ما هي هوية مصر؟ هل هي فرعونية أم إسلامية؟ قبطية
أم فاطمية؟ هذا السؤال له أكثر من إجابة.
لكن
قبل محاولة الإجابة على السؤال لابد من
معرفة أهمية السؤال.
منظرو
تيار "البنائية"
Constructivism في
فهم العلاقات الدولية يولون فكرة "الهوية"
اهتماماً
كبيراً خلال حديثهم عن أسس تيارهم الفكري.
وهم
يعرفون الهوية بأنها تلك الفكرة التي
يكونها مجتمع ما عن نفسه من خلال التعرف
على الهوية التي يتبناها مجتمع آخر.
مثلاً
لتحديد هوية مصر يجب أن نتعرف أولاً على
هوية ثلاثة أطراف إقليمية مجاورة لمصر
وهي الهوية العربية والهوية الأوروبية
والهوية الأفريقية.
وتكمن
أهمية الهوية هنا في إنها تحدد طريقة
تفكير مصر في علاقاتها الخارجية، وكيفية
ترتيب أولوياتها الإقليمية أو الدولية،
بل وتشريح مشاكلها الداخلية الناتجة عن
اصطدام "الهوية
الرسمية للدولة"
مع
هوية بعض الإثنيات المكونة للمجتمع المصري
(الهوية
النوبية مثالاً).
ولتبسيط
فكرة الهوية أكثر، يمكن أن نحاول تعريف
مصر.
على
سبيل المثال تعريف مصر بالنسبة لي مرتبط
بالزاوية التي رأيت هذا البلد منها.
وهي
زاوية الطبقة الوسطى.
أصدقاء
لي يرونها من هذه الزاوية ولكن يزيدون
عليها زاوية جذورهم الريفية.
أصدقاء
آخرون يرونها من خلال زاوية عائلاتهم في
قرى الصعيد.
وتنعكس
زاوية رؤية مصر على طريقة فهم كل فرد لهذا
البلد.
فالإعلام
المصري، الذي سيطر عليه تاريخياً أبناء
الشريحة العليا من الطبقة الوسطى أو
الطبقة الأرستقراطية، ينظر إلى مصر
باعتبارها موطن الحضارة الفرعونية
القديمة، والبلد الرائد إقليمياً في حركة
التنوير المرتبطة بالبعثات التعليمية
إلى الغرب.
أما
جماعة الإخوان على سبيل المثال فتنظر إلى
مصر كجزء من الأمة الإسلامية.
وهذا
مرتبط برؤية مؤسسها حسن البنا الذي أعتقد
أن تأسيسه لجماعة، يكون هدفها الأسمى
أستاذية العالم، سيكون رداً على سقوط
الخلافة العثمانية.
ومنذ
إنشاء الجماعة عام ١٩٢٨ وحتى يومنا هذا،
سيطر عليها القادمون من الريف، وذلك لأن
الفكر الديني أكثر انتشاراً في أوساطه
مقارنةً بأوساط أبناء المدن المتعددة
العرقيات، والتي كانت تضم بين سكانها
جاليات كبيرة من الأوروبيين.
إحدى
المشكلات المترتبة على مركزية الدولة في
مصر، أن أبناء العاصمة والمدن الكبرى هم
من يحددون طريقة النظر إلى هذا البلد
ودوره وهويته.
ولذلك
فإن عدداً كبيراً من أبناء المدن لا
يستوعبون أن القبائل البدوية في سيناء
جزء من مصر.
وقد
تسمع من ضباط الأمن الذين خدموا في سيناء
تشكيكاً في ولاء هذه القبائل لمصر.
وبالطبع
من السهل الربط بين فكرتهم عن قبائل سيناء
وبين جذورهم في المدينة أو الريف.
والحال
نفسه ينطبق على قبائل الصحراء الغربية
وأهل النوبة وقبائل الأمازيغ في الواحات.
ولأن
من يسيطرون على تحديد وجهة مصر الإقليمية
وتعريف دورها الحضاري أو السياسي هم أبناء
المدينة أو أبناء الريف، فإن صراعاً على
هوية هذا البلد لم يحسم منذ أن أسس محمد
علي الدولة المصرية الحديثة.
فمن
عادوا من البعثات التعليمية إلى أوروبا
في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين
اعتقدوا أن أفضل سبيل كي تتقدم مصر هو أن
تحاكي الغرب وأن تكون جزءاً من أوروبا لا
امتداداً لأفريقيا أو جزءاً من الشرق.
