Wednesday, 28 August 2013

على هامش الجنون.. حدث ذات مرة في نيكاراغوا


في صيف عام ١٩٣٢، وبعد حشود مليونية هائلة في الشارع، اضطر الجنرالات لخلع الرئيس المنتخب استجابةً لمطالب الجماهير. في الحقيقة كان الرئيس المنتخب لجمهورية نيكاراغوا قد أخلف جميع وعوده الانتخابية وحاول أن يجعل حزبه السياسي مهيمناً على الحياة السياسية لتلك الدولة التي تقع في أمريكا الوسطى.

بل أن الرئيس المنتخب سهل مهمة خلعه عندما أصر أن يحتمي بحزبه السياسي، متوهماً أن رضا الإدارة الأمريكية يكفي كي يبقى في الحكم. لكن ما حدث لاحقاً فاق روايات العم ماركيز والعزيزة إيزابيل أليندي في جموحها!

فقد خلع الجنرالات الرئيس ووضعوه تحت الإقامة الجبرية بالرغم من غضب الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت. ثم قرر قائدهم أن يبقى وزيراً للدفاع، وأن يتصدر المشهد رئيس المحكمة العليا. وكان قرار قائد الجيش يعبر عما في نفسه من رغبةٍ حقيقية في عدم حكم البلاد. فالرجل لم يتحرك إلا من أجل مصلحة نيكاراغوا العليا فقط.

كان المقربون من الجنرال يعرفون عنه حرصه على الذهاب الى الكنيسة كل أحد. ويعرفون أنه يبكي كثيراً خلال صلواته من أجل أن يحفظ دماء النيكاراغويين. لكنه بعد فترة من القلائل التي هزت البلاد وأثرت على مسيرة انتقالها مرةً أخرى الى الحكم الديمقراطي، استجاب لنصيحة أحد مستشاريه والتي صاغها في الجملة الآتية: سيدي الجنرال.. إذا رغبت في أن تحافظ على سيارتك وتصل بها الى بيتك سليمة، فتجنب الضغط على المكابح!

خاض الجنرال حرباً لا هوادة فيها ضد حزب الرئيس المعزول. واستفاد من أن أغلبية الشعب تدعمه في حربه تلك، والتي سميت لاحقاً في كتب التاريخ المدرسية بحرب الاستقلال! وكان ممن دعموا الجنرال في حربه مجموعة من المثقفين والمنتمين الى حزب الرئيس الذي تم خلعه من قبل الجيش عام ١٩٢٩ بعد حشود مليونية هائلة أيضاً..! (من الملاحظ أن نيكاراغوا في تلك الفترة كانت تبدل رؤسائها بوتيرة أسرع من وتيرة تغيير رجل الأعمال الأمريكي هاوارد هيوز لطائراته الخاصة!).

بعد أن فرغ الجنرال من حربه وسحق حزب الرئيس المعزول بدعم من الشعب، حدث ما لم يكن متوقعاً. التفت الجنرال الى حلفائه في الحرب وقرر التخلص منهم وزجهم في السجون. كان الرجل يعتقد أن مصلحة البلاد العليا تقتضي بأن يكون للسفينة ربانٌ واحدٌ فقط. وأن حلفاؤه باتوا يطلبون ثمناً لدعمه. كما أن أحد مستشاريه همس في أذنه: حطم كل روابطك مع حلفاء حرب الاستقلال كي لا يشاركوك حكم البلاد أو يتسببوا برعونتهم في حشودٍ مليونية هائلة للمرة الثالثة!

ظل مؤرخو تلك المرحلة الأسطورية من تاريخ نيكاراغوا يتندرون في كتبهم من أن من هتفوا بسحق أعضاء حزب الرئيس المعزول، شاركوهم الزنازين لاحقاً بل والمشانق أيضاً. وتحكي الروايات حواراتٍ شديدة المرارة بين أنصار الرئيس المعزول وأنصار الرئيس المخلوع حول تلقيهم نفس الضربة من نفس الرجل!

