Wednesday 28 December 2011

أربع نقاط غائبة عن مشهد مضطرب


وائل غنيم، وائل خليل، معتز عبد الفتاح.. الثلاثة خرجوا علينا ذات صباح بمبادرة "مصرنا" والتي تريد وفق ما ذكروه في صفحتها على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك "أن نصنع كيانا جامعا للشباب. تتلاقى فيه إرادتنا جميعا حتى ننقل مصرنا التي نريد من حيز الحلم والخيال إلى عالم الواقع والتنفيذ.”

هي مبادرة تريد أن تقدم للناس "نخبة شبابية قادرة على تحقيق النهضة الشاملة" و"زيادة مساحة المشاركة السياسية الواعية لأكبر عدد ممكن من الناس".

لكن المبادرة واجهت هجوما شديدا من عدد من الفاعلين على شبكة تويتر، ورافق الهجوم تهكم على أهدافها وعلى الداعين إليها، وقيل من ضمن ما قيل عنها، أنه كيف يمكن أن "تلتقي الثورة مع مبادرة إصلاحية تريد توافقا مع الوضع القائم" وأن المبادرة "تصب في مصلحة المجلس العسكري الحاكم".

ومن يعود الى تويتر يمكن أن يجد تغريدات كثيرة تدعو الى "الصدام لا التوافق" والى "الراديكالية منهجا لا إصلاح الوضع الحالي والبناء عليه".

لكن المتأمل لهذا التراشق الفكري "العنيف" يدرك أن المهاجمين لمبادرة "مصرنا" ولأي مبادرة أخرى تريد الوصول الى الناس، يجهلون طبيعة المجتمع الذي يناضلون على أرضه!

هذه نقاط، بعضها ذكرته من قبل، لعل الذكرى تنفع المناضلين، والبعض الآخر معلوم لدى الناس بالضرورة:

مجتمع اللعب على الورقة الرابحة

لم يعد يجدي التعالي على المجتمع واتهامه بأنه سلبي أو متأثر بالدعاية الحكومية ونظريات المؤامرة. هذا مجتمع تشكل خلال آلاف السنين وبه من الدهاء والخبث ما مكنه من الانتصار على الطغاة الذين حكموه أو الاستعمار الذي حاول تطويعه. هذا مجتمع يدرك جيدا أنه من العبث الاصطدام العنيف بمن يملك شرعية استخدام العنف وأنه من الأفضل الانتظار الى أن تفرز المعارك الصغيرة شخصية قادرة على مواجهة مشاكل هذا المجتمع!

لاحظ مثلا موقف المجتمع من الصراع على السلطة بين الضباط الأحرار وتنحية اللواء محمد نجيب، الذي كان يتمتع بشعبية هائلة، ومع ذلك لم تعترض الناس بشكل واسع على الاطاحة به عام 1954، بل على العكس التفوا حول من أطاح به، وهو الرئيس ناصر عام 1956. أو يمكن العودة الى معركة محمد علي باشا مع عمر مكرم ومذبحته الدموية في القلعة لمناوئيه، دون أن يكون لذلك رد فعل شعبي!

أو حادثة 4 فبراير عام 1942 عندما وصل النحاس باشا الى الحكم برغبة انجليزية وصلت الى حد حصار قصر عابدين وإجبار الملك فاروق على التنازل عن العرش! (ومن المفارقات أن وفدا من الضباط من بينهم محمد نجيب وجمال عبد الناصر، ذهبوا الى قصر عابدين وأعلنوا ولائهم للملك في هذه المحنة!) وفي هذه المحنة العنيفة أبدى الناس تذمرا ولكن لم يتحركوا لأنهم أدركوا بوعيهم الجمعي أن المعركة ضد رغبة الانجليز هي معركة خاسرة لأن المارشال الألماني رومل على أبواب الاسكندرية، وسيكون رد فعل الانجليز عنيفا الى درجة خسارة مكتسبات معاهدة 1936، على محدوديتها.

يمكن أيضا العودة الى رد فعل الناس على المعركة بين الرئيس السادات وبين مراكز القوى عام 1971 أو رد فعل الناس على الإطاحة بالمشير أبو غزالة من قبل مبارك، عندما كان الأول يتمتع بالشعبية الأوسع لدى الجيش منذ المشير عامر وكان سببا مباشرا في وصول الحكم الى مبارك.

