Saturday 19 July 2014

غزة: معضلة كرة النار


غزة: "كرة النار". تعبيرٌ قد يلخص جانباً رئيسياً من معضلة قطاع غزة. والتعبير يستند الى فكرة عبر عنها الإسرائيليين كثيراً وبصيغٍ مختلفة وهي: نريد التخلص من غزة للأبد. لا نريد أي مسؤولية تجاه القطاع أو سكانه. لا نريد أن نتعامل مع القطاع. لا نريد أن يكون لنا وجود عسكري أو استيطاني في القطاع!

رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل إسحاق رابين في الثمانينات وفي ذروة الانتفاضة الفلسطينية كان يردد عبارة: أريد أن أستيقظ في الصباح فأجد غزة قد أبتلعها البحر! لذا لم يكن قرار اسرائيل بالانسحاب من غزة عام ٢٠٠٥ وتفكيك المستوطنات فيها، مفاجئاً لمن تابع تصريحات السياسيين الإسرائيليين.

في أعقاب الانسحاب الاسرائيلي من غزة فاتح مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون الرئيس المصري السابق حسني مبارك في مسألة أن "قطاع غزة مكتظ سكانياً ومستوى المعيشة فيه يدفع سكان القطاع الى العنف وأن الحل هو توسيع القطاع مقابل استثمارات دولية في شمال سيناء"، ما يعني عملياً نقل إدارة القطاع أمنياً الى مصر والعودة الى أوضاع ما قبل حرب ١٩٦٧. 

رفض مبارك الاقتراح الاسرائيلي الامريكي المشترك، ورفضته الفصائل الفلسطينية في غزة وأهمها حماس والجهاد الاسلامي، ورفضته منظمة التحرير الفلسطينية. وذلك لأن الاقتراح يهدف الى نقل مسؤولية غزة الأمنية والمعيشية لمصر وهو ما يعني تصفية القضية الفلسطينية الى الأبد، ويعني أيضاً أن جهاز الأمن المصري الذي بالكاد يستطيع تأمين أرواح جنوده في سيناء سيكون مسؤولاً عن أمن قطاع غزة وعن أمن حدود القطاع مع إسرائيل! لكن المعضلة المصرية كانت تتمثل في السؤال التالي: كيف تبقي غزة مشكلةً لإسرائيل دون أن تساهم في قتل الناس؟ كانت الإجابة هي أن غضت مصر الطرف عن حفر الأنفاق بين غزة وسيناء وفي نفس الوقت أبقت معبر رفح مغلقاً.

دفع الفلسطينيون المقيمون في غزة ثمناً إنسانياً باهظاً حتى مع وجود الأنفاق. وكانت إسرائيل تتعمد استغلال أي ذريعة لضرب غزة بشكل وحشي وهمجي من البحر والجو وعبر التوغلات البرية. في المقابل كانت إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً من سمعتها الدولية ومن أرواح جنودها في كل عملية توغل بري. 

تم خلع مبارك وجاء المجلس العسكري للحكم. لكن مسؤولية ملف غزة ظلت مع المخابرات العامة والتي ساعدت في التوصل لاتفاق مصالحة بين فتح وحماس. وكعادة المرات السابقة، تم الاختلاف لاحقاً ولم يمض الطرفان الفلسطينيان قدماً في خطوات المصالحة.

إسرائيل تريد التخلص من عبء غزة. لا تريد بمن يذكرها أنها دولة محتلة. ومصر لا تريد أن تكون مسؤولة أمنياً واقتصادياً وإدارياً عن قطاع به أعلى كثافة سكانية في العالم. وحماس تشكك في نوايا فتح. وفتح لا تصدق تعهدات حماس. وفيما حماس تحظى بدعم قطر وتركيا وإيران، تحظى فتح بدعم مصر والسعودية والإمارات والأردن. وبين الرعاة الإقليميين لحماس والرعاة الإقليميين لفتح معارك لم تنتِه، وجبهات مفتوحة، وحسابات لم تغلق!

وبينما تبدو غزة ككرة نار ملتهبة يتقاذفها الجميع، يدفع سكانها الثمن الأكبر من خلال الحصار الذي جعل قطاعهم السجن الأكبر في العالم!

لكن ماذا عن المقاومة؟

تعقيد الحالة الفلسطينية لا يترك للمقاومة الكثير كي تفعله. فالحركتان الأكبر على الساحة الفلسطينية منشغلتان بصراع على السيطرة والحكم. ويزداد الأمر تعقيداً عندما يتم توظيف المقاومة لخدمة مصالح إقليمية سواء في ملف الصراع السياسي المصري/الإقليمي مع الإخوان، أو الملف النووي الإيراني، أو خدمة طموحات إقليمية!