ظل الجنرال يتمتع بدعمٍ شعبي هائل أوصله لرئاسة البلاد بشكلٍ نزيه وشفاف في انتخاباتٍ حازت على رضا الإدارة الأمريكية، والتي رأت أنه إذا فشلت في قطع اليد التي تعاديك، فمن الأفضل أن تصافحها...

لكن المعضلة التي واجهت الجنرال، الرئيس لاحقاً، تمثلت في السؤال التالي: هل يستطيع الرجل أن يطرح مشروعاً اجتماعياً واقتصادياً ينقذ نيكاراغوا من الغرق؟ أم أنه سيظل أسيراً لإنجاز عزل الرئيس؟
  

سورية.. سنعاقب الأسد لكن لن نسقطه


على مدى أكثر من عامين، ظلت المعارضة المسلحة في سورية تلح في طلب التدخل الدولي من أجل مساعدتها في الإطاحة بالنظام السوري، دون أن يلبى طلبها. بل أن الدول التي تبنت فكرة الإطاحة بنظام الأسد مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، تخوفت من إمداد المعارضة المسلحة بأسلحة تغير من ميزان الصراع لصالحها.

فأسلحة مثل صواريخ "ستينجر" الأمريكية المحمولة على الكتف والتي تستخدم في إسقاط المروحيات والمقاتلات على ارتفاع منخفض، تم حظر وصولها الى ساحة الصراع السوري، بعد أن تأكدت أجهزة الاستخبارات الغربية من أن جزءاً من المعارضة المسلحة مرتبطٌ بتنظيم القاعدة، مثل جبهة النصرة.

وفق تصريحات المسؤولين في الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية فإن الهدف من الضربة العسكرية المرتقبة والتي تقول تقارير إنها ستكون يوم الخميس القادم أو الجمعة، هو معاقبة النظام السوري على استخدام أسلحة كيماوية ضد المدنيين. وهو الأمر الذي لم يتأكد بعد من قبل مراقبي الأمم المتحدة. ومن الضروري هنا الالتفات الى زيارة السلطان قابوس الى إيران والتي أعقبها زيارة جيفري فيلتمان، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة الى طهران ونائب وزيرة الخارجية الأمريكية السابق، وذلك لطمأنة الجانب الإيراني من أن الضربة القادمة لن تسعى لإسقاط النظام السوري.

كما من الضروري الإشارة الى رد الفعل الروسي الضعيف على قرار ضرب حليفتها سورية دون اللجوء الى استصدار قرار دولي من مجلس الأمن.

كل هذه المؤشرات تدل على أن الضربة العسكرية التي سيتولى الإشراف عليها حلف الناتو، لن تشكل خطراً على حياة الرئيس السوري أو معاونيه، كما لن تضرب مؤسسات الدولة السورية بشكلٍ يسمح للمعارضة المسلحة بأن تحقق انتصاراً عسكرياً كبيراً على الأرض يؤدي الى إنهاء الصراع لصالحها ووصولها الى الحكم.

ومن المهم الإشارة هنا الى كل التصريحات والتحليلات الأمريكية والإسرائيلية منذ تحول الثورة السورية الى حربٍ أهلية والتي تقول صراحةً إن إسقاط الأسد يشكل خطراً على أمن إسرائيل، وسيجعل من سورية قاعدةً رئيسية لتنظيم القاعدة وحلفائها.