مجتمع يخرج عندما يجد نفسه محاصرا

أن هذا المجتمع خرج في 25 يناير 2011 لأنه أدرك أن حاكمه قد حاصره في زاوية لا يمكن الخلاص منها إلا بالإطاحة به! فمبارك لم يكن فقط قد فقد الاتصال مع مشاكل الناس وبالتالي اهتزت شرعيته، ولكنه كان قد فقد زمام المبادرة بالنسبة لتحديد سلفه وبدا أن الناس أمام سيناريو أسوأ مما يعانون منه، وهو تولي شخصية فاقدة للقبول الشعبي مثل جمال مبارك الحكم، مع ما يحمله ذلك من معان مثل "بيع البلد" و"خيانة ثوابت الأمة الوطنية" و"محاربة الناس في أكل عيشها من أجل صحابه رجال الأعمال"!

ولهذا كان المجتمع مدفوعا بالخروج لأنه فقد الأمل في إصلاح هذا النظام لذاته دون عنف أو ثورة. والمشكلة الحالية أن النظام الحالي، ممثلا في المجلس العسكري، استطاع أن يقنع الناس من خلال إعلامه الرسمي أو الخاص المتحالف معه أنه ضد مبارك في فصله الأخير وأنه انقلب عليه وأداً للتوريث ومخطط "بيع البلد". وبالتالي فمن الصعب دعوة المجتمع للاصطدام بسلطة استطاعت أن تقنعه بأنها تعمل من أجله، خصوصا وأن السيناريوهات البديلة تبدو شديدة القتامة بالنسبة لمجتمع يكره العنف ويمقت الدم.

الفقر والفقراء، مفاتيح الشرعية الشعبية

أن المشكلة الحقيقية لهذا المجتمع هي الفقر وما عدا ذلك تفاصيل فرعية على هامش هذه المشكلة. فغياب الوعي مرتبط بالفقر، والتطرف الديني مرتبط بالفقر، وسوء الصحة وغياب التعليم متفشيان لدى الفقراء، وغياب المشاركة السياسية مرتبط بالفقر.

لذا فإن أي خطاب يتجاهل الفقر والعدالة الاجتماعية هو خطاب يفشل في حشد تأييد شعبي له، حتى وإن التحف بالدين واستخدم آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة وتجاهل أن جوهر الاسلام هو المساواة بين أبناء الوطن وأن الناس شركاء في ثلاث، الكلأ والماء والنار. لذا فإن الثوار لن يصلوا الى الناس بالصدام الدموي مع المجلس وإنما سيصلوا عبر الخطاب الذي يدعو الى تغيير حقيقي على الأرض في قضايا العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة وصنع شبكة أمان للفقراء تراعي حقهم في التعليم والصحة.

ومن يؤت الحكمة..

تبدو المشكلة الأكثر إلحاحا في مسألة الصراع بين المجلس العسكري من جهة وبين الثوار على جبهات شبكات التواصل الاجتماعي، هي في عدم القراءة الواعية للتاريخ أو للتجارب الثورية الشبيهة بتجربتنا. فلو كان جنرالات المجلس يقرأون بعناية التاريخ لأدركوا أن الصيغة الأمثل لهم هي الانسحاب السريع من الحياة السياسية والابقاء على بعض الخيوط في أيديهم، لا النزول "بغشومية" في ساحة لن ينالوا منها سوى "التشكيك والانتقاص من رصيدهم الوطني".

ولو عدنا الى كل الانقلابات العسكرية التي تمتع أصحابها بثقافة تاريخية، نجد أن خطوتهم الأولى كانت في إنشاء كيان سياسي يعبر عن توجهاتهم، وفصل المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية، وترك الناس توجه سهام النقد الى الكيان السياسي لا إلى المؤسسة العسكرية، لأن أصحاب الانقلاب يدركون أن توريط المؤسسة العسكرية في الجدال السياسي سيؤدي الى أن تنقلب هذه المؤسسة عليهم هم أنفسهم كرد فعل!

هكذا فعل ناصر ورفاقه مع كيانهم السياسي الأول وهو "هيئة التحرير" ثم "الاتحاد الاشتراكي"، ولاحقا كان الرئيس السادات ذكيا في استكماله لهذا النهج عبر "المنابر" ثم تأسيسه للحزب الوطني الديمقراطي، والذي زرع فيه الرئيس السادات بذرة موته عندما جعله تجمعا للانتهازيين من رجال الأعمال وفرسان عصر الانفتاح! لكن بصرف النظر عن المآلات المأساوية لكل هذه الكيانات السياسية التي أسستها السلطة، فإن نجاحها الأكبر كان في إبعاد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية.

