Friday 27 January 2012

أمل يغادر الميدان الى وجهة غير معلومة

REUTERS/Amr Abdallah Dalsh

مرت سنة. وإن عدتم عدنا. عادوا الى سيرتهم الأولى وعدنا الى الميدان. والميدان عبقري! في مساحة محدودة من الأسفلت والرصيف الحجري يمكن أن ترى مصر بعينيك، وتسمع صوت مصر بأذنيك. وهذه ليست جملة بلاغية وإنما حقيقة علمية ملموسة.


فمن هي مصر؟


في اللحظات التي كان فيها ميدان التحرير يوم 8 فبراير 2011 يهتف بصوت واحد: "ارحل.. ارحل.."، أو يردد النشيد الوطني، كان يمكن أن تسمع صوتاً لشاب في الرابعة والعشرين من العمر. شاب غاضب ولكن في صوته نبرة أمل. هو غاضب لأنه خرج الى الحياة يوم 25 يناير عام 1987 وكانت صورة الرئيس المعلقة في مكتب الوحدة الصحية التي استخرج منه أباه شهادة ميلاده هي للسيد محمد حسني مبارك.


عندما بدأ هذا الطفل مسيرته مع التعليم الحكومي عام 92، كانت الصورة المعلقة في مكتب الناظر هي للسيد محمد حسني مبارك، رئيس الجمهورية.



بدأ وعي الطفل في التفتح وهو ابن عشر سنين (1997)، عندما كان يسترق السمع لأحاديث أبيه مع رفاقه المجتمعين في صالون البيت. كان يحاول أن يربط بين جمل فيها أجزاء من تاريخ لم يعشه. "فاكر لما نزلنا في يناير 77؟"، "كانت الدنيا برد بس الشوارع كانت مليانة". "أهو مات وسابلنا البقرة دة من بعده!". "ابن اللذينا مش مخللي حد جنبه في الصورة! من ساعة ما شال أبوغزالة وكل اللي حواليه مجرد أراجوزات!". "أهو خرب الحياة الحزبية وبيذلنا بأنه عمل مجاري وخللى عمرو دياب يغني في دورة الألعاب الأفريقية! (ضحك جماعي)".


بعد ثلاث سنوات، وتحديدا عام 2000، أدرك هذا الطفل/المراهق أن ما يتحدث عنه أباه ورفاقه، ويرى صورته في كل صحيفة يومية ونشرة إخبارية تلفزيونية أم إذاعية! هو السيد محمد حسنى مبارك رئيس الجمهورية. وجه بارد لرجل لم يعرف عنه أنه امتلك كاريزما في يومٍ من الأيام، أو كان صاحب موقف جعل الأمة تقف وراءه وتقول أنه يمثل رغبتها في الاستقلال الوطني أو حلمها في امتلاك مشروعٍ تتركه للأجيال القادمة.


محمد حسني مبارك، هو رجل اللحظة الراهنة بامتياز! لا يفكر في الماضي ولا يهتم بالتاريخ، وغير مهموم بالمستقبل، ولا حتى لديه رغبة في ترك إرث سياسي تتحدث عنه الأجيال المقبلة من أبناء وطنه، أو مشغول بأن يكتب عنه المؤرخون بتقدير وحفاوة. هو وجه بارد لرجل يمكن أن تكون كريماً معه إذا وصفته بـ"الممل".


منذ عام 2000، وحتى عام 2011، تحول الطفل الى شاب متعلم. خريج كلية التجارة، جامعة القاهرة وبالطبع لا يجد عملاً. قصة من فرط تكرارها أصبحت فلكلوراً شعبياً يروى على المقاهي، وتتحدث فيه الأمهات عندما يلتقين عند بائع الخضار أو خلال رحلتهن الى الجزار، إذا كن من القلة المحظوظة التي لديها القدرة المالية على القيام بهذه الرحلة.


لكن الذي جعل قصة هذا الشاب، وقصة أبناء جيله، مختلفة عن قصص جيل أبيه، أنه للمرة الأولى منذ ستين عاماً أصبح حكم البلاد محصورا في أسرة بعينها، وأصبح اسم الحاكم القادم معروفاً وأمراً يروج له على نطاق واسع باعتباره "الخيار الأكثر ملائمة لظروف مصر والذي سيضمن استقرارها".


لكن "ولي العهد" ورث انعدام الكاريزما من أبيه، كما ورث "احتقاراً لأبناء شعبه" من أمه! صاحب ابتسامة ميكانيكية وعينين باردتين وكأنه "قاتل محترف" يتكسب رزقه من قتل الناس! لديه استعداد فطري لبيع أي شيء بأي ثمن، سواء أكان أسهماً في شركة أو حصصاً في مجموعة مالية أو شعباً في وطن، أو وطناً كاملاً مقابل الوجاهة الرئاسية.


وشعوره هذا عبر عنه في أكثر من مناسبة عندما اجتمع مع مسؤولين في الإدارة الأمريكية وأخبرهم برغبته في وراثة كرسي أبيه، وعندما سأل عن استعداد الشعب المصري لقبول ذلك، أجاب: "ليس مهماً موافقة الشعب المصري على هذا الأمر. المهم الحصول على موافقتكم وموافقة إسرائيل. وقد حصلت على الثانية وتبقى لي الحصول على الأولى!".


لذا فعندما هبط صاحبنا الى الشارع لأول مرة في الخامس والعشرين من يناير 2011 ثم مرة أخرى في الثامن والعشرين من يناير.. ثم لم يغادر الى منزله إلا في الساعات الأولى من الثاني عشر من فبراير، فإنه فعل ذلك لإدراكه بأن مستقبله لعشر سنوات مقبلة سيكون أسوأ من العشر سنوات التي مضت من عمره!