لا توجد جيوش عربية نظامية مستعدة للقتال أو للمساعدة في إمداد فصائل المقاومة بالسلاح. جميع الجيوش العربية إما منشغلة بصراعات داخلية أو متورطة في صراعات بين أجنحة السلطة على ترتيبات داخلية تتعلق بمستقبل الحكم في دولها.

أما على مستوى الداخل الفلسطيني فإمكانيات المقاومة الفلسطينية لا تسمح لها بتغيير ميزان القوى مع إسرائيل ولا تسمح لها بأكثر من إطلاق صواريخ بدائية الصنع، لا تلحق ضرراً مؤثراً يجبر إسرائيل على تقديم تنازلات جوهرية فيما يتعلق بحق العودة أو إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس.

لا تملك المقاومة الفلسطينية في غزة ما يمتلكه حزب الله من دعم مالي غير محدود من إيران وترسانة مؤثرة من الصواريخ والأسلحة التقليدية، ومساحة للتحرك بحجم لبنان. لذلك كان قادة حماس في كل مرة يوافقون على مبادرات لوقف إطلاق النار مع إسرائيل تتضمن هدنة لمدد تصل الى خمس سنوات (كما في مبادرة مرسي عام ٢٠١٢) في مقابل فتح المعابر بين غزة وإسرائيل.

ومع معرفة قادة حماس والفصائل الفلسطينية في غزة بمحدودية إمكانيات المقاومة، ومعرفة حلفائهم الإقليميين بذلك، يتم التعامل مع المقاومة كورقة ضغط إقليمية. وفي كل مرة يتم التوصل لهدنة، تتعهد حماس بضمان هذه الهدنة وتمنع بقية الفصائل من إطلاق أي صواريخ على إسرائيل، وذلك ليتحقق هدف إسرائيل الأهم من اتفاق أوسلو وهو تأرجح الفلسطينيين بين حالة اللاسلم واللامقاومة واللادولة. فقط الحصار والمزيد من ضربات العقاب الجماعي وقتل المدنيين!

ماذا عن مصر؟

لا أحد يحسد مصر على وضعها الآن! فمصر الرسمية تحت حكم الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي تبدو في تعاملها مع ملف غزة فاقدةً للنضج الذي تمتعت به مصر تحت حكم مبارك! مفارقة مزعجة وصادمة لكنها منطقية. فمصر الرسمية التي تخوض حرباً مفتوحة مع جماعة الاخوان، تنظر لحماس باعتبارها جناح الاخوان في غزة، والحركة التي "تآمرت على مصر وقتلت جنوداً مصريين في سيناء". لكن مصر الرسمية لا تقدم الوثائق أو الأدلة التي تثبت ذلك، بل تكتفي بترديد هذه القائمة من الاتهامات عبر موظفيها في أجهزة الاعلام المحلية.

كما يتجلى عدم نضج مصر الرسمية في فشلها على الإجابة عن المعضلة التي واجهت مصر تحت حكم مبارك وهي: كيف نبقي غزة مشكلةً لإسرائيل وفي نفس الوقت لا يموت الفلسطينيون جوعاً، ونحافظ على احتكارنا لملف غزة أمام المجتمع الدولي؟

أما مصر الشعبية فتتأرجح بين خطاب معادٍ للفلسطينيين موروث من الحقبة الساداتية وشعارها الأشهر "مصر أولاً"، وبين خطاب يعتبر أن ما يجري في غزة شأنٌ داخلي بين حماس وإسرائيل لا دخل لمصر فيه. ويبني هذا الخطاب موقفه على أن مصر ليست مستعدة للدخول في أي مغامرات عسكرية وأنها منشغلة بأوضاع داخلية شديدة الصعوبة. لكن هذا الخطاب يفشل في إدراك أن أمن مصر مرتبط بما يجري في غزة بنفس قدر ارتباطه بما يجري في ليبيا وفي السودان.

وفي ظل ارتباك مصر، وانشغال العالم العربي بحروبه الأهلية، لا يبدو أمام المقيمين تحت سماء غزة الكثير من الخيارات أمام آلة عسكرية لا تتردد لثانية عن قتل أطفال أو مدنيين أو قصف مستشفيات، طالما أن الفاعلين في المجتمع الدولي لن يتدخلوا قبل أن تتخطى حصيلة القتلى الحصيلة الماضية!