ومن المفيد لأعضاء المجلس أن يقرأوا بعناية تجربة الجنرال إرنستو جيزيل، الذي تولى حكم البرازيل عام 1974، وكان لديه برنامجا لتحويل البلاد من الدكتاتورية العسكرية الى نظام ديمقراطي ولكن عبر ما وصفه بالممر "البطيء، المتدرج، والآمن". ويمكن لهم أن يقارنوا بين تجربته وبين تجربة نظام ليوبولدو جالتيري في الأرجنتين وهزيمته في حرب جزر الفوكلاندز مع بريطانيا عام 1982، مما أدى الى انتخابات حرة في العام الذي تلاه.

ولو كان أعضاء المجلس يدركون طبيعة العالم الذي نعيش فيه، لما سمحوا بلواء يعمل مستشارا للشؤون المعنوية بأن يخرج بتصريحات تدعو الى "حرق الثوار في أفران هتلر"! فالرأي العام العالمي لا يمكن أن يقف صامتا أمام تصريحات تدعو الى أساليب فاشية لقمع المعارضة، أياً كانت. كما أن هذا التصريح يرسم لدى الرأي العام المحلي والعالمي علامات استفهام كبيرة حول النوايا الحقيقية للمجلس الذي يحاول أن يبني شرعيته لدى الناس باعتباره "معارضا للأساليب القمعية التي كانت سائدة قبل 25 يناير".

أما بالنسبة للثوار فإن دراسة التجارب الثورية الشبيهة بتجربة ثورة يناير الشعبية، وأولها تجربة انتفاضة يناير عام 1977 وتجربة الثورة الإيرانية عام 1979، سيؤدي الى الإدراك بأن المعركة الحقيقية ستحسم لمن يملك "نفسا طويلا" قادرا على "الزن المتواصل" على كافة الجبهات الشعبية من أجل إقناع الناس بأن الثورة مستمرة حتى نصل الى نظام تعددي حقيقي يعالج المشاكل الحقيقية للناس ويكون له برنامج عمل واضح وآلية في تداول السلطة. دون ذلك، فإن الصدام الدموي سيؤدي إما الى بقاء المجلس في الحكم برغبة شعبية من أجل "الأمن والآمان" أو الى صعود مد الجماعات الجهادية الحركية والتي تنتظر بفارغ الصبر التهام التيارات الليبرالية في مصر والداعين الى دولة مدنية.

سأكرر قصة كنت قد رويتها من قبل، ولكن لعل الذكرى تنفع..

في شهر مايو 2011 جمعتني مائدة عشاء مع مجموعة من الصحفيين القادمين من تسع دول مختلفة حول العالم. كنت المصري الوحيد بينهم. وكان الموضوع المسيطر على الجلسة هو الانبهار والاعجاب الشديد بالثورة المصرية وسلميتها وقدرتها على تغيير نظام قمعي مثل نظام مبارك. فقط زميلة إيرانية لم تبدو منبهرة أو سعيدة وقالت لي: احذروا أن تسرق ثورتكم مثلما سرقت ثورتنا قبل ثلاثين عاما. في تلك الليلة ظننت أنها تشعر بالغيرة من قدرتنا على التغيير وفشل الايرانيين في ذلك. لكن لاحقا تذكرت ما قالته لي خلال أحداث ليلة اقتحام السفارة الاسرائيلية، وخلال معارك استهداف أعين وصدور الثوار، وخلال الانتخابات الأخيرة وما صاحبها من تضليل!

حفظ الله ثورتنا من السرقة وألهم أبنائها الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.

Friday 23 December 2011

النور، إسرائيل، ونقلة شطرنج خارج الرقعة


يعتقد البعض أن حزب النور، وهو الممثل السياسي للتيار السلفي في مصر، هو حزب أيدولوجي محافظ على غرار جماعة الاخوان المسلمين في شكلها الحالي، وتحت قيادة مكتب الإرشاد الذي ينتمي أغلب أعضاءه للجناح القطبي في الجماعة.

لكن الحقيقة أن الحزب، كحال الجماعات السلفية في مصر، هو شديد المرونة في علاقاته السياسية، وهو يعتبر أن السعودية، تعد نموذجا سياسيا صالحا للمحاكاة في مسألة الفصل بين السلطة الدينية ممثلة في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل المملكة، والسلطة السياسية ممثلة في بيت آل سعود وتحالفاته التاريخية مع الولايات المتحدة والغرب.

لذا لم يكن غريبا أن نسمع المتحدث باسم حزب النور، وهو يبرر حديثه مع الاذاعة الاسرائيلية، بأنه نابع من انفتاح الحزب على الجميع وأن "العلاقة مع إسرائيل تستند الى رؤية شرعية" وأن الحزب ملتزم "بالعهود والمواثيق والمعاهدات التي عقدتها الحكومة السابقة مع إسرائيل".

