يعتقد البعض أن حزب النور، وهو الممثل السياسي للتيار السلفي في مصر، هو حزب أيدولوجي محافظ على غرار جماعة الاخوان المسلمين في شكلها الحالي، وتحت قيادة مكتب الإرشاد الذي ينتمي أغلب أعضاءه للجناح القطبي في الجماعة.
لكن الحقيقة أن الحزب، كحال الجماعات السلفية في مصر، هو شديد المرونة في علاقاته السياسية، وهو يعتبر أن السعودية، تعد نموذجا سياسيا صالحا للمحاكاة في مسألة الفصل بين السلطة الدينية ممثلة في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل المملكة، والسلطة السياسية ممثلة في بيت آل سعود وتحالفاته التاريخية مع الولايات المتحدة والغرب.
لذا لم يكن غريبا أن نسمع المتحدث باسم حزب النور، وهو يبرر حديثه مع الاذاعة الاسرائيلية، بأنه نابع من انفتاح الحزب على الجميع وأن "العلاقة مع إسرائيل تستند الى رؤية شرعية" وأن الحزب ملتزم "بالعهود والمواثيق والمعاهدات التي عقدتها الحكومة السابقة مع إسرائيل".
نقلة شطرنج خارج الرقعة!
تأتي خطوة حزب النور كنقلة شطرنج تكتيكية خارج الساحة الداخلية. فبعد أن أطمأن الحزب أنه أكثر الأحزاب حصدا للأصوات في الانتخابات الحالية، بدأ في الاستعداد لمعركته مع المجلس العسكري في الموقعة المرتقبة التي ستحمل اسم: من يشكل الحكومة!
والحزب هنا يسير على نهج الرئيس الراحل أنور السادات، صاحب المقولة الشهيرة "تسعة وتسعين في المية من أوراق اللعب في إيد أمريكا". فإذا كانت واشنطن هي الطرف الحاضر دائما على الساحة المصرية بحكم علاقتها الاستراتيجية مع النظام المصري، بصرف النظر عن تغيير الواجهة أو كتابة يافطة جديدة، فإن حزب النور يدرك أن الطريق الى العاصمة الأمريكية يمر من خلال تل أبيب. وأن إرسال تطمينات الى "الجيران" على الحدود الشرقية ووصفهم بأن لهم في رقبتنا "عهودا ومواثيقا" ستكون ورقة يلعب بها الحزب عندما يطلب السلطة لاحقا. فهو من جهة يملك شرعية شعبية حصل عليها من انتخابات نيابية تابعها العالم، وهو من جهة أخرى لن يؤدي الى تهديد التوازنات السياسية التي تحكم العلاقة المصرية الاسرائيلية منذ عام 1979 (وهو عام التوقيع على اتفاقية كامب دافيد) وتشرف عليها الولايات المتحدة بشكل مباشر.
أما بالنسبة لدوائر صنع القرار في الولايات المتحدة فإن إدخال حزب النور الى معادلة الحكم في مصر، وإن مناصفة مع المجلس العسكري، سيضمن استمرارية معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية والتي لن تعود محصنة برغبة الجيش المصري في عدم خوض حروب مع إسرائيل، ولكن أيضا محصنة بقوة سياسية لديها تفويض شعبي.
أما بالنسبة لإسرائيل فإن صانع القرار الاسرائيلي يريد أن يكون على اتصال مع أكبر عدد من الأطراف السياسية وخصوصا الأطراف التي لها وجود على الأرض، وذلك لأنه يدرك أن انهيار نظام مبارك شكل ضربة موجعة لحساباته التي تجاهلت إشارات عديدة باقتراب نهاية هذا النظام، واستمرت في الاعتماد عليه.
كما إن إسرائيل تدرك أن إنشاء قناة حوار فعالة مع أقصى اليمين الديني في مصر هو بوابة للتعامل مع المد الإسلامي الصاعد في المنطقة.
مرونة النور والتجربة السعودية
إذا كان حزب النور يسعى لتغيير شكل الحياة في مصر الى شكل يتفق مع "الرؤية الشرعية"، والتي يقول أنها هي التي استند إليها في الحديث مع إسرائيل، فإن هذا الحزب لن يجد دولة "سلفية تستند الى الرؤية الشرعية" أكثر من المملكة السعودية والتي برهنت على مرونة سياسية قد لا تتمتع بها دول لا تحكمها أنظمة ثيوقراطية.
