
تعامل الشرطة مع الاضطرابات الأمنية، هو
كيفية اختيار قادة أجهزة الشرطة (يعرفون
باسم مفوضي الشرطة)
في
انجلترا وويلز.
فكل
قادة قوات الشرطة (فيما
عدا قائدي شرطة لندن الكبرى)
يجري
انتخابهم من قبل ضباط الشرطة في المناطق
التي يتولون مسؤولية أمنها.
أما
لندن الكبرى فإن قائدي الشرطة المسؤولين
عن أمنها، يجري تعيينهما في منصبهما من
قبل الملكة بعد توصية من وزير الداخلية
وموافقة عمدة لندن، وذلك لأن هذا المنصب
خاضع للمحاسبة من قبل سكان العاصمة، الذين
يمثلهم العمدة المنتخب.
ويجري
الإعلان عن هذه الوظيفة داخل جهاز الشرطة،
ومن يجد في نفسه الكفاءة والرغبة، يمكن
له التقدم وطرح اسمه.
والشرط
الرئيسي هو أن يكون المتقدم لهذه الوظيفة
من المواطنين البريطانيين، وهو شرط من
المرتقب التخلي عنه هذا العام.
وقد
حدث أن رئيس الوزراء البريطاني دافيد
كاميرون فكر ذات مرة في أن يكون قائد شرطة
العاصمة هو القائد السابق لجهاز الشرطة
في لوس أنجليس.
لكن
وزارة الداخلية اعترضت.
وقد
تبدو هذه الفكرة مستهجنة في مصر أو العالم
العربي وذلك لأن منصب قائد الشرطة ينظر
له كأحد المناصب السيادية التي لا يصح أن
يتولاها سوى أبناء هذا الوطن، بل والذين
أثبتوا ولائهم الشخصي للحاكم.
بينما
في بريطانيا يتولى الشخص الذي يقع عليه
الاختيار، هذا المنصب لفترة خمس سنوات
فقط، قابلة للتجديد.
وينظر
لقائد شرطة العاصمة باعتباره رئيساً
لجهاز خدمي مثل أجهزة البلدية أو الصحة
العامة.
ومن
القصص الدالة قصة استقالة مفوض شرطة
العاصمة السير إيان بلير عام 2008.
فالرجل
تم تعيينه عام 2005،
وبعد انتخاب بوريس جونسون لمنصب عمدة
لندن عام 2008،
جرى تسريب خبر للصحافة مفاده أن عقد السير
بلير الذي ينتهي في 2010
لن
يتم تجديده.
اعتبر
الرجل ذلك التسريب بمثابة تشكيك في قدراته،
فقرر الاستقالة وأعلن أن السبب هو أنه
"لا
يحظى بالدعم الكافي من قبل عمدة لندن"
والذي
يمثل سكان العاصمة، المكلف بحمايتهم
السير بلير.
5
أستطيع
أن أدعي أنني سائق جيد، يلتزم بقواعد
المرور ولا يتهور خلال السياقة.
لكنني
أتذكر حادثتين لكيفية تعامل شرطي مرور
في بلد عربي وشرطي مرور في لندن مع واقعة
القيادة عكس السير.
في
الواقعة الأولى كنت أقود سيارتي في شارع
ذو اتجاه واحد في تلك العاصمة العربية،
ووجدت رجل شرطة يشير للسيارات كي تأتي
إليه حيث يقف.
استجابت
سيارتان وكنت أنا الثالث.
وجدت
الشرطي يطلب بكل عجرفة رخصة قيادتي كي
يحرر لي مخالفة سير في الاتجاه العكسي.
حاولت
أن أشرح له أنني استجبت لإشارته كما
استجابت السيارتان اللتان سبقاني.
كان
رده "أن
المفروض هو عدم الاستجابة لهذا الفخ الذي
أراد منه اختبار قدرتنا على معرفة الاتجاه
الصحيح للشارع"!
دفعت
الغرامة وفقدت الثقة في شرطي المرور.
الواقعة
الثانية حدثت في قلب لندن حينما كنت أسير
خلف سيارة سارت في الاتجاه العكسي.
اعترضتنا
سيارة شرطة وهبط منها ضابط وأوضح لنا
خطأنا بكل أدب، ثم وجه لي لوماً مهذباً
بقوله:
"من
المفترض أن تعرف شوارع مدينتك أكثر من
هذا حتى لا تسير خلف سيارة تحمل لوحات
مرور فرنسية."
لم
يحرر لي مخالفة وأدرك أنني لم أتعمد هذا
الخطأ المروري، والمدهش أنه لم يفكر أن
السماء منحته فرصة نادرة كي ينصب لنا
"فخاً"،
يختبر من خلاله قدرتنا على القيادة في
وسط العاصمة.
بقيت
واقعة أخيرة.
كنت
أقود سيارتي على الطريق السريع وفجأة
ظهرت سيارة شرطة وكتب على شاشة الكترونية
مثبتة على زجاجها الخلفي:
لا
تتجاوز مركبة الشرطة التي أمامك.
بدأت
سيارة الشرطة في إبطاء حركة السير ثم
توقفت، وتوقفنا.
كان
موقعي هو الأول من جهة اليمين.
بالرغم
من الأمطار الغريزة التي كانت تهطل، وجدت
ضابط شرطة يهبط من سيارته ويأتي نحوي
ويقول:
لقد
قمت بإيقاف السير لأن هناك حادثة بعد
خمسين ياردة.
بقدر
كبير من السذاجة التي تعبر عن موروث ثقافي
سألته:
لم
تقوم بإخباري تلك المعلومة؟ أجاب:
لأن
من حقك أن تعلم.
ملحوظة: هذه التدوينة كتبت لصفحة المعصرة التي يكتبها الصديق العزيز بلال فضل ويرسمها المبدع عمرو سليم، وقد نشرت في صحيفة الشروق في ١٣ فبراير ٢٠١٣.