نقلة شطرنج خارج الرقعة!

تأتي خطوة حزب النور كنقلة شطرنج تكتيكية خارج الساحة الداخلية. فبعد أن أطمأن الحزب أنه أكثر الأحزاب حصدا للأصوات في الانتخابات الحالية، بدأ في الاستعداد لمعركته مع المجلس العسكري في الموقعة المرتقبة التي ستحمل اسم: من يشكل الحكومة!

والحزب هنا يسير على نهج الرئيس الراحل أنور السادات، صاحب المقولة الشهيرة "تسعة وتسعين في المية من أوراق اللعب في إيد أمريكا". فإذا كانت واشنطن هي الطرف الحاضر دائما على الساحة المصرية بحكم علاقتها الاستراتيجية مع النظام المصري، بصرف النظر عن تغيير الواجهة أو كتابة يافطة جديدة، فإن حزب النور يدرك أن الطريق الى العاصمة الأمريكية يمر من خلال تل أبيب. وأن إرسال تطمينات الى "الجيران" على الحدود الشرقية ووصفهم بأن لهم في رقبتنا "عهودا ومواثيقا" ستكون ورقة يلعب بها الحزب عندما يطلب السلطة لاحقا. فهو من جهة يملك شرعية شعبية حصل عليها من انتخابات نيابية تابعها العالم، وهو من جهة أخرى لن يؤدي الى تهديد التوازنات السياسية التي تحكم العلاقة المصرية الاسرائيلية منذ عام 1979 (وهو عام التوقيع على اتفاقية كامب دافيد) وتشرف عليها الولايات المتحدة بشكل مباشر.

أما بالنسبة لدوائر صنع القرار في الولايات المتحدة فإن إدخال حزب النور الى معادلة الحكم في مصر، وإن مناصفة مع المجلس العسكري، سيضمن استمرارية معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية والتي لن تعود محصنة برغبة الجيش المصري في عدم خوض حروب مع إسرائيل، ولكن أيضا محصنة بقوة سياسية لديها تفويض شعبي.

أما بالنسبة لإسرائيل فإن صانع القرار الاسرائيلي يريد أن يكون على اتصال مع أكبر عدد من الأطراف السياسية وخصوصا الأطراف التي لها وجود على الأرض، وذلك لأنه يدرك أن انهيار نظام مبارك شكل ضربة موجعة لحساباته التي تجاهلت إشارات عديدة باقتراب نهاية هذا النظام، واستمرت في الاعتماد عليه.

كما إن إسرائيل تدرك أن إنشاء قناة حوار فعالة مع أقصى اليمين الديني في مصر هو بوابة للتعامل مع المد الإسلامي الصاعد في المنطقة.

مرونة النور والتجربة السعودية


إذا كان حزب النور يسعى لتغيير شكل الحياة في مصر الى شكل يتفق مع "الرؤية الشرعية"، والتي يقول أنها هي التي استند إليها في الحديث مع إسرائيل، فإن هذا الحزب لن يجد دولة "سلفية تستند الى الرؤية الشرعية" أكثر من المملكة السعودية والتي برهنت على مرونة سياسية قد لا تتمتع بها دول لا تحكمها أنظمة ثيوقراطية.

فمنذ حقبة مؤسس الدولة السعودية الحديثة، عبد العزيز آل سعود، وحتى عهد الملك الحالي عبد الله بن عبد العزيز، والمملكة السعودية تجد في الولايات المتحدة حليفا استراتيجيا لا يمكن التخلي عنه أو القبول بوجود ما يهدد هذه العلاقة.

لذا فإن المملكة وكي تثبت أنها مرنة "للغاية" فيما يتعلق بملف العلاقة مع إسرائيل، كانت صاحبة أكثر من مبادرة لإقامة علاقات مع الدولة العبرية مقابل سلام شامل في المنطقة. أبرز هذه المبادرات، مبادرة الأمير فهد (الملك لاحقا) التي طرحها في مؤتمر القمة العربية بفاس عام 1982 ومبادرة الأمير عبد الله (الملك لاحقا أيضا) التي طرحها في مؤتمر القمة العربية ببيروت عام 2002.

هذه المبادرات ستكون جزءا من الخطاب الذي سيستند إليه حزب النور في إقناع قواعده الشعبية في مصر بجدوى فتح حوار مع إسرائيل وفي أهمية الحفاظ على معاهدة السلام. وستكون مصر، في حال وصول حزب النور الى الحكم، أمام حالة فريدة من نوعها في تاريخها، حيث هناك خطاب اجتماعي محافظ للغاية يتم طرحه داخليا، بينما هناك خطاب آخر للتصدير، يعتبر وفيا بشكل مدهش للسياسة الخارجية لمبارك والسادات!

