Thursday, 28 August 2014

السبع وصايا: تفاحة سيد المحرمة



١

بالرغم من مرور أكثر من خمسة عشر عاماً، لا أزال أذكر حلقة مدبلجة مدتها عشرون دقيقة من مسلسل أمريكي للرسوم المتحركة. الحلقة تدور حول مجموعة من الصبية الذين يلعبون الكرة بالقرب من سور بيت قديم.

خلال اللعب يخطئون في قذف الكرة وتهبط خلف سور البيت القديم. يتطوع أحدهم للذهاب لاسترداد الكرة. لكن أقرانه يحذرونه من أنه سوف يختفي كما اختفى صاحبهم القديم "سامح" عندما ذهب لاسترداد الكرة التي سقطت خلف سور البيت القديم ولم يعد. يشعر الصبي بالخوف. يتراجع عن الفكرة. في اليوم التالي يتكرر الأمر، ويتكرر التحذير. في اليوم الذي يليه يقرر الصبي الذي لم يقابل سامح ولم يكن حاضراً واقعة اختفائه، أن يسترد الكرة. يذهب الى بوابة السور المخيفة. يتخطاها. يصل الى باب البيت. يبدأ بالطرق. يظن أن البيت مهجور. يفتح باب البيت ويقابله ظلامٌ دامس. تظهر من بين الظلام سيدةٌ عجوز معها شمعة.

تسأله السيدة: أنت جيت ليه؟ يجيب وهو يرتعد: علشان أجيب الكرة. تخبره: أنا عندي كور كتير جوة. ادخل خد اللي أنت عايزه. بعد تردد يذهب لأخذ كرة، ويهم بالخروج من البيت. لكن السيدة تسأله بطيبة: أنت مش عايز تشرب عصير؟ ثم تقوم وتحضر له عصيراً ويبدو من حديثها أنها سيدة طيبة، حيث تطلب منه أن يذهب ويحضر أصدقائه ليلعبوا بالكرات الكثيرة الموجودة في منزلها.

ينجح الصبي في إقناع أصدقائه بالدخول. يفاجأون بكرم وطيبة السيدة العجوز.

خلال لعبهم، تنتقل الكاميرا الى وجه السيدة العجوز وهي تقول بصوت خافت: فكروني بالواد سامح!

وتنتهي الحلقة.

لا أحد يعلم ما الذي حدث لسامح. هذا متروك لخيال المشاهد. المهم أن صناع هذه الحلقة استطاعوا بناء حدث في خيال المشاهدين، وتركوا المشاهدين يتخبطون بين الإحساس بالخوف من السيدة العجوز، ثم الإحساس بأنهم ظلموها، ثم العودة الى هذه النهاية المفتوحة.

البطل هنا هو خيال المشاهد نفسه!

٢

في الحلقة الأولى من مسلسل السبع وصايا، نتعرف على سبع إخوة. بوسي، الأخت الكبرى. محمود، صبري، منصف، إم إم، مرمر وهند.

سبع شخصيات متباينة في مدى التزامها الأخلاقي والديني. منهم من يعمل خادما لمسجد. ورعٌ وتقي. ومنهم من يحترف الجريمة. بلطجي للإيجار!

في الحلقة الأولى تقنعهم بوسي بأن أبيهم لديه في البنك ثمانية وعشرين مليوناً من الجنيهات. ليس من المهم معرفة كيف جمع المال. لكن من المهم أن تعلم الأشياء التالية: هذا الأب قاسٍ وبخيل. لم يكن أباً حنوناً أو رحيماً. هو في غيبوبة لم يفق منها منذ ست سنوات.

الحل الذي تطرحه بوسي هو قتله كي ينعم كل ابن وابنة بنصيبه من الميراث. يستيقظ "سيد نفيسة" من غيبوبته فجأة ويشتم أبناءه ويطلب من بوسي محاميه. يبدو أن يخطط لمنع أبنائه من التمتع بثروته. يعود الى الغيبوبة مرة أخرى. تدخل بوسي الى غرفته وتنزع عنه المحلول الذي يبقيه حياً. يموت سيد نفيسة في فراشه الذي لم يغادره منذ ست سنوات.

أثناء مظاهر الحزن المفتعل، تنتقل الكاميرا الى باب غرفة سيد نفيسة المفتوح لنشاهد سريره وقد خلا من جثة سيد نفيسة!

تنتهي الحلقة الأولى.

من سيشاهد الحلقة الثانية فإنه سيكون مثل من شاهد حلقة "فكروني بالواد سامح".. سيكون قد وقع عقداً مع صناع العمل بأن العقلانية والمنطق هما فعلٌ جانبي لحدوتة أكثر غموضاً ورمزية مما تبدو عليه!