فما رآه من تعذيب مورس من قبل ضابط شرطة قسم الحي الذي يقيم فيه بحق ابن بواب عمارتهم، للاشتباه بأن وراء سرقة سيارة ابنة عميد الشرطة جارهم، سيتضاعف في السنوات المقبلة وسيصل إليه!


كما أنه من المستبعد كثيراً أن يجد عملاً في السنوات القادمة، وإذا حدث ذلك فلن يكون أفضل من صديقه الذي قبل أن يعمل مندوباً لمبيعات منتجات لا يرغب أحد في شرائها، ولا يستطيع على شرائها أحد! دائرة مفرغة من العبثية التي تودي الى الجنون أو الى الانتحار، كما فعل صديقه الآخر ذات يوم غائم، وترك في حلقه طعماً مراً من الإهانة الشخصية.


لم يعد هناك شيء كي يغير به من مستقبله سوى النزول الى الشارع والهتاف ثم الهتاف، ثم الصمود أمام الرصاص الحي، ثم الهتاف، ثم الصمود وسط الحصار والبرد وقلة الأكل وتشويه السمعة في الإعلام، ثم الهتاف، ثم الصمود أمام غزوة من راكبي الجمال والأحصنة، وكأن الزمن قد عاد ألفي عام الى الوراء، ثم الهتاف ثانية حتى رحيل الفرعون وولي عهده ووزيره الأول وكبير العسس.

by: Telemachus Stavropoulos 


تحقق ما كان يبدو أكثر جموحاً من الخيال وذهب الفرعون وحاشيته الى الجحيم (يعرف الجحيم هذه المرة باسم منتجع شرم الشيخ الرئاسي) وعاد الشاب الى منزله وهو يحمل شيئين: الأول: أمل في الغد بحجم الحلم الذي تحقق. الثاني: ثقة بأن من تولوا أمر البلاد والعباد سيكونون أوفياء لتضحيات أسلافهم والتي لا تقل عن تضحيات من هبطوا الى الشوارع للمطالبة بـ"العيش والحرية والعدالة الاجتماعية".


لكن الأمل قتل برصاصة حية من بندقية قناص، يعرف إعلاميا باسم الطرف الثالث. أما الثقة فتحطمت كلوح زجاج هوى على قطعة كسر رخام باردة!


هبط الشاب الى الشارع ثانيةً وما كاد يشترك في الهتاف الجماعي حتى أحس بقطعة معدنية ملتهبة وهي تحرق صفاً من خلايا مخه، ورأى ومضة من ضوء مبهر، لم يراه من قبل، أعقبه شريط سريع متتابع من صور عشوائية ليس بينها رابط.


صورة صديقه الذي انتحر بالأبيض والأسود في الصفحة قبل الأخيرة من الأهرام. غرفته التي لم يحرص على ترتيبها يوماً. وجه ابن البواب وقد تورمت عيناه. مذيعان في برنامج يومي وهما يتحدثان عن حكمة السيد الرئيس ورؤية السيد أمين لجنة السياسات. سلالم العمارة التي يقطن بها وتحديدا السلمة المشروخة في الطابق الثالث. الكرسي المفضل لديه في المقهى الذي اعتاد على الذهاب إليه لمشاهدة ماتشات فريقه المفضل (الأهلي). قلمه الذي اعتاد أن يكتب به ملاحظات على هامش الكتب التي يقرأها. صورة رسمية باهتة للسيد الرئيس معلقة في غرفة ناظر المدرسة. وجه أباه مبتسما وهي يتلقى خبر قدومه الى الحياة قبل أربعة وعشرين عاماً.


لا أحد يعرف ما الذي رآه "أمل" بعد هذا الشريط السريع من الصور. ولكن من المؤكد أنه أدرك في تلك اللحظة الحكمة من وراء قرار أبويه المشترك بإطلاق هذا الاسم عليه. وربما سمع أيضا كلمتين ألقاهما رجل كان يحمل نفس اسمه. "لا تصالح". سمعها قبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة.


في المساء، وفي شريط الأخبار على شاشة قناة إخبارية كتب: مقتل خمسة وإصابة سبعة خلال مواجهات بين متظاهرين وقوات الأمن في شارع محمد محمود * رئيس الوزراء الإيطالي يعرب عن تأييده الحذر لفكرة إصدار سندات مشتركة لدول منطقة اليورو * دوري أبطال أوروبا: تشيلسي وآرسنال يتطلعان للدور الثاني على حساب باير ليفركوزن ودورتموند


Sunday 22 January 2012

رد بدون تعقيب، وحديث متصل حول الاقتصاد المصري


نشرت جريدة الوفد على بوابتها الالكترونية دراسة للصديق أحمد سرحان بعنوان "عيش، حرية، عدالة اجتماعية. علامة استفهام".

وأثارت الدراسة علامات استفهام حول ما تردد حول الاقتصاد المصري بعد الخامس والعشرين من يناير، وتعرضت لنقاط بالغة الأهمية مثل العدالة الاجتماعية خلال عصر مبارك. وقد قمت بالرد عليها من خلال تدوينة حملت اسم "الثورة وتراكم الثروة.. وأوهام الاقتصاد المزدهر". وقد كان الصديق أحمد سرحان كريما في الرد على هذه التدوينة في مجموعة من التعليقات القيمة التي تستحق القراءة والتمعن فيها والتفكير فيما تحمله.. وقد أرتأيت دون أن أستأذن صديقي الكريم في أنشر رده في تدوينة، دون أن ألحق رده بتعقيب كي تتاح للجميع فرصة قراءة رده والحكم على السجال المتواصل حول الاقتصاد المصري في عصر مبارك.

وقبل أن تقرأوا رد الصديق الكريم أحمد سرحان، أجد نفسي مديناً بشكر عميق على هذا الرقي الذي أظهره في السجال حول الاقتصاد المصري، حتى وإن اختلفت الرؤى.