وفي هذا تكرار لتجربة الرئيس السادات الذي صدر لمجتمعه خطابا "إيمانيا إسلاميا"، يكون هو فيه "الرئيس المؤمن" لدولة "العلم والايمان"، بينما كان في هذا التوقيت يسعى للسلام مع إسرائيل وإقامة علاقات استراتيجية مع الغرب وكان يخاطب الإعلام الأمريكي باعتباره حاكما ليبراليا منفتحا على الطريقة الغربية وراعيا للتعددية السياسية.

يبقى تساؤل حول لماذا لم يكن حزب الحرية العدالة أو مالك الحزب وهو جماعة الاخوان، قادرين على فتح قنوات اتصال مع إسرائيل أو التمتع بالمرونة السياسية التي يتمتع بها حزب النور؟

الاجابة تكمن في النقطتين التاليتين:

1. لا تستطيع جماعة الاخوان أن تتخذ خطوة بالحوار مع إسرائيل خوفا من رد فعل قواعدها الشعبية التي اعتادت على خطاب سياسي قائم على إرثها النضالي ومشاركتها في حرب 1948 وفي التنديد الشعبي بالاعتداءات الاسرائيلية. والجماعة هنا حالها كحال حاملة الطائرات العملاقة التي تأخذ وقتا طويلا كي تغير اتجاه إبحارها.

2. سيطرة الحرس القديم على قيادة الجماعة تجعل التفكير في إقامة علاقة مع إسرائيل، خطوة خارج إطار تفكير هذه القيادات التي تركز على أن أقصى ما يمكن أن يفعلوه هو الحوار الدائم مع الولايات المتحدة وتقديم ضمانات للحفاظ على معاهدة السلام، دون التحدث مع الاسرائيليين.


ليس من قبيل المبالغة أن يقال عن الحوار بين المتحدث باسم حركة النور والاذاعة الاسرائيلية، أن هذا الحدث يعتبر الخطوة الأكثر دراماتيكية منذ زيارة الرئيس السادات للقدس عام 1977. فحزب النور لا يريد فقط الخروج الى العالم باعتباره القوة السياسية التي حصلت على ثقة الشعب المصري بعد الثورة، ولكن باعتباره جديرا بالاعتماد عليه في أية ترتيبات إقليمية، عندما تنتهي عواصف "الربيع العربي"..!

Tuesday 20 December 2011

أربع نقاط لكي نسبق العسكر.. أو هكذا أعتقد


"نفسي نسبق العسكر بخطوة ومانبقاش مجرد رد فعل...مش عارفة إزاي". هذا كان نص تغريدة صديقة تريد الخروج من الأزمة الحالية.. كان ردي بأني أعتقد أن لدي حلا ولكن ليس لدي الأمل في أن يكون لديه مستمع أو يلتفت إليه أحد.

لكننا في مرحلة تريد من أغلبنا أن يقل كلمته ولا يمض حتى يتأكد أنها وصلت، وأنها ربما تساهم في إصلاح شيئ مما تدمر ويدمر خلال هذه اللحظة الكئيبة من عمر الثورة.

النقاط التالية هي ما أعتقد أن على الثوار أن يفعلوه، ولا أريد أن أزايد عليهم وهم على الأرض، ولكن أحيانا تكون الرؤية من بعيد أوضح!


1. إدراك طبيعة المجتمع بأنه ليس ثوريا أو راديكاليا كحال طليعته الثورية. وبالتالي فمن المهم جدا أن يكون الثوار قادرين على صياغة خطاب شعبي يصل للناس البعيدة عن شبكات التواصل الاجتماعي كتويتر وفيسبوك، وهم الأغلبية، ويكون هذا الخطاب قادرا على أن يقول للناس بوضوح أن التغيير الذي تطالب به الثورة يعني عدالة اجتماعية وإعادة توزيع ثروات هذا الوطن على أكبر عدد ممكن من أبنائه.