أما
أبناء الريف الذين تعلموا في أروقة الأزهر،
فاعتقدوا أن هوية مصر مرتبطة بأن يكون
هذا البلد جزءاً من الأمة الإسلامية
والمحيط العربي.
لذا
اندلعت هذه "الخناقة"
الفكرية
الشهيرة بين تيار التغريب (التنوير
على الطريقة الأوروبية)
وتيار
التعريب خلال السنوات الثلاثين الأولى
من القرن العشرين.
وهي
بالمناسبة "خناقة"
شبيهة
بتلك المندلعة حالياً بين أنصار الإخوان
وجماعات الإسلام السياسي والذين يعتقدون
أن مصر هي جزء من الأمة الإسلامية وأن
المكون الرئيسي لحضارتها مرتبط بالفتح
العربي، وبين تيار يحب أن يعرف نفسه
باعتباره "التيار
المدني"
ويعتقد
أن مصر تصلح أن تكون امتداداً لدول جنوب
أوروبا وأن أكثر عصور مصر ازدهاراً هي
تلك المرتبطة بالملكية التي أخذت طابعاً
أوروبياً، وأن ارتباط مصر بالقضايا
العربية أو الإسلامية عبء عليها.
وهنا
يحدث هذا الصدام بين مصر الفرعونية ومصر
الإسلامية، مع تهميش شبه كلي لمصر الفاطمية
ومصر القبطية.
تكرار
هذا الصدام بين تيارين خلال أقل من مئة
عام، يشير بوضوح إلى أن الصراع على هوية
مصر لم يحسم بعد.
وما
أطرحه هنا ليس انتصاراً لهوية على هوية
أخرى، ولا تفضيلاً لتعريف جماعة أو تيار
لمصر كفكرة ومشروع، وإنما محاولة لفهم
بعض الظواهر.
نبدأ
بالظاهرة الأولى وهي رفض التيار المدني
أن يلقب بالتيار العلماني، وذلك بسبب
المدلول السلبي لكلمة "العلمانية"
لدى
معظم المصريين.
فالتيار
الإسلامي استطاع أن يقنع العقل الجمعي
المصري والعربي بأن العلمانية مرادف
للإلحاد ورفض الدين، بل ومعاداته.
فلجأ
خصومهم إلى مصطلح "الدولة
المدنية"
كبديل
لمصطلح "الدولة
العلمانية"،
وذلك حتى لا يتم اتهامهم بأنهم أعداء
للدين، في مجتمع يعتبر الدين هو المكون
الرئيسي في شخصيته.
ثم
حاول الجميع قبل الانتخابات الرئاسية
الأخيرة التوصل إلى نوع من أنواع التوافق،
فقالوا إن الدولة في الإسلام هي دولة
مدنية، دون الدخول في تعريف مفهوم الدولة
في الإسلام أو تعريف مدنية الدولة أو
تعريف العلمانية.
وكأن
جزءاً من الشخصية المصرية هو تأجيل المعارك
التي تحتاج إلى حسم، خوفاً من أن يؤدي ذلك
إلى ضياع مكتسباتها الاجتماعية أو
الاقتصادية.
لكن
أهم ما تبقى من معركة المصطلحات، (العلمانية
أو المدنية)،
أنها أشارت إلى استمرار الصراع بين تيار
يعتقد أن مستقبل مصر كدولة علمانية مدنية
سيسهل عملية انتقالها الديمقراطي وسيتيح
لها أن تحظى بحياة سياسية شبيهة بتلك
الموجودة في القارة الأوروبية.
وبين
تيار آخر يعتقد أن مصر الإسلامية هي التي
ستضمن لهذا البلد أن يكون رائداً ضمن أمته
الإسلامية ومحيطه العربي.
وقد
استخدم كلا التيارين أمثلة مضللة لإثبات
صحة ما يؤمنان به.
فالتيار
العلماني المدني دلل على نجاح العلمانية
عبر الإشارة إلى دول غرب أوروبا، دون أن
يدرك أن هذه الدول مرت بمراحل تطور مؤلمة
ودموية على مدى قرون.
أما
التيار الإسلامي فاستخدم تركيا كمثال
دون أن يدرك أنها أسست كدولة علمانية إلى
درجة التطرف.
الظاهرة
الثانية هي تلك التحولات العنيفة التي
يقوم بها المجتمع عند الحديث عن هويته
واتجاهاته.
على
سبيل المثال، قرر الحاكم الجديد لمصر بعد
١٩٥٢ أن يتوجه شرقاً لا غرباً.