"أولا، أشكرك يا أحمد على وقتك ومجهودك و قبل ذلك اهتمامك بكتابة رد و تعليق على ما كتبته أنا. فهذا يعني ان الهدف الذي من ورائه كتبت قد تحقق – و هو أن نثير نقاشا خارج الصندوق و تفكيرا خارج النمط السائد، بغض النظر عما اذا كان كلامي مقنعا أم لا. المهم أن نتحاور و نتناقش من أجل مصر و مستقبلها. رغم أن لي عتابا أن تعليقك على ما ورد في بحثي من أرقام و مؤشرات لم يعتمد على مقارعة الحجة بالحقة و تفنيد الرقم بالرقم بل اعتمد في اغلبه على حديث مرسل مكرر من نفس خطاب الاعلام في السنوات الأخيرة. و قد كنت أكتب مفالي من أجل أن ننطلق في نقاشات علمية بدلا من حديث الصحافة الذي يعتمد على اكليشيهات محفوظة و مكررة.

لمذا أشعر يا صديقي بأنك "خلعت" بعض الجمل في بحثي من سياقها؟ مثلا، حديثي عن خطاب الحزب المنحل و حكومته الساقطة و عدم قدرتهما على التواصل مع الشعب واشراكه في القرارات و الخيارات – هذا أعني به المشاركة السياسية الديموقراطية السليمة.. بينما أنت اعتقدت أنها تعني حوارات قيادات الحزب التليفزيونية. عموما، هذه الحوارات في نظري دليل فشلهم و عجزهم، وهي بالتأكيد ليس ما كنت أعنيه.

أما أموال التأمينات، فقد جاء 3 وزراء مالية بعد يوسف بطرس غالي و جاءت وزيرة للتأمينات خصيصا، وكلهم لم يجدوا في تركة الوزير ما يسوغ لهم مهاجمته او التشهير به. و كلهم أكدوا ان اموال التأمينات – عكس ما يشاع في اعلامنا المهترئ الجاهل – لم تمس و أنها على العكس قد ارتفعت استثماراتها (لا داعي للدخول في الأرقام و التفاصيل المالية و المحاسبية). تستطيع أن تجد المزيد هنا:

http://egyptconsultant.blogspot.com/2011/09/453.html

الهدف هو فهم الواقع للعمل على تحسينه مستقبلا. لا يهمني ان كان قياس العدالة يظهرنا في موضع جيد أو سئ. المهم أن نتمكن من قياسها علميا لتكون نقطة مرجعية نقيم بها تطورنا و أداءنا مستقبلا. سنضطر لاتخاذ قرارات صعبة بخصوص الدعم والانفاق الحكومي، ولابد أن نفهم تاثير ذلك على العدالة الاجتماعية والفروق بين الطبقات. كيف نفهم اذا لم نتمكن من القياس اليوم و امس و غدا؟ أريد أن أفهم ماهو مستوى العالة الاجتماعية المستهدف مستقبلا؟ أريد أن أعرف كيف سيؤثر النمو الاقتصادي على الفروق بين الطبقات كما حدث في الصين و البرازيل و تركيا؟ ان الذين خرجوا يوم 25 يناير يهتفون بالعدالة الاجتماعية هم من الطبقات العليا المتوسطة و ليسوا الفقراء: هل يدركون أن هذا الهتاف يعني أن نأخذ من أموالهم و ثرواتهم هم و ليس غيرهم و نعيد توزيعها على الطبقات الأدنى؟ على أية حال، لا احد ينكر أن عصر عبدالناصر كان يشهد عدالة اجتماعية أفضل مما نراه اليوم، ولكنها عدالة تساوى فيها الشعب المصري في الفقر والحاجة ومحدودية الفرص . وقد صدق من قال: المساواة في الظلم عدل.

على أية حال، المستقبل هو المهم. و كوني لم أكتب هذا الكلام سابقا و كتبته اليوم دليل على انني لم استفد منهم ابدا و لست أدافع عن أحد.. بل أدافع عن مبدأ.. و عن المستقبل. ولذلك فانني أعتقد أنه لم يكن ينبغي ابدا مقارنة كلامي بكلام أحمد عز و أحاديث جمال.

علمتنا تجارب الدول الاخرى (كما ذكر هنتنجتون في كتابه الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي و كذلك قال فريد زكريا في كتابه مستقبل الحرية) أن تحسن الأحوال الإقتصادية يرفع من درجة وعي المواطنين بحقوقهم الأساسية. لقد توسعت الطبقة الوسطى في مصر و ارتفعت معها طموحاتها الاقتصادية و كذلك السياسية بشكل تجاوز ما كان يسمح به النظام القائم. فرغم كل ما حققه هذا النظام الا أن خطابه السياسي فشل تماما في تسويق ما أنجزه، كما أن تركيبته السياسية فشلت في استيعاب طموحات ابناء الشعب. لقد حاول النظام أن يتحرك سياسيا للأمام في 2005، ولكن الديناصورات التي كانت تعشش في جنبات النظام كبلت يديه و أعاقت حركته.

كما قلت، الهدف من التدوينة هو محاولة استقراء المستقبل حتى لا نقع في فخاخ اقتصادية بدافع الانتقام من الماضي. والا، فكيف نصنع المستقبل فى بلد يهدم التاريخ؟

نعم ادارة الدولة فاشلة في توزيع الدعم. و لكن أقصد بالدولة المنظومة كلها من حكومة و شعب و جهاز اداري بيروقراطي عقيم و أجهزة اعلام تتعمد المزايدة و تجهيل الناس. السوؤال هنا: لقد سقط هذا النظام "الغبي الفاشل"، كيف سيتصرف النظام الجديد لتصليح هذا الخلل؟ هل سيستطيع أن يحول شعاراته الى حقيقة؟ أنا شخصيا أشك كثيرا في أن مصر ستعرف استقرارا قبل 10 سنوات على الاقل، أو أن الحكومات القادمة ستتصرف في موضوع الدعم كما ينبغي. نيجيريا من اكبر مصدري البترول في العالم، و عندما قرر الرئيس جناثون رفع دعم الوقود من اسبوع خرج الناس في الشوارع في اضرابات و اعمال شغب لا تختلف كثيرا عن مصر 1977. و اليوم تراجع الرجل و خفض سعر البنزين 30% مرة واحدة .. ما الحل؟

ما أحاول قوله هو ان نعرف بالضبط اين نحن اليوم .. و اين نريد أن نكون غدا .. و كم سيكلفنا الانتقال من اليوم الى الغد .. و كم من الوقت نحتاج لنصل الى هذا الغد .. مش مهم احنا كنا حلوين وللا وحشين .. المهم نعرف نقيس كيف كنا و نعرف نحدد بدقة أين نريد أن نكون غدا.

