شخصان فقط صاغا قواعد وطريقة حكيّ الحدوتة البصرية في مصر منذ السبعينيات؛ وحيد حامد في السينما وأسامة أنور عكاشة في الدراما التلفزيونية. أجيال من كتاب السيناريو والدراما اختاروا إما الالتزام بتلك القواعد أو التمرد عليها، لكن ظل تأثير وحيد حامد ظاهراً من خلال طريقته في كتابة جمله القصيرة القريبة من الواقع أو أسامة أنور عكاشة من خلال طريقته في كتابة جمله الطويلة الاستدراكية.
الاثنان كانا أبناء الريف. وحيد حامد جاء من قرية في محافظة الشرقية وأسامة أنور عكاشة جاء من طنطا في محافظة الغربية. ولد أسامة في عام ١٩٤١، بينما ولد وحيد في ١٩٤٤. في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ تحركت وحدات من الجيش وسيطرت على الحكم. ما بدأ كانقلاب عسكري كلاسيكي، تبنى قانوناً للإصلاح الزراعي بعدها بشهور ثم تم إعلان الجمهورية وبدأت تظهر ملامح مشروع اجتماعي يهدف إلى زيادة حجم الطبقة الوسطى عبر إحداث حراك اجتماعي هو الأكبر منذ تأسيس الدولة مع محمد علي باشا قبلها بمائة وخمسين عاماً. خلال تلك السنوات تشكل وعيّ أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد. كانا أبناء تجربة مهتمة بصياغة شكل مجتمع جديد لديه اشتباك مع العصر والحداثة، حتى وإن أدى ذلك إلى الصدام مع التيارات اليمينية في المجتمع ومن بينها جماعة الإخوان المسلمين. لكن الانقلاب العسكري الذي تحول إلى ثورة بسبب تغييره العميق والمستمر في بنية المجتمع وشكل الدولة، لم يكن مهتماً بالحريات أو التعددية السياسية وهو ما مهد الطريق لهزيمته المفاجئة والهائلة في يونيو ١٩٦٧.
عندما بدأ وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة مسيرتهما الفنية في سنوات السبعينيات كانت الدولة قد قررت التحول من اقتصاد بملامح اشتراكية ومبادئ للحفاظ على الطبقة الوسطى ودعمها إلى اقتصاد رأسمالي في نسخته الأمريكية القائمة على الاستهلاك الدائم والكثيف لكل ما يمكن استيراده حتى ولو على حساب الصناعات الوطنية. كانت سياسة "الانفتاح الاقتصادي" التي تم أعلنها عام ١٩٧٥ بداية النهاية الرسمية لمشروع يوليو الاجتماعي وبداية عصر "أمريكي" جديد في مصر. تزامن ذلك مع انتقال مراكز الثروة المالية في العالم العربي إلى دول الخليج في أعقاب حرب أكتوبر ١٩٧٣ والتي تسببت في قفزة كبيرة في أسعار النفط. شهد وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة هجرة مئات الآلاف من المصريين إلى دول الخليج ثم تسلل القيم المتأثرة بالمذهب الوهابي السلفي إلى مصر.
الفراغ الذي تركه انهيار مشروع يوليو في ١٩٦٧، ثم موجات الهجرة إلى الخليج خلال النصف الأول من السبعينات، ساعد الجماعات الإسلامية على إطلاق مشروعهم الذي أسموه "الصحوة الإسلامية". دعمهم خلال تلك السنوات أحد ضباط يوليو الأحرار، الرئيس "المؤمن" محمد أنور السادات، والذي وجد في الجماعات الإسلامية حليفاً يعتمد عليه في محاربة التيارات اليسارية والناصرية المعارضة لسياساته الاقتصادية أو مساهمته في إطلاق العصر "الأمريكي" في مصر. تغير شكل المجتمع الذي ينتمي إليه أسامة ووحيد بعنف وبسرعة كانت مفزعة لهما!
وحيد والعصر "الأمريكي"
في أعمالهما خلال سنوات الثمانينيات كان الاثنان يقدمان نقداً قاسياً للفترة التي بدأ فيها إنهاء مشروع يوليو الاجتماعي. تلك السنوات التي رعت فيها الدولة مظاهر الفساد التي رافقت "عصر الانفتاح الأمريكي". اعتبر وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة تلك السنوات أحد أسباب صعود التيار الإسلامي.