وبالرغم
من تكوينه الثقافي الغربي إلا أن قراره
جاء كرد فعل لامتناع الغرب عن مساعدته في
بناء السد العالي.
وخلال
هذه السنوات كانت الهوية العربية للمجتمع
مقدمة على أي هويات أو انتماءات أخرى.
أما
خلفه فقد قرر التوجه غرباً بعد قراره
بإقامة سلام منفرد مع إسرائيل.
وعندما
قوبل قراره بمقاطعة إقليمية، ارتفعت
أصوات داخل المجتمع بأن مصر ليست عربية،
وإنما فرعونية.
ولم
يكن ذلك مرتبطاً بقرار سياسي، وإنما
تعبيراً عن أزمة مجتمع لم يحدد بعد هويته
الحقيقية.
ومن
المثير أنه في فترة التوجه العربي للدولة،
كان المجتمع مواكباً لذلك عبر انفتاحه
على محيطه ورغبته في أن يلعب دوراً رئيسياً
في القضايا العربية.
وعندما
حدث التحول في السبعينيات وبدأت الدولة
في "فك
ارتباطها العربي"،
تحول المجتمع معها إلى كراهية كل ما هو
عربي، وفي التأكيد على ذلك عبر استخدام
تعبيرات تدل على تعاليه واحتقاره لمحيطه
الإقليمي، والتأكيد على الهوية الفرعونية،
بل والتطرف إلى حد استخدام البعض للعامية
المصرية في الكتابة كبديل للكتابة باللغة
العربية الفصحى.
الظاهرة
الثالثة تتعلق بمشاعر المجتمع تجاه قضية
الصراع العربي الإسرائيلي أو القضية
الفلسطينية.
قبل
ثورة ١٩٥٢ كانت المشاعر الوطنية المصرية
تلتقي مع المشاعر القومية العربية في رفض
إقامة دولة عبرية على أرض عربية تعتبر
جسراً بين بلاد الشام ومصر.
لهذا
كانت الأصوات المعارضة لإرسال قوات مصرية
للمشاركة في حرب فلسطين عام ١٩٤٨ خافتة
على الرغم من التأثير الكبير للأصوات
التي كانت تدعو إلى أهمية ربط بمصر بأوروبا.
بعد
عام ١٩٥٦، ومع تصاعد مكانة مصر في العالم
العربي وما تبع ذلك من وحدة مع سورية،
أصبحت القضية الفلسطينية هي محور السياسة
الخارجية المصرية، كما أصبح المجتمع
يعتبر هذه القضية شأناً داخلياً.
ولم
تتغير مشاعرها نحوها حتى عام ١٩٦٧ عندما
أدت الهزيمة إلى صعود بعض الأصوات التي
تنادي بفك ارتباط مصر عن محيطها العربي.
لكن
هذه الأصوات بقيت بعيدة عن التأثير بسبب
الخطاب السياسي الذي قرر تأجيل حسم الكثير
من القضايا لحين "رفع
آثار العدوان وإزالة الهزيمة".
أي
لحين المواجهة العسكرية القادمة مع
إسرائيل.
بعد
حرب ١٩٧٣ وبعد أن بدا أن القيادة السياسية
المصرية تتجه نحو عقد سلام مع إسرائيل،
أصبحت القضية الفلسطينية عبئاً على
السياسة الخارجية المصرية، وعادت الأصوات
التي تنادي بفك ارتباط بمصر بالقضية
الفلسطينية للظهور.
ومع
تسارع التطورات السياسية والتي بلغت ذروتها
مع زيارة السادات إلى القدس في عام ١٩٧٧
والمقاطعة العربية لمصر، كانت الأصوات
التي تدعو إلى صياغة هوية فرعونية لمصر
هي الأكثر تأثيراً في الخطاب الإعلامي
الرسمي.
ومنذ
تلك اللحظات بدأ البعض في التعبير بشكل
صريح عن "كراهية
الفلسطينيين والعرب اللي مصر افتقرت
علشانهم".
وأصبح
من الشائع أن تسمع لعناً لتلك الأزمان
التي كانت فيها مصر ترسل البعثات التعليمية
للدول العربية أو ترسل قواتها لتحارب من
أجل الجمهوريين في اليمن أو دعماً للمناضلين
في الجزائر.
لكن
ذلك تواكب أيضاً مع إحساسٍ عميق بالإحباط.
ففي
تلك الفترة بدأت الدول النفطية العربية
في الحصول على تدفقات مالية هائلة، وقد
كان هناك إحساساً لدى المصريين بأن ما
فعلوه خلال حرب ١٩٧٣ كان سبباً في ارتفاع
أسعار النفط وزيادة تلك التدفقات، بينما
في المقابل كانت مصر ترزح تحت وطأة أزمات
اقتصادية خانقة بعد ما أنفقته خلال حروبها
مع إسرائيل.