نعم الطبقة الوسطى المصرية فقيرة مقارنة بأوربا و امريكا .. صحيح ... لم اقل عكس ذلك أبدا.. ما قلته هو الفرق بين الطبقات ليس بهذا الاتساع .. نحن دولة فقيرة الموارد للغاية .. نحن شعب كل طباقته في مستوى دخل أقل من الدول التي سبقتنا ..ولكن، ألم نكن افقر كثيرا في الماضي؟ أين نريد أن نكون غدا؟ و كيف؟ اذا أعجبنا وضع السويد و بريطانيا و امريكا، هل نحن جادون في أن نسلك نفس الطريق بنفس معاناته؟ في نفس الفترة التي إزداد فيها تعداد سكان بريطانيا 9 مليون نسمة و المجر "بصفر"، إزدادت مصر 53 مليون نسمة

أن كل الحكومات القادمة و لمدة 30 سنة أخرى ستسخدم نفس الحجة: الزيادة السكانية. من غير المعقول أن نكون اقل من نصف عدد سكان انجلترا منذ 50 عاما و اليوم نقترب من الضعف. مهما كانت الموارد و مهما كان استغلال الزيادة السكانية، هذا غير معقول و لن تصلح مع اي موارد. كوريا الجنوبية مثلا لم تزد في خلال 30 عاما سوى 5 او 6 ملايين نسمة، بينما قفزنا نحن 40 مليون.. أي الضعف.. أما الموارد، فبالله عليك اين هي تلك؟ مساحة الارض القابلة للزراعة والاستصلاح في مصر لم تتجاوز عبر تاريخنا منذ الفراعنة ما نسبته 4% فقط من اجمالي المساحة .. دي من عند ربنا، نحن بلد صحراوي شحيح المياه.. لا أمطار و لا أنهار تنبع من داخل الوطن. مقارنة بتركيا، مساحة الأرض القابلة للزراعة و الاستصلاح أكثر من 50% من اجمالي مساحة تركيا. و المياه المتجددة داخل الأراضي التركية تصل الى 1000 ضعف مثيلتها في مصر. دي خلقة ربنا ودي طبيعة أرضنا.. لن أتحدث عن الغابات و الاشجار و المناخ.. كنا نسرق من حصة السودان سابقا من مياه النيل و لكن بعد سد الجنوب لا نستطيع. نصيب الفرد من مياه النيل في تناقص مستمر و لا توجد مياه جوفية نستطيع استخراجها بسهولة، كما أن تكلفة تحلية مياه البحر غير اقتصادية بالمرة. عموما، الفيصل بعد 10 سنوات او 30 عاما.. نفس الحجة؟

المهم ان نتفق على القياس والحقائق، ثم نختلف كما نشاء في تفسيرها و كيفية الاستفادة من الحقائق التي تحصلنا عليها. مشكلة الكثير من النقاشات التي دارت و تدور في مصر في السنوات الأخيرة انها بالفعل حوار الطرشان حيث لا توجد اي أرضية مشتركة للنقاش أو اي حديث عن الحقائق أو اتفاق حول اسلوب للقياس والتوصيف. مجرد كلام مرسل من كل الأطراف. تعالوا الى كلمة سواء بيننا و بينكم.. كان هذا التوجيه القرآني، الاتفاق على الأرضية ثم النقاش. تفسير حضرتك أن تراكم الثروة حصل بشكل فردي لا قومي هو رايك الذي يحترم و يشترك فيها الكثيرون.. ولكنها تبقى مسألة جدلية: هل هؤلاء الاغنياء في غنى عن الفقراء؟ اي هل يستطيعون أن ينعزلوا بثرواتهم دون أن ينال الفقراء نصيب منها كعمال في مصانع الأغنياء و تجارتهم بل وحتى كمستهلكين لمنتجاتهم ؟ الفرق بين الطبقات لم يكن بهذا السوء، والا فلننظر الى الصين والهند مثلا.

في كتاب "الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي" الذي سعى فيه صمويل هنتغنتون لتفسير أسباب موجة التحول الديمقراطي حول العالم بين عامي 1974 و 1990، ذكر بأن النمو الإقتصادي قد يكون محفزا لحدوث الثورات. و قد إستنتج ذلك من خلال الربط بين معدلات نصيب الفرد من إجمال الدخل القومي و عملية التحول الديمقراطي. فقد وجد بأن 76% من الدول التي دخلت في طور التحول الديمقراطي في تلك الفترة كان نصيب الفرد فيها من إجمال الدخل القومي ما بين 1000 و 3000 دولار. و كانت فكرته أن هذه المعدلات تسمح بظهور طبقات وسطى متعلمة أكثر وعياً بحقوقها المدنية و السياسية. و بالمناسبة هذه المعدلات كانت في إرتفاع مستمر خلال السنوات الخمس الماضية في جميع دول الربيع العربي بما في ذلك اليمن و سوريا و ذلك بحسب أرقام البنك الدولي. فكرة هنتغنتون ببساطة هي أن العملية الديمقراطية لا يمكن أن تحدث في الدول الفقيرة و إن حدثت فلا يمكن لها أن تدوم و الهند هنا تكاد تكون الإستثناء الأبرز. و في المقابل، فإن معظم الدول الغنية هي بالفعل ديمقراطية و يمكن على سبيل الإسترشاد فقط الإطلاع على مؤشر الديمقراطية الذي تصدره وحدة المعلومات بمجلة الإيكونومست و ملاحظة أن معظم الدول الكاملة الديمقراطية هي أيضاً من أغنى دول العالم. و الإستثناء هنا هو الدول الريعية و على رأسها السعودية و معظم دول الخليج.