إذا لم يكن الهدف هو إسقاط نظام الأسد، فما الهدف إذن من الضربة العسكرية لسورية؟ على الأرجح فإن قائمة أهداف الضربة العسكرية ستشمل قواعد الدفاع الجوي، وإمكانيات الردع الصاروخي بعيد المدى التي تمتلكها سورية والتي تشكل تهديداً (ولو نظرياً) على أمن إسرائيل، وتشكل تهديداً فعلياً في حال انتقالها الى حزب الله أو جبهة النصرة. كما من المحتمل وفق بعض التحليلات المنشورة في الصحافة البريطانية أن تستغل الولايات المتحدة فرصة الحملة العسكرية وتضرب أهدافاً لجبهة النصرة. لكن من المؤكد أن هذه الضربة لا تستهدف القضاء على نظام الأسد، وإنما ترك الصراع في سورية مشتعلاً حتى يتم استنزاف جميع الأطراف، وحينها لن تشكل سورية خطراً سوى على جيرانها العرب.


Wednesday, 21 August 2013

على هامش الجنون.. رداً على نصيحة صديق

اللوحة للفنان إسلام فكري
صديقي العزيز..


بعد التحية والسلامات.. أتمنى تكون في أفضل حال. عارف إنك كنت مريض. سلامتك ألف سلامة. وعارف إنك ما كنتش عارف تروح الدكتور بسبب اعتصام النهضة. الاعتصام اتفض وأتمنى تكون شوفت الدكتور.

أشكرك أولا على نصيحتك ليا بإني أتجنب أتكلم فيما يحدث حاليا جوة مصر، على أساس إن الصراع عندما ينتهي بانتصار طرف وحيد، سيتم التنكيل، ليس فقط بالطرف الآخر وإنما بكل الأشخاص اللي ما رفضوا ياخدوا موقف قوي مع الطرف المنتصر خلال المعركة.

بما إنك اتكلمت عن "المعركة"، خلينا نفترض إن فيه حرب بين مصر وإسرائيل، ومصر خدت أسرى إسرائيليين. هل أخلاقيا مقبول إن مصر تعدم الأسرى دول، حتى لو رداً على إعدام إسرائيل للأسرى المصريين. خليني أفكرك بإن المعارك والحروب مش بس صراعات بالسلاح ولكن هي أيضا صراعات أخلاقية. وإن الانتصار فيها بتحدده مدى التزامك بهذه الأخلاقيات. ورجوعا لفكرة الحرب بين مصر وإسرائيل، فأحب أفكرك إن الأسرى الاسرائيليين عوملوا بشكل جيد جدا عند المصريين، ولم يتم تعذيبهم. ودة كان انتصار أخلاقي للمصريين. بينما تم قتل الاسرى المصريين بدم بارد في سيناء. ودي جريمة لن تسقط ولو بعد ألف سنة.

في الإطار الأخلاقي دة ما ينفعش إنك تقتل مساجين في عربية ترحيلات زي ما حصل في أبو زعبل. الدولة مش عصابة نازلة تنتقم. وما ينفعش ما تحاسبش المسؤول عن قتلهم بحجة "إنه ما كانش يقصد، وإننا في حرب وحسابه حيضر بفرص انتصارك في المعركة"، زي ما أنت قولت في مكالمتنا الأخيرة.

أنا علفكرة مع هيبة الدولة، ومع فرض هذه الهيبة على الجميع. بس مفهومي لهيبة الدولة غير مفهومك. هيبة الدولة تتحقق بالحفاظ على مواطنيها وبحمايتهم وبتطبيق العدل، مش بالقمع أو السحق والقتل بدون محاكمة والتعذيب. نظام مبارك وقع لأنه ضرب هيبة الدولة لما بقى النظام يطبق القانون على البعض ويسيب البعض الآخر. لما بقت هيبة الدولة هي قدرة الأجهزة الأمنية على التنكيل بالمعارضين. الدولة يا صديقي ليست عصابة في مواجهة عصابات أخرى. الدولة هي نظام كلنا نخضع له من خلال القانون.