اغتيل
السادات عام ١٩٨١ وتولى نائبه حسني مبارك
الرئاسة وظلت مصر الرسمية والشعبية (عدا
بعض التيارات اليسارية والقومية)
تنأى
بنفسها عن القضايا العربية.
لكن
مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وجد
مبارك فرصةً نادرة لجني الأرباح من ذلك
النزاع الإقليمي.
فقد
كان صدام حسين في تلك الفترة على استعداد
لاستقبال أي عدد من العمالة المصرية مقابل
الدعم العسكري.
لكن
كان على مبارك قبل ذلك أن يعيد مصر إلى
المحيط الإقليمي العربي أولاً.
وهنا
استحضرت القيادة السياسية المصرية الخطاب
القومي في الإعلام الرسمي.
ولم
يكن من الغريب أن أكثر دولتين استفادتا
مادياً من الحرب العراقية الإيرانية هما
الأردن التي أصبحت المنفذ البحري والبري
لصفقات السلاح العراقية مقابل الحصول
على نفط مجاني.
ومصر
التي باعت للعراق كميات هائلة من العتاد
العسكري والسلاح، بل وساهمت بخبرات عسكرية
مصرية في بعض المعارك مثل معركة الفاو،
ووافقت على تجنيد مصريين داخل الجيش
العراقي، وكل ذلك مقابل فتح أبواب العمل
للمصريين في العراق بلا حدود.
ثم
تم التأكيد على الهوية العربية لمصر مرة
أخرى خلال الاحتلال العراقي للكويت
ومشاركة القوات المصرية في عملية التحرير.
وفي أعقاب حرب الخليج عام ١٩٩١ وحتى الآن، والهوية العربية
لمصر لها مواسمها.
فالتأكيد
على أهمية مصر للعرب وأهمية العرب لمصر
وأهمية القضية الفلسطينية لا يتم إلا
عندما يتعرض العراق لضربة عسكرية عام
١٩٩٨ أو لغزو عام ٢٠٠٣ أو تتعرض غزة للقصف
والحصار أو القدس لانتهاكات أو تندلع
انتفاضة فلسطينية كما حدث عام ٢٠٠٠.
ويواكب
تلك المواسم أغانٍ وطنية يؤديها مطربون
لديهم استعداد للمشاركة لاحقاً في الهجوم
على العرب والتأكيد عن هوية مصر الفرعونية،
مثلما حدث في أعقاب مباراة كرة قدم مع
الجزائر على أرض السودان.
ولهذا
أصبح من الشائع أن المواطن المصري يشعر
بانتمائه العربي عندما يتعرض جاره العربي
لاعتداء، ثم يلعن ذلك الانتماء عندما
يدخل في خلاف مع نفس الجار.
ولم
يعد من السهل معرفة الهوية الحقيقية لهذا
المجتمع.
هل
هو عربي أم فرعوني أم إسلامي أم أفريقي
أم متوسطي.
خصوصاً
وأن تلك الهويات ليست منسجمة، وبينها من
أسباب الخلاف أكثر من نقاط الالتقاء.
وربما
عبر الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة عن
تلك المعضلة بشكل بارع في مسلسله "أرابيسك"
عندما
جعل بطل المسلسل حسن أرابيسك، المكلف
بصنع ديكور فيلا الدكتور برهان، يهدم
الفيلا لأنه اقتنع باستحالة الجمع بين
الديكور الشرقي الإسلامي العربي والديكور
الغربي الأوروبي في مكان واحد!
ومن
المفارقات أن كاتب المسلسل الذي بدأ حياته
قومياً عربياً تحول في سنوات عمره الأخيرة
إلى التأكيد على فرعونية الهوية المصرية
وكفره بالعرب.
وقد
كان السبب وراء ذلك أنه وجد استحالة الجمع
بين عدائه للسعودية وبين هويته العربية،
فقرر التخلي عن تلك الهوية والكتابة عن
روابط مصر الأوروبية كما ظهر ذلك في مسلسله
زيزينيا والذي تناول فيه أوضاع الجالية الإيطالية في الاسكندرية خلال الحرب
العالمية الثانية.
إذن
ما هي هوية مصر؟ حتى الآن لا أحد يمتلك
الإجابة ويبدو أن ذلك سيظل أمراً تحدده
أي سلطة لديها تفويض شعبي واسع.