خلاصة القول، أن تحسن الأحوال الإقتصادية يرفع من درجة وعي المواطنين بحقوقهم الأساسية. و تحت الأنظمة الإستبدادية فإنه هناك ثمة علاقة طردية بين تحسن الحالة الإقتصادية و بين المطالبة بالتحول من نظام إستبدادي إلى نظام أكثر ديمقراطية. و يمكن القول أيضاً أن نظام الرئيس مبارك نجح في تحسين الحالة الإقتصادية في مصر و لكنه فشل في تحقيق إصلاحات سياسية بالتوازي فأدى و من دون أن يحتسب إلى قيام ثورة أطاحت بحكمه.

أما صديقنا عم علي، ففي الثورة القادمة مش عايزك تنصح علي بالصبر ولا حاجة.. فقط اشرح له انت بتعمل ايه و مستقبله هيكون ازاي و احرص على أنه يقتنع و لا ينقلب عليك بعد شهور قليلة.

لم اقل أبدا ان احنا كنا زي الفل. بالعاكس، قلت بوضوح "الطبقة الوسطى كانت تعاني" . الهدف من التحليل ده هو عدم هدم ما سبق لمجرد الانتقام منه. أ...خطر شئ ممكن يحصل لمصر هو الاستسلام للاسلاميين لليساريين اللي عايزين يرجعونا للوراء و يطبقوا نظرياتهم الفاشلة كما فشلت في كل العالم. الهدف من التدوينة دي هو محاولة عدم الوقوع في الفخ بتاعهم. أما بالنسبة للنقاط اللي انت ذكرتها:

ايوه انا عارف ان فيه صعوبة شديدة لشباب كتير انهم يتجوزا، بس في نفس الوقت معدل المواليد في مصر يعتبر من أعلى المعدلات في العالم !! احنا بلد فقيرة للغاية و مواردها محدودة و مصروفاتها معروفة: ربع للأجور، وربع للدعم، وربع لخدمة الدين، وربع للبنية التحتية والاستثمارات الأخرى. يعني من الآخر اطبخي يا جارية، كلف يا سيدي.

ومهما حصل من تطور اقتصادي هيفضل برضه عندك ناس مش عارفة لا تتجوز ولا تلاقي شقق "ترضي طموحاتها" . مافيش نظام اقتصادي في التاريخ يقدر يمحي الفقر.

نفس الكلام ينطبق على العلاج. وانا لم اقل احنا كنا زي كندا و لن نكون.. حتى أمريكا الانفاق على الرعاية الصحية للفرد أعلى من كندا و رغم ذلك الكل يعرف أن الخدمة في كندا أفضل.

بالمناسبة، فعلا ايران والارجنتين أفضل من مصر في الانفاق على الرعاية الصحية لكن مش بالنسب دي.
حسب منظمة الصحة العالمية احصاء 2008: مصر تنفق 4.5% من الناتج المحلي الاجمالي على الرعاية الصحية، و ايران 5.5% و الأرجنتين 7.4% و السعودية 3.6% و قطر 3.1% و الامارات 3.1% وماليزيا 4.3% من حجم الناتج المحلي الاجمالي.. وعموما الدول دي مش من الدولة الجيدة في الانفاق الصحي و طبعا معاك حق ان ده لا يليق بنا. لكن أرجع و اقول: هل نحن مستعدون لرفع الدعم عن البنزين مثلا ليصبح اللتر بدولار زي ايران (رغم انها دولة مصدرة و عضو في الأوبك) أو يصبح 2 دولار زي كمبوديا الفقيرة (انا هناك حاليا) أو يصبح دولار ونصف زي تركيا؟ هل نحن مستعدون لرفع الدعم و توجيهه للصحة والتعليم؟ مصر رابع أرخص دولة على مستوى العالم، والأرخص على الإطلاق بين الدول غير الأعضاء في الأوبك ..هنعمل ايه في دعم الخبز؟ دعم المواصلات؟ دعم السكة الحديد؟ أسئلة في منتهى الصعوبة.

الفكرة بقى، الاسباب الاقتصادية اللي اتقالت مستحيل تكون سبب ل 25 يناير لأنه ببساطة دول كثير جدا تعاني أكتر من مصر و احنا كنا بدأنا نمشي صح. سنحتاج 10 سنوات على الاقل حتى نصل الى نفس المستوى الاقتصادي اللي كنا عليه بنهاية 2010 رغم انه مش ممتاز يعني. وفي خلال السنوات دي البطالة ستزيد بالتأكيد و الأعباء ستتضخم. مصر كانت محتاجة نمو مستدام زي الصين 8 و 1% لمدة 20 سنة حتى نخرج من دائرة الفقر والحلقة الجهنمية التي تشدنا دائما للخلف.

أكرر: مسألة "شعور" المواطن بالتحسن لا علاقة لها بالتحسن ذاته من عدمه، المواطن لم يشعر بالتحسن لغياب الخطاب السياسي المفسر للتحولات الاقتصادية والاجتماعية.

أيوه النظام السابق أخطأ .. لكن ايه هي افكار النظام القادم؟؟ هو ده السؤال."