2. أن هذا المجتمع لديه ثوابت تتعلق بالدين وبالدولة المركزية ومن يقف ضد هذا الثوابت فإنه إما غير مدرك لطبيعة مجتمعه أو أنه اختار الوقوف في الجانب الخاطئ من حركة التاريخ. وبالتالي فليس من المفيد الانتقاد الحاد لجموع الاسلاميين عبر السخرية من القيم الدينية. ولكن يجب أن يكون النقد مستهدفا السلوك السياسي لمن يمثلون التيارات الاسلامية وأن يصاغ خطاب شعبي يوضح أن هذا السلوك السياسي لا علاقة له بالدين الحنيف الذي نربأ بإقحامه في خلافات سياسية دنيوية. أما فيما يتعلق بالدولة المركزية فإن المواطن المصري بشخصيته التي تشكلت على مدى آلاف السنين، اعتاد منذ الدولة الفرعونية الأولى على أن العيش تحت ظل حاكم قوي مستبد أهون من العيش تحت ظل حاكم ضعيف طيب! وهنا يجب أن يكون الخطاب الموجه الى الناس فيه إعلان صريح بأن الثوار لا يريدون هدم الدولة أو مؤسساتها الباقية وإنما يريدون إصلاحها من أجل خدمة الناس. وأن في إصلاحها تقوية لهذه المؤسسات التي يفترض أنها تخدم المجتمع لا الحاكم.

3. الابتعاد عن الصدام والتركيز على النضال السلمي وابتكار أشكال أخرى للاحتجاج السلمي، هو الذي سيؤدي الى أن تقف الأغلبية مع الثوار وأن يتم سحب البساط من السلطة التي تريد أن تقول أن استخدامها المفرط للعنف هو رد فعل على عنف مضاد. وهنا يجب الالتفات لتجربة الثورة اليمنية التي تمسكت بسلمية الثورة رغم كل الضغوط الداخلية والخارجية لإخراجها عن هذا المسار والجنوح بها نحو مسار الثورة في ليبيا، والتي كانت بالغة الدموية وانعكاسا لصراع قبلي بين الشرق والغرب الليبي. ولا ينبغي أن نفرط في الاعجاب بالثورة المسلحة في ليبيا والتي أدت الى أن يتحول هذا البلد الى القاعدة البديلة لجماعات الجهاد الحركي بعد أن انسحبت عناصر عديدة من العراق وافغانستان. وعلى الثوار أن يدركوا بأن سقوط مصر في دوامة الصدام المسلح والعنف سيؤدي الى صعود التيار المتطرف من الجماعات الجهادية وأن أول من سيدفع الثمن سيكون عناصر التيار الليبرالي والتيار الذي يطالب بدولة مدنية تساوي بين جميع مواطنيها.

4. معركة الثوار الحقيقية لازالت هي الاعلام والوصول الى الناس، والمشكلة أن فئة من الثوار تعتقد أن القنوات الخاصة المملوكة لرجال أعمال هي أقل ضررا من الاعلام الحكومي المضلل، بينما في الحقيقة هي قنوات تخدم النظام والسلطة الحالية وفي أحيان كثيرة تخدم نظام مبارك ورجاله. فلا يمكن أن ننسى أن هذه القنوات لم تفتح إلا بتصريح من الأجهزة الأمنية للنظام السابق وأن ملاكها كانوا شركاء أساسيين في منظومة الحكم أيام مبارك وأصدقاء شخصيين لجمال مبارك. لذا يجب على الثوار أن يصلوا للناس من خلال قنوات بديلة وأن يركزوا جهدهم في التوعية على العمل على الأرض لا من خلال الاستديوهات وشبكات التواصل الاجتماعي. هكذا وصل السلفيون والاخوان للناس في القرى والنجوع واستطاعوا أن يحصدوا أصواتهم.

هذه أربع نقاط رئيسية قد تشكل برنامجا للعمل في المرحلة القادمة، وأتمنى لمن يريد الخروج من الأزمة أن يطورها أو يزيد عليها أو ينشرها إن رأى فيها خيرا، والله من وراء القصد والنصر لمصر وثورتها وفقرائها.

Friday 2 December 2011

وقائع مكالمة لم تنته مع ناشط لم يختف



فور علمي بنبأ اختفاء الناشط والصديق أنس حسن، دار في ذهني العديد من السيناريوهات غير المريحة، ربما أقربها هو سيناريو تعامل نظام الجنرالات في الأرجنتين مع معارضيه السياسيين خلال سبعينيات القرن الماضي.

وكانت قد دارت بيني وبين أنس مكالمة استمرت لأربعين دقيقة وفيها تعرض أنس لعدد من المواضيع التي قد لا يرغب في التطرق لها عند حديثه مع جمهوره الواسع في تويتر وفيسبوك، ورأيت أن نشر محتوى هذه المكالمة قد يكون ضغطا على من أخفى أنس كي يعود الى أهله ومحبيه.

وبما أن أنس قد ظهر ثانية، وإن كان قد أوضح أنه مازال يتلقى تهديدات غير معلومة المصدر، فإن ما كتبته (ونشرته لخمس دقائق قبل أن اضطر لسحبه ثانية بناء على نصيحة صديق مشترك بيني وبين أنس) يصبح غير ذي معنى الآن فيما عدا بعض النقاط التي تبدو لازمة للفهم ونحن نحاول أن نخرج بثورتنا من أزمتها الراهنة.