في عام ١٩٨٣ يحاكي وحيد حامد في فيلم "الغول" مشهد اغتيال السادات، عندما ينهال الصحفي عادل عيسى (عادل إمام) بالساطور على رجل الأعمال فهمي الكاشف (فريد شوقي). يبدأ مخرج "الغول" سمير سيف المشهد بلقطة لعادل عيسى وهو يقف خارج البرج الذي يحتوي مقر شركات فهمي الكاشف. يختار سمير سيف تصوير أحد أركان البرج من أسفل لأعلى، لترسم اللقطة شكل هرمٍ أسمنتي شبيه بهرم الجندي المجهول الذي يقع أمام منصة العرض العسكري يوم ٦ أكتوبر ١٩٨١، والذي تم دفن جثمان السادات أسفله بعد الاغتيال. يخرج فهمي الكاشف من الأسانسير مبتسماً مزهواً بنفسه وفي يده سيجار ويرتدي بدلة "سفاري" زرقاء اللون (ارتدى السادات يوم اغتياله زياً عسكرياً أزرق اللون، استمد تصميمه من بدل الضباط الألمان خلال الحقبة النازية!) وإلى جواره مساعده يوسف مهران (أسامة عباس) وخلفه وحوله حاشية من المساعدين. يعترض رجلا أمن عادل، فيقول: "كلمة واحدة يا بيه لو أمكن؟".
يشير فهمي بيده أن يتركوه ويقول: "سيبوه.. مشيرة شافتك وأنت كدة؟".
يتقدم عادل نحو فهمي ثم يقول: "ما دفعتش ليه الفلوس لعيلة مرسي السويفي؟"
فهمي: "أنت لسة ما حرمتش؟! ما كان من الأول. أنا مش شركة تأمين يا أخ عادل.. وعلى العموم الفلوس اتصرفت في القضية."
عادل: "حضرتك شوفت صورتك في الجرنال؟"
فهمي: "يعني.. ليه؟"
عادل يمسك بساطور كان يخفيه في جريدة مطوية ثم يقول: "أصل فيه صورة حتطلع لسيادتك في جرنال بكرة، مش حتلحق تشوفها!"
ثم ينهال عادل بالساطور على رأس فهمي، فيصرخ الأخير: مش معقول! (نفس العبارة التي قيل أن الرئيس السادات قالها عندما قفز خالد الإسلامبولي من عربة عسكرية تجر مدفع، توقفت فجأة خلال العرض العسكري وركض باتجاه المنصة ليرمي قنبلة يدوية. وقف السادات وصاح في البداية: ارجع يا ولد.. ثم بدأ خالد الإسلامبولي وعطا طايل وعبد الحميد عبد السلام في التصويب باتجاه المنصة التي كان يجلس فيها كل رجال الصف الأول من الدولة. سقط السادات وبدأ المحيطين به في رمي الكراسي نحو مكان سقوطه كي يحموه من وابل الرصاص) في الفيلم تختفي الحاشية التي كانت حول فهمي الكاشف ثم تظهر لقطة يرمي فيها رجال حاشيته ورجليّ الأمن بالكراسي نحو مكان سقوط فهمي!
اعترضت الرقابة على الفيلم وقالت في تقريرها الذي تم نشرها بعد ذلك "إن هذا الفيلم يعد مظاهرة سياسية مضادة للنظام القائم في البلاد ومعاداة لنظام الحكم ومؤسساته القضائية، واتهام بعض أجهزة الدولة بالتواطؤ مع الرأسمالية ضد مصالح الشعب، ويشجع بل يدعو الى الثورة الدموية ضد أصحاب رؤوس الأموال. كما تؤكد اللجنة ان هذه المعاني من شأنها التأثير بطريقة سيئة على عقول الشباب وتزعزع ثقتها في القضاء وغيره من أجهزة الدولة. كما تضمن المصنف بعض المشاهد والاحداث التي تبدو وكأنها نوع من المتاجرة ببعض الأحداث المحلية المتعاقبة والجارية على النحو الذي يصبغه بطابع سياسي على جانب كبير من الخطورة" وذلك في إشارة إلى مشهد قتل فهمي الكاشف ومحاكاة مشهد اغتيال الرئيس السادات!
يكرر وحيد حامد تجربة انتقاد النظام من خلال محاكاة "الأحداث المحلية المتعاقبة والجارية" عبر تجربته في فيلم "البريء" الذي عرض في صالات السينما عام ١٩٨٦، وذلك في نفس العام الذي شهد أحداث تمرد عشرات الآلاف من جنود الأمن المركزي ونزول دبابات الجيش إلى الشارع لفرض حظر للتجول وإنهاء الانفلات الأمني في شوارع القاهرة الذي استمر أسبوعاً! ينتهي الفيلم بمشهد لجندي حراسة في أحد المعتقلات أحمد سبع الليل (أحمد زكي) وهو يطلق الرصاص على ضباط وجنود المعتقل.