Monday 16 January 2012

الثورة وتراكم الثروة.. وأوهام الاقتصاد المزدهر


لا لست اشتراكيا. كما أنني لست رأسماليا. تبدو هاتين الجملتين ضروريتين لنفي أي اتهام قد تحمله قراءة السطور التالية في الرد على دراسة الصديق أحمد سرحان: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية. علامة استفهام" والتي نشرتها بوابة الوفد الالكترونية ضمن جهودها في "نشر الثقافة الثورية".

الدراسة تعتمد على مؤشرات اقتصادية وتغرق قارئها في الأرقام ولكنها تنسى أن تدرك التعريف الأكثر شيوعا لكلمة اقتصاد، وهو: إدارة الموارد المحدودة لتلبية الرغبات الإنسانية الغير محدودة. ربما في مصر سيكون تعريف الاقتصاد: إدارة الموارد المحدودة لتلبية الرغبات الإنسانية الأساسية لأكبر عدد ممكن من شعب هذه الأرض.

هو تعريف يراعي أن وظيفة الدولة هي أن تقدم للمواطن رعاية صحية تحترم آدميته، وتعليم يجعل منه إنسانا فاعلا في مجتمعه، وعملا يتكسب منه رزقه أو أدوات تعينه على إيجاد هذا العمل. هذه الأشياء هي بنود العقد الاجتماعي بين المواطن ودولته سواء أكانت اشتراكية أم رأسمالية أم تتبع مدرسة تخلط بين الفكرين وتحاول أن تراعي ظروف مجتمعها.

في الدراسة، ومن خلال مؤشرات اقتصادية معقدة وأرقام وبيانات وإحصائات ورسوم بيانية مليئة بالتفاصيل التي تحتاج الى تفكير عميق، نكتشف مثلا أن مصر خلال العقد الأخير من حكم رئيسها المخلوع (2000-2010) كانت أكثر عدالة اجتماعية من "دول عديدة في أوروبا و أسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية".

في أحد الرسوم البيانية مثلا نكتشف أن مصر أكثر عدالة اجتماعية من "الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وأسبانيا والصين وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وتونس". لكن ألمانيا والنرويج أكثر عدالة اجتماعية من مصر. ولكن الفرق ليس كبيرا!

هذا مثال يذكرني بما كان يردده أساتذة الاقتصاد على مسامعنا خلال دراستي الجامعية (اقتصاد بالمناسبة) بأن الأرقام لا تعكس الواقع وأنه ليس هناك أسهل من استخدامها لتضليل الناس.

الأرقام ووهم الواقع!


لهذا أنا لا أشكك في أية أرقام أوردها الصديق أحمد سرحان، وإنما أعترض على ما جاءت به من أشياء لا تعكس الواقع الذي يقول إن عشرين في المئة من سكان مصر هم تحت خط الفقر (وفق أرقام 2005) وأن دراسات أخرى تتحدث عن أن النسبة هي أربعين في المئة وفق معايير أخرى أكثر دقة.

تجاهلت الدراسة أيضا المفهوم الاقتصادي المتعلق باختلاف مدلول الفقر من دولة الى أخرى وفق القوة الشرائية للعملة المحلية. فالفقر في مصر ليس كالفقر في بريطانيا وبالتالي فإن اختلاف المستويات المعيشية بين الدول المذكورة في المقارنة لا يعني بالضرورة أنها أكثر عدالة اجتماعية من الولايات المتحدة وأسبانيا وإيطاليا!

ومن ضمن ما ذكر في الدراسة الحافلة بالبيانات والرسوم البيانية المعقدة والمفاهيم الاقتصادية القائمة على التلاعب بإخفاء نصف الكوب والتركيز على قعره أو العكس، الحقيقة التالية: "تستحوذ الطبقة الأغنى في مصر على 40% من الثروة، بينما الطبقة الأغنى في البرازيل مثلا تستحوذ على 59% من الثروة، وفي جنوب افريقيا حيث أكبر اقتصاد في القارة السوداء تستحوذ الطبقة الأغنى على 63% من اجمالي ثروات البلاد".

لن أشكك في الأرقام ولكن عندما تقول الدراسات إن الجيش يسيطر على 30% على الأقل من ثروة البلاد ويكون لدينا 40% من الثروة لدى الأغنياء، إذن كم من الثروة يتبقى للشعب (بعد خصم عدد الأغنياء وأفراد القوات المسلحة) كي توزع عليه؟

ثم يمكن مثلا أن تطالعك هذه الفقرة: "مع أزمة الغلاء وارتفاع اسعار السلع الغذائية في العالم في 2008، اضطرت الحكومة – في محاولة منها لدعم العدالة الاجتماعية - الى زيادة أعداد المستفيدين من بطاقات التموين من أقل من 40 مليونا الى أكثر من 63 مليون مصري مع توسيع مظلة نظام بطاقات التموين لتشمل كل المصريين الذين ولدوا ما بين 1989 (سنة توقف اصدار بطاقات تموين جديدة) وعام 2005"، متبوعة بجملة تقول: "وهو أمر لم تجرؤ أعتى حكومات العالم اشتراكية و يسارية أن تقوم به".

طيب لا تعليق!

إذ كيف يمكن أن نجادل ونثبت أن الفقر انتشر في مصر وأن وضع الفقراء في عصر مبارك وخصوصا في العقد الأخير من حكمه، أسوأ من أي عصر سبقه وقد يكون مماثلا للفقر في أوائل القرن الماضي!

ومن المدهش أن صديقي أحمد ينتقل الى الحديث عن أن الطبقة الوسطى أصبح لديها أربعة ملايين جهاز تكييف بعد أن كان لديها ثلاثمئة ألف فقط قبل عشر سنوات، ويتحدث عن عدد السيارات وعن خطوط المترو.. هو نفس الخطاب الذي حدثنا به المهندس أحمد عز، كي يقنعنا أن الحزب الوطني يعمل من أجلك أنت! أيوة أنت!