وهذا هو ما كتبته:

من هو أنس حسن؟ هذا السؤال ليس مهما بقدر أهمية السؤال حول سر اختفائه الآن وما الذي يمثله هذا الشاب الصغير في السن بالنسبة للقوى المشاركة في الحرب الباردة التي اندلعت يوم الحادي عشر من فبراير الماضي، ومازالت دائرة في ربوع مصر حتى هذه اللحظة.

مكالمة الساعات الأولى من الفجر

تعرفت على أنس على شبكة التواصل الاجتماعي، تويتر، ودارت بيننا حوارات كثيرة حول رؤيته للوضع في مصر وما الذي يجب على القوى الثورية أن تفعله كي تثبت أقدامها في الشارع المصري. كان أنس في كل هذه الحوارات يقدم رؤية عميقة للوضع على الأرض مع الأخذ في الاعتبار العوامل الاقليمية الأخرى. كما كان هادئا في طرحه، غير ميال للتطرف أو الشطط في أطروحاته.

في ذروة الاشتباكات التي اندلعت في شارع محمد محمود بين قوات الأمن والبلطجية من جهة وبين المدافعين عن ميدان التحرير، قام أنس بوضع تصوره للصراع في تغريدات متتابعة على تويتر وفي حوار مع أحد المغردين على هذه الشبكة الاجتماعية.

كانت تغريداته تحمل قدرا كبير من الفهم العميق لطبيعة الصراع بين السلطة الحاكمة الآن في مصر وبين القوى الثورية التي تحاول أن تنقل الثورة من حدود ميدان التحرير الى باقي ربوع مصر وصولا الى النظام الحاكم نفسه، الذي أثبتت الوقائع التالية على تنحي مبارك أنه لم يسقط، وإن تأثر بهزة أرضية عنيفة!

طلبت منه رقم هاتفه واتصلت به حوالي الساعة الثانية صباحا بتوقيت جرينتش، فجر الثاني والعشرين من نوفمبر الماضي. أجابني بصوته الهاديء المليء بالحيوية، وبدأنا النقاش بسؤالي له عن رؤيته للوضع في مصر.

دون الدخول في تفاصيل كثيرة هي كلها الآن موجودة على موقعه على تويتر أو الفيسبوك، ويمكن العودة إليها للاستفادة منها، كانت تلك هي أبرز النقاط التي تحدث فيها أنس:

  1. 1. شرحه لخريطة الصراع في مصر بين القوى السياسية وبين المجلس العسكري الحاكم والقوى الثورية الممثلة في الشباب المعتصم في التحرير.
  2. 2. إعرابه لي عن تشاؤمه من ما هو قادم من سيناريوهات، خصوصا وأن فاتورة الدماء التي أريقت في معارك شارع محمد محمود كانت في ارتفاع.
  3. 3. اقتناعه بأن الضرب العنيف في الثوار من خلال معارك شارع محمد محمود تم بضوء أخضر أمريكي وأن الصمت الغربي والأمريكي على هذا العنف (كان هذا هو الحال في تلك اللحظة) هو بهدف إعطاء المجلس العسكري فرصة كي يوجه ضربة قاصمة للقوى الثورية المشككة في إخلاصه لأهداف الثورة، وبطاقة إنذار للقوى الإسلامية من أن مصيرها لن يكون أفضل حالا إذا اختارت الصدام.
  4. 4. طلب مني أنس أن أطلع على مقالتين نشرتا في مجلة فورين بوليسي الأمريكية وفيهما إشارات الى السيناريوهات التي قد تشهدها مصر في المستقبل، وإشارات أخرى عن طبيعة ما يريده الأمريكيون لشكل الحكم في مصر وتحالفهم الاستراتيجي معها في ضوء ما يحدث في العالم العربي من موجات تغيير جارفة.
  5. 5. قال لي أنس إنه توصل الى استنتاج مفاده أن السبيل الوحيد للخروج من المأزق الراهن الذي تمر به الثورة المصرية هو التوعية المباشرة والنشطة والفعالة سواء على شبكات التواصل الاجتماعي أم على الأرض وبين مجموعات الشباب، وأنه يقوم بهذا الدور بشكل فعال في المحيطين به، على أمل أن ينتقل التأثير الى دوائر أوسع.

(النقاط من ستة الى عشرة تحتاج الى موافقة أنس على نشرها).