منذ تلك اللحظة وحتى المشهد الأخير في الحلقة الثلاثين والسؤال هو: كيف اختفت جثة سيد نفيسة؟

لكن المشاهد يكتشف أن اختفاء جثة سيد نفيسة وعودتها المرهونة بتنفيذ الوصايا، ليست هي الهدف من الرحلات المرهقة للإخوة السبعة. لكن الهدف هو فك شيفرات الرموز التي تتجسد في الأب الغائب جسداً والحاضر في أحلام أبنائه. تتجسد في الوصايا التي لا يقبل تنفيذها الجدل، لكن تقبل التأويل!

تبلغ الرمزية ذروتها في مشهد محاكاة لوحة "العشاء الأخير" في الحلقة التاسعة والعشرين، وفي سؤال الأخوة وهم يحتضرون لبوسي، الابنة الوحيدة التي يشعر معها الأب أنها من صلبه، "قتلتينا ليه يا بوسي؟"، فتأتي إجابتها بكل ما تحمله من يقين: "وصية أبويا ولازم أنفذها." لكن صبري هو يهوذا الحدوتة! خان بوسي ولم ينفذ وصيته.

هناك طريقتان إذن للتعامل مع "السبع وصايا" كعمل فني. الطريقة الأولى والتي وقع في أسرها المشاهدون حتى الثلث الأخير من المسلسل، هي تناول التفاصيل والأحداث بشكلها الظاهري والانشغال بما هو منطقي منها أو البحث عن إجابة عقلانية لظواهر ميتافيزيقية.

أما الطريقة الثانية فهي عدم مشاهدة الحلقة الأخيرة، والتوقف عند الحلقة التاسعة والعشرين، ثم الرجوع بالذاكرة الى بعض مشاهد العمل للتأكد من أن المسلسل لم يكن مجرد حدوتة عن ميت يبتز الأحياء برجوع جثته، وإنما عن تصور أدبي للقدر وأزمة الإنسان بين ما هو مخيرٌ فيه وما هو مسيرٌ إليه، وعن أشياء أخرى أعمق..

٣

بعد سنوات من الآن سينضم مسلسل "السبع وصايا" الى كلاسيكيات الدراما. ستعود إليه أجيالٌ قادمة من المشاهدين لإعادة اكتشافه. سيتوقفون عند موسيقى هشام نزيه، والحضرات الصوفية. سيبحثون عن الرموز المرئية التي وظفها ببراعة خالد مرعي. سيقرأون السيناريو والحوار مطبوعاً ويحللون مشاهد بعينها.

ربما سيتجادلون في شبكات التواصل الاجتماعي حول من هو ممثلهم أو ممثلتهم المفضلة في هذا العمل. وسيجمعون على أن بوسي (رانيا يوسف) أتقنت أداء دور شديد الصعوبة، وأن مرمر (ناهد السباعي) أدت دوراً مركباً ومدهشاً. ثم سيشيدون بأداء إم إم (هنا شيحة) وزوجها أحمد عرنوس (وليد فواز)، وسيحزنون على قصة حبهما الأليمة. وبالتأكيد لن يكفوا عن الإعجاب بالأداء المذهل لأوسة (سوسن بدر) في هذا العمل، أو الانبهار بصوت وأداء سيد نفيسة (أحمد فؤاد سليم). صبري (شاهين) ومحمود (صبري فواز) ومنصف (هيثم زكي) ودلال (نسرين أمين) وماجدة (شيرين الطحان) وشحاتة (ابتهال الصريطي) وإسعاد (ألفت إمام)، سيكون لهم نصيبٌ من الإعجاب والإشادة.

لكن انبهار الأجيال القادمة من المشاهدين بالعمل سيظل طازجاً كما هو اليوم. فالمسلسل لم ينشغل بالأحداث السياسية الجارية. وإنما جعلها مجرد إطار زمني لأحداث العمل. فنحن نعلم من خلال بعض الجمل الحوارية أن الأحداث تجري بعد ثورة يناير ٢٠١١، وأنها تمتد لما بعد عزل مرسي من الحكم. لكن لا ينشغل المسلسل بإظهار الانتماءات السياسية لأبطال العمل ولا مواقفهم مما يجري في المجتمع. هذا ليس موضوعه. فالمجتمع في المسلسل هو الأخوة السبعة. وهذه هي القراءة وفق الطريقة الأولى. أما لو كنت ممن يفضلون قراءة العمل وفق الطريقة الثانية، فإن المسلسل سيأخذك الى تلك المنطقة التي ربما ستفضل اجتنابها!

٤

حيرجع.. حيرجع.. هو راجع! ... فكروني بالشيخ سيد!