خطيئة "الوطني" ووهم الجماهير


ولكن خطيئة الحزب الوطني في نظر أحمد أنه لم يعمل على بذل "الجهد الكافي للشرح والتوضيح" أو "الحصول على دعم كل المصريين عبر اشراكهم في الافكار والقرارات والخيارات".

وهو حديث يذكرني أيضا بالحوارات التي كان يجريها رئيس قطاع الأخبار السابق عبد اللطيف المناوي مع أمين لجنة السياسات في الحزب المنحل (بقرار قضائي) ونجل الرئيس المخلوع (برغبة شعبية) جمال مبارك حول "رؤية الحزب لمستقبل مصر في ظل التمسك بالسوق الحر ودعم الاستثمار الأجنبي المباشر مع الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية للفقراء والتي جاء بها برنامج الرئيس الانتخابي".

وكانت الجملة الأكثر تكرارا في تلك الحوارات، التي تفتقد الى أي أسئلة تتحدى الضيف وتخرج به من دائرة التلميع الى دائرة الاختبار، أن مشكلة الحزب الوطني أن "فكره الجديد لم يصل الى الناس بعد بالرغم من أنه أكبر الأحزاب السياسية تواجدا في الشارع والتصاقا بالجماهير"، وهي بالطبع حقائق مليئة بالتناقضات التي سقطت خلال ساعات من ليل الثامن والعشرين من يناير.

هذه الدراسة المليئة بالأرقام والرسوم البيانية أيضا تذكرنا بأحاديث الوزيرين البارعين في فن الكلام، محمود محي الدين وبطرس غالي، واللذين اختفيا في ظروف غامضة وصدر ضد أحدهما، وهو بطرس، أحكام قضائية تتعلق بالفساد، وخلف لنا سؤال كبيرا حول: أين ذهبت أموال التأمينات الاجتماعية؟

وهم "تراكم الثروة يصل.."

يعتقد أحمد سرحان أن الحل لمشكلة مصر الاقتصادية هو في تراكم الثروة أولا ثم في تسربها من القمة الى القاع.

ولن أكون قادرا على شرح فكرة أحمد بطريقة أفضل من اقتباس ما كتب:

"مياه الأمطار تسقط على قمم الجبال أولا قبل أن تصل الى سفوحها. من يستفيدون أولا من أي نمو هم اولئك الأقدر على قطف الثمار العالية نظرا لما يملكون من تعليم و مهارة و خبرات ولغات.

الكثيرون استفادوا من النمو الاقتصادي لأنهم متفوقون وموهوبون ويعملون في مجالات نمت بشكل أكثر من غيرها مثل الاتصالات و العقارات و ادارة الأعمال و ادارة المشروعات. كان الكثيرون مستعدون أكثر من غيرهم. الكثيرون من خريجوا الجامعات والذين يتقنون اللغات و علوم الكمبيوتر و يعيشون في القرن الـ 21.

ولكن هل يعني هذا أن هؤلاء استحوذوا على العوائد وحدهم؟

فعندما استفاد أحدهم من عوائد النمو وانتقل من عمل الى عمل أفضل، استطاع أن يتزوج وأن يكون أسرة ويفتح بيتا ويشتري أثاثا و أجهزة صنعت في مصر، واستطاع آخر أن يصلح ويجدد في منزله و يستعين بالعمال و السباكين و الكهربائيين و الحرفيين، والكل يعلم أن المقابل الذي يحصلون عليه قد ارتفع الى ما يقرب من 200 جنيه يوميا وأكثر. أعتقد المعنى واضح، فقد وصل اليهم عائد النمو الاقتصادي بشكل غير مباشر.

كان الأمر يستدعي مزيدا من الصبر حتى يصل العائد الى الجميع، ولكن بعد أن تتراكم الثروة أولا.

لابد لنا أن نفكر في كيفية تنمية الثروة وليس فقط كيف نعالج الفقر. فهذه تؤدي الى تلك، و ليس العكس. الأولى تطمح الى أن نتساوى في الغنى، و الثانية لن تؤدي الا الى أن نتساوى في الفقر."


أوجز ردي على ما اقترحه الصديق أحمد سرحان حلا "للاحتقان الاجتماعي على وضع الاقتصاد قبل 25 يناير" في النقاط التالية:

1. الأرقام الجيدة حول الاقتصاد المصري قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير تعكس موازنة عامة بارعة في تحصيل الرسوم الحكومية وتوسيع القاعدة الضريبية وبيع أصول الدولة، وفي نفس الوقت، لا تلتزم هذه الموازنة بتقديم خدمات حقيقية للمواطنين مثل رعاية صحية تعمل بكفاءة أو تعليم ينتج قوى عاملة قادرة على أن تضيف لثروة الأمة الحقيقية. كل ما حصلنا عليه خلال العشر سنوات الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع كان مجموعة من الحملات الإعلانية الذكية حول خطط النظام في إقامة تأمين صحي يشمل جميع المواطنين وتغيير جذري في مناهج التعليم، دون أن ينعكس ذلك بشكل حقيقي على صحة المصريين أو المستوى التعليمي لأبنائهم. والمدهش أن كل هذه الخطط كان مرتبطة بشخص نجل الرئيس. فإن انتخبناه فقد حصلنا عليها وإن لم نفعل فسنحصل على جمال مبارك أيضا!

2. في كل تجارب التنمية السابقة كانت العلاقة بين الدولة والمواطن قائمة على أن الأولى تقدم للثاني رعاية صحية وتعليم (استثمار) حتى يقوم الثاني بأن يرد للأولى استثمارها عبر العمل داخل الدولة وأداء ما عليه من ضرائب وواجبات. ولكن لأن هذه العلاقة اختلت في مصر منذ عام 1975، فإن المواطن المتعلم، والذي يشير إليه أحمد بأنه "يتقن لغات أجنبية وعلوم الكمبيوتر ويعيش في القرن الحادي والعشرين"، قد أتقن هذه المهارات نتيجة لاستثمار أسرته عبر إدخاله المدارس الخاصة والجامعات الخاصة، وليس عبر التعليم الحكومي والرعاية الصحية الحكومية. وبالتالي فإنه عندما حان موعد الاستفادة من هذا الاستثمار، قابلنا هذا المواطن وهو يقف في طابور طويل أمام سفارة كندا كي يقوم برد ما حصل عليه من أسرته في مقاطعة أونتاريو!