لماذا الآن؟ وما هي الرسالة؟

من ارتكب فعل إخفاء أنس في هذا التوقيت له أكثر من غرض (هذا هو ما توصلت إليه بالأمس ومازلت أعتقد أنه يصلح مع اختطاف ناشط مثل أنس):

  1. 1. هو يعلم جيدا أن المتابعين لأنس على شبكات التواصل الاجتماعي كتويتر وفيسبوك هم من الناشطين الفاعلين على الأرض وأن إخفاء أنس في هذا التوقيت، الذي يحمل صداما بين النظام وبين هؤلاء الناشطين، سيكون رسالة لهم على أن النظام قادر على ابتكار وسائل جديدة لضربهم دون أي خوف من العواقب.
  2. 2. أدرك القائمون على تأمين النظام أخيرا أنه لا توجد جهات خارجية قادرة على التأثير على الشباب المعتصمين في التحرير أو المعارضين لسيطرة المجلس العسكري على الحكم لفترة أطول، وأن حركة هؤلاء الشباب على ما تبدو عليه من عشوائية تستند الى أطروحات فكرية يقوم بصياغتها شباب مثل أنس حسن. فإذا أدركنا أن نسبة الشباب الذين يتمتعون بوعي أنس منخفضة للغاية، ندرك أن من خطط لإخفاء أنس كان يعلم أنه يخفي ناشطا مؤثرا للغاية بالنسبة للقوى الثورية المعتصمة في التحرير، بعد أن استطاع أن يعتقل ناشطا آخر لا يقل تأثيرا وهو علاء عبد الفتاح، وأن يصفي أعين نشطاء آخرين بارزين مثل مالك مصطفى وأحمد حرارة وأحمد عبد الفتاح.
  3. 3. من قام بإخفاء أنس يعلم أيضا الدور الكبير الذي يقوم به في توعية الشباب وفي التأثير عليهم، خاصة وأن الشهور العشرة الأخيرة أثبتت أن شباب ميدان التحرير والميادين الأخرى الراغبة في التخلص من نظام مبارك، غير قابلين للاختراق الفكري من قبل أعلام الصحافة والسياسة والثقافة على مدى العقود الثلاثة الماضية. وأن السبيل الوحيد للتأثير على هؤلاء الشباب سيكون من خلال شاب يثقون فيه وفي إخلاصه للثورة، لأنه من وجهة نظرهم لن يكون ملوثا بالمناصب الحكومية التي كانت توزع على أعلام الثقافة والأدب والسياسة خلال حقبة مبارك. وبالتالي فمن أخفى أنس أراد أن يحاول الوصول لتسوية من نوع ما مع أنس، وأن يفقد الشباب المعتصمين قدرتهم على التفكير العملي الذي قد يؤدي الى إحراز نتائج في صالحهم.
  4. 4. لا تحب "الأجهزة" الإزعاج أو ما يعرف بالعامية بـ"الزن". وأنس كان زنانا في قراءته العميقة للغاية لشكل الصراع السياسي في حقبة ما بعد مبارك، وفي خروجه بهذه القراءة من الدوائر الأكاديمية الى الدوائر الشعبية، من خلال لغة تصل للجميع وخاصة الشباب الذين كانوا في سنه.
  5. 5. من أخفى أنس أيضا كان يعلم أنه يتعامل مع شخص حاد الذكاء، واسع الاطلاع، تعرض لتجربتي اعتقال من قبل، وبالتالي فالأساليب التقليدية مثل الاعتقال من خلال أمر ضبط وإحضار قد لا تجدي معه ولابد من تصعيد نوعي.

ما الذي يمكن عمله؟

(هذه الوصفة تصلح مع أي ناشط أو صحفي يتعرض للاختفاء)

المؤشرات حتى اللحظة تشير الى أن أنس لن يتعرض بإذن الله الى سوء وأنه سيتم الافراج عنه سريعا بعد أن يتأكد القائمون على أمر الإخفاء أنه، وأصدقائه الذين في التحرير، قد استلموا الرسالة وقرأوها جيدا.

لكن، ولأنهم لا يحبون الزن، فإن الحل هو الزن في كل مكان إلى أن يعترفوا بوجوده لديهم أو يتركوه ومعه ما يكفي من أجرة تاكسي الى منزله.

هذا الزن نجح في حالات كثيرة، كنت شريكا في حالتين منها. المهم الآن أن يعود أنس الى أسرته وإلى محبيه وأن يدرك من قام بإخفائه ليومين أو ثلاثة أنه قد أسدى خدمةً لأنس ولنا عندما ارتكب هذا التصرف الذي لا يليق بوطن حر وكريم مثل مصر، لأنه كشف لنا عن وجهه الحقيقي دون ماكياج الخطابات والبيانات الجوفاء.