في حوار على التلفزيون المصري تم إجراؤه قبل خمسة أشهر من وفاته، قال وحيد حامد إن الفيلم تم عرضه قبل أحداث الأمن المركزي وأنه تم إيقاف عرضه بعد توصية من المخابرات الحربية. ثم تم السماح بعرضه بعد اجتماع ضم وزير الدفاع المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة ووزير الداخلية أحمد رشدي ووزير الثقافة أحمد هيكل.
نقد من داخل التجربة
بالإضافة إلى معاركه مع مظاهر الفساد الذي رعته الدولة ومعاركه مع التيار الإسلامي، كان وحيد حامد يوجه نقداً للنموذج الخليجي في مصر، والتعامل معه باعتباره سبباً من أسباب انحطاط القيم ورافداً من روافد صعود التيارات السلفية التي عاد أفرادها من العمل في الخليج أو من القتال في حرب أفغانستان، لتبدأ المواجهة الدموية الطويلة بين الدولة وجماعات العنف خلال آخر سنوات الثمانينيات وسنوات التسعينيات. عبر عن ذلك في أعماله مثل مسلسل "العائلة" أو مسلسل "بدون ذكر أسماء" أو حواراته التلفزيونية.
كان أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد أبناء مشروع يوليو عندما شهدا سنوات صعود الطبقة الوسطى في الخمسينات والستينات، أو هزيمة المشروع في ١٩٦٧ أو انتهائه عام ١٩٧٥، وما تبع ذلك من صعود لرموز فساد يتمتعون بحماية سلطة الدولة بالتزامن مع صعود تيار الإسلام السياسي. لذا كان نقد أسامة أنور عكاشة لمشروع يوليو خلال حكم جمال عبد الناصر قاسياً في أجزاء مسلسله الأشهر "ليالي الحلمية"، وهو ما فعله أيضاً وحيد حامد في مسلسل "العائلة". لكن نقدهما كان من داخل التجربة وليس من خارجها. كان نقداً للدولة التي مهدت لانهيار المشروع وقررت إنهاء التجربة التي سمحت لهما بالحراك الاجتماعي والخروج من الريف إلى قلب الحركة الثقافية والفنية في العاصمة.
امتد النقد في أعمال وحيد حامد إلى كل ما يتعلق بالدولة في الثمانينيات والتسعينيات من تحالفات خارجية مع الولايات المتحدة والدول الخليجية أو نقد للأجهزة الأمنية وإن بطريقة مستترة مثلما حدث في أفلام "كشف المستور" و"اللعب مع الكبار" و"الإرهاب والكباب"، أو تحالفات السلطة مع رجال الأعمال مثلما حدث في "المنسي"، في طريقة الحكم مثلما حدث في "معالي الوزير"، أو هيمنة حزب وحيد على السلطة وما يعني ذلك من تقاطعات مع جماعة الإخوان المسلمين مثلما حدث ببراعة في فيلمه الأهم "طيور الظلام"، أو حتى من خلال النقد الاجتماعي للفروق الطبقية التي ساهمت الدولة في صنعها مثلما حدث في فيلم "اضحك الصورة تطلع حلوة".
في فيلم "دم الغزال" يتعرض وحيد حامد لما حدث في الثمانينيات عندما سيطرت جماعة إسلامية متطرفة على إمبابة وأعلنتها جمهورية سلفية داخل الدولة! لاحقاً يعود وحيد حامد للجذور ويبدأ في التأريخ لجماعة الإخوان المسلمين من خلال جزئي مسلسل "الجماعة" والذي ركز في الجزء الأول على حسن البنا والتنظيم الخاص في فترتي الثلاثينيات والأربعينيات، وفي الجزء الثاني على الجماعة في سنوات الصدام مع الدولة خلال الخمسينيات والستينيات والدور الذي لعبه سيد قطب في صياغة خطابها الفكري الذي استمر بعد إعدامه.
لم يكن وحيد حامد مؤمناً ومدافعاً عن الديمقراطية في صيغتها الأشهر وهي تداول السلطة وإخضاعها للشفافية والمساءلة والرقابة، ولكن كان يحاول في أعماله الدفاع عن مفهومه للحريات التي تضمن شكلاً مدنياً للمجتمع، وعدالةً اجتماعية تسمح بالحراك الاجتماعي، كما حدث معه في الستينيات. لم يكن مهتماً بهوية مصر وما إذا كانت عربية أم متوسطية مثلما تناولها أسامة أنور عكاشة في مسلسل "أرابيسك"، لكنه كان مهتماً بالحياة المعاصرة في مصر وتحولاتها التي رآها انحرافاً عن شكل الحياة التي ظل يتحسر على غيابها في أعماله.