3. أي تراكم كبير للثروة (أي تراكم قادر على إحداث فرق اجتماعي واسع) حدث خلال عصر مبارك انحصر بشكل مباشر في مجموعة من الأسماء المقربة من نجله ومن الأسرة الحاكمة. وكان سلوك هذه الأسماء هو الإفراط في استيراد السلع والخدمات من الخارج، بل وصل الأمر الى استيراد الخبرات البشرية التي تعمل في مصالحهم داخل مصر! وبينما كانت البطالة منتشرة وملموسة في كل بيت مصري، كان الناس يشاهدون حافلات تنقل عمالا من بنغلاديش أو كوريا الجنوبية الى المصانع المصرية! ولم يبدو أن هذا السلوك الاستفزازي على وشك التغير على المدى المتوسط أو حتى البعيد، بل على العكس كان ذلك السلوك يتم الترويج له في القنوات الفضائية لرجال الأعمال المقربين من جمال مبارك. وكان هذا السلوك المستفز سببا رئيسيا من أسباب الثورة، حيث شعر المواطنون بالإهانة الشخصية والوطنية. لهذا فإن الأصح أن نقول أن تراكم الثروة في عصر مبارك أدى الى انتعاش مصانع الجاكوزي الإيطالية ومصانع الرخام الإسباني وربما مصنع داسو الفرنسي لإنتاج طائرات رجال الأعمال.

4. لم تكن الظروف الاقتصادية البالغة الصعوبة التي عصفت بالمصريين في العقد الأخير من عصر مبارك هي السبب الوحيد للثورة عليه وخلعه. وإنما رافق هذه الظروف استهانة بمشاعر المصريين وبحقهم في العيش الكريم. وبينما كان المصريون يحاولون إيجاد الحد الأدنى من المتطلبات الأساسية لأسرهم، كانت صفحات أخبار المجتمع تحفل بصور حفلات زفاف أبناء المقربين من الأسرة الحاكمة، وكانت صفحات الجرائد الحكومية مليئة بملاحق حول منازل فاخرة في منتجعات ساحلية محاطة بأسوار عالية وأنظمة أمنية متقدمة لن تسمح لغير القادرين بالدخول إليها. كانت الدولة في عصر مبارك مسخرة لخدمة أصدقاء الأسرة الحاكمة والنافذين في الأجهزة الأمنية، بينما كان البقية يشاهدون هذا الاستفزاز المتواصل، ويطلب منهم "الصبر قليلا حتى تصل الثروة من قمم الجبال الى سفوح الغابات..". كان هذا الصبر مطلوبا من موظف في هيئة النقل العام يعول أسرة مكونة من طفلين وزوجة وتنتظره قائمة طويلة من الجهات التي تريد منه مالا لتقديم خدمات لأسرته، كان يفترض أن تقوم بها الدولة.

5. أتفق مع أحمد في أن المطلوب هو تنمية الثروة لا معالجة الفقر. لكن ما هو تعريفه للثروة؟ هل الثروة هي مجموع ما يمتلكه الناس من سيارات وأجهزة تكييف، حتى لو كانت هذه الممتلكات قد تم استيرادها من الخارج وتم تمويلها عبر القروض؟ أم أن الثروة هي الخبرات البشرية والقدرات والمهارات التي يمتلكها خريجو الجامعات والقادرون على صنع قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد لا الانضمام الى طوابير العاطلين والجالسين على المقاهي في انتظار ماتش ساخن للزمالك والأهلي!

اصبر يا "علي".. خربت البلد!


وبالعودة الى صديقنا الأستاذ "علي محسن أبو العينين"، الذي يعمل سائقا في هيئة النقل العام ويعول طفلين، سارة وعمر، وزوجة كانت تعمل موظفة في الضرائب العقارية قبل أن يداهمها المرض وتظل حبيسة البيت وغرف انتظار العيادات الخيرية، فإن الأستاذ "علي" عندما يطالع نسخة جريدة الوفد الغراء أثناء شرائه سيجارتين فرط من أحد الأكشاك القريبة من موقف الأتوبيسات، ويجد عنوانا يقول: "عيش حرية عدالة اجتماعية. علامة استفهام.. بالأرقام: الاقتصاد المصري قبل 25 يناير كان أكثر عدالة اجتماعية من أسبانيا وإيطاليا! اقرأ التفاصيل في ص8.." فإن الأستاذ "علي" لن يكلف نفسه شراء هذه الجريدة أو قراءة السطور السابقة في الرد عليها، لأنه ببساطة يدرك أن كل هذه الأرقام والبيانات احترقت مع احتراق اليافطة العملاقة التي كان مقر الحزب الوطني يزدان بها وعليها صورا لأطفال ممتلئين بالصحة والعافية وعلى وجوههم ابتسامات عريضة وتحت الصور جملة تقول: علشان تطمن على مستقبل أولادك.

الأستاذ "علي" صدق اليافطة وأدرك أن مستقبل سارة وعمر سيكون أسوأ من وضع أمهم المريضة فقرر النزول يوم الثامن والعشرين من يناير ونسي للأسف أن يتأكد عبر البلاكبيري على وضع المؤشر العام للبورصة المصرية ويطالع آخر تقرير للبنك الدولي حول الأداء المتميز لقطاع الاستثمار السياحي خلال الربع الأخير من عام 2010!

في الثورة القادمة سننصح "علي" بالصبر!