فمنذ حقبة مؤسس الدولة السعودية الحديثة، عبد العزيز آل سعود، وحتى عهد الملك الحالي عبد الله بن عبد العزيز، والمملكة السعودية تجد في الولايات المتحدة حليفا استراتيجيا لا يمكن التخلي عنه أو القبول بوجود ما يهدد هذه العلاقة.
لذا فإن المملكة وكي تثبت أنها مرنة "للغاية" فيما يتعلق بملف العلاقة مع إسرائيل، كانت صاحبة أكثر من مبادرة لإقامة علاقات مع الدولة العبرية مقابل سلام شامل في المنطقة. أبرز هذه المبادرات، مبادرة الأمير فهد (الملك لاحقا) التي طرحها في مؤتمر القمة العربية بفاس عام 1982 ومبادرة الأمير عبد الله (الملك لاحقا أيضا) التي طرحها في مؤتمر القمة العربية ببيروت عام 2002.
هذه المبادرات ستكون جزءا من الخطاب الذي سيستند إليه حزب النور في إقناع قواعده الشعبية في مصر بجدوى فتح حوار مع إسرائيل وفي أهمية الحفاظ على معاهدة السلام. وستكون مصر، في حال وصول حزب النور الى الحكم، أمام حالة فريدة من نوعها في تاريخها، حيث هناك خطاب اجتماعي محافظ للغاية يتم طرحه داخليا، بينما هناك خطاب آخر للتصدير، يعتبر وفيا بشكل مدهش للسياسة الخارجية لمبارك والسادات!
وفي هذا تكرار لتجربة الرئيس السادات الذي صدر لمجتمعه خطابا "إيمانيا إسلاميا"، يكون هو فيه "الرئيس المؤمن" لدولة "العلم والايمان"، بينما كان في هذا التوقيت يسعى للسلام مع إسرائيل وإقامة علاقات استراتيجية مع الغرب وكان يخاطب الإعلام الأمريكي باعتباره حاكما ليبراليا منفتحا على الطريقة الغربية وراعيا للتعددية السياسية.
يبقى تساؤل حول لماذا لم يكن حزب الحرية العدالة أو مالك الحزب وهو جماعة الاخوان، قادرين على فتح قنوات اتصال مع إسرائيل أو التمتع بالمرونة السياسية التي يتمتع بها حزب النور؟
الاجابة تكمن في النقطتين التاليتين:
1. لا تستطيع جماعة الاخوان أن تتخذ خطوة بالحوار مع إسرائيل خوفا من رد فعل قواعدها الشعبية التي اعتادت على خطاب سياسي قائم على إرثها النضالي ومشاركتها في حرب 1948 وفي التنديد الشعبي بالاعتداءات الاسرائيلية. والجماعة هنا حالها كحال حاملة الطائرات العملاقة التي تأخذ وقتا طويلا كي تغير اتجاه إبحارها.
2. سيطرة الحرس القديم على قيادة الجماعة تجعل التفكير في إقامة علاقة مع إسرائيل، خطوة خارج إطار تفكير هذه القيادات التي تركز على أن أقصى ما يمكن أن يفعلوه هو الحوار الدائم مع الولايات المتحدة وتقديم ضمانات للحفاظ على معاهدة السلام، دون التحدث مع الاسرائيليين.
ليس من قبيل المبالغة أن يقال عن الحوار بين المتحدث باسم حركة النور والاذاعة الاسرائيلية، أن هذا الحدث يعتبر الخطوة الأكثر دراماتيكية منذ زيارة الرئيس السادات للقدس عام 1977. فحزب النور لا يريد فقط الخروج الى العالم باعتباره القوة السياسية التي حصلت على ثقة الشعب المصري بعد الثورة، ولكن باعتباره جديرا بالاعتماد عليه في أية ترتيبات إقليمية، عندما تنتهي عواصف "الربيع العربي"..!
بالظبط كده، هوّا ده الكلام، أبدعت ثانية يا باشا !
ReplyDeleteشكرا يا زعيم .. بعضا مما عندكم :))
ReplyDelete