في لبنان حدث ذات مرة إن أهالي قرية قبضوا على شاب مصري هناك بتهمة إنه اغتصب وقتل طفلة. جريمة بشعة. الشرطة اعتقلت الشاب تمهيدا للتحقيق معاه لكن الأهالي خطفوه من الشرطة وسحلوه وقتلوه بشكل بشع وشنيع وتم تصوير كل دة صوتا وصورة وتم نشره على أوسع نطاق. هل هنا ممكن نتكلم عن وجود حاجة اسمها الدولة اللبنانية؟ يعني أنت لم تحقق مع المتهم أو تقاضيه أو تطبق عليه القانون وتركت الأمر للناس. يبقى فين الدولة؟!

يا صديقي التعريف البسيط للدولة إنها الطرف الوحيد الذي يحتكر استخدام العنف. لما نسكت على العمليات الانتقامية على اعتبار إنها رد على مذابح يرتكبها طرف، يبقى فين الدولة؟!

مشكلتنا مع مرسي إنه كان عايز يهد الدولة. طيب إحنا خلعناه واعتقلناه وحيتقدم للمحاكمة. هل ينفع تعذبه؟ طيب هل ينفع تعدمه بدون محاكمة عادلة؟ طبعا لأ. لأن دة هدم لفكرة الدولة اللي أنت بتدافع عنها. وما ينطبق على مرسي ينطبق على الكل.

أما بالنسبة للمذابح اللي ارتكبت في سيناء ضد الجنود المصرين فدي جريمة بشعة وحقيرة وخسيسة ولازم يتم اعتقال مرتكبيها ويتحاكموا ثم بعد الادانة يعدموا في ميدان عام. بس ما ينفعش مثلا يتعمل غارات جوية على قرى هما عايشين فيها بدعوى إن أنت في حرب وإن دي اللي أنت أطلقت عليه collateral damage. كدة يبقى أنت بتهدم الدولة اللي أنت حريص على بنائها. مذبحة كرداسة وأسوان بينطبق عليهم نفس الفكرة. يتم القبض على المرتكبين. يحاكموا بشكل علني ثم بعد الادانة يعدموا في ميدان عام. بس ما ينفعش تمارس عليهم التعذيب أو الانتقام. دي ألف باء دولة وألف باء قانون وألف باء مجتمع متحضر.

إذا كنا دائما بنتكلم عن إن الحضارة بدأت في مصر قبل الإنسانية كلها وإن المجتمع المصري يتميز عن كل جيرانه بإنه مجتمع متحضر ومدني وله إطار يجمعه وهو فكرة "الدولة الأمة" the nation state وإن المفهوم دة مش موجود في دول كثيرة وإن مصر تعتبر من الدول القليلة في العالم اللي بتتميز بدة.. إذا كنا مؤمنين بكل دة، فمينفعش تتورط في ممارسات انتقامية ترجعك لفكرة المجتمعات القبلية وتتكلم عن بناء الدولة.

مش عايز أثقل عليك يا صديقي ولكن دي معركة أخلاقية وأتمنى أن لا نخسرها.

أما بالنسبة إن كل ما أكتبه مسجل عليا وحتحاسب عليه بعدين، فبصرف النظر مين من الناس بيسجل ليا أو مين من الناس حيحاسبني، فالأهم من دة إن اللي باقوله متسجل ليا عند ربنا وهو اللي حيحاسبنا كلنا. رزقي في إيد اللي خلقني. ولو خسرت نفسك خوفاً من الناس، عمرك ما حترفع راسك.

يمكن تعتبر السطور الأخيرة تليق بمسرحية أو مسلسل، ولكن للأسف دي الحقيقة. إحنا أمام خيارات أخلاقية لا ترحم، والتمسك بيها هو اللي بيحدد أي نوع من البني آدمين نحن.

نصيحة أخيرة: حاول تسيب البلد وتهاجر لأن البقاء في الجو المتوحش دة، يبدو إنه بيأثر على رؤية الناس للأمور.

السلام ختام وربنا يحفظك ويحفظنا من الجنون.

Monday, 19 August 2013

على هامش الجنون.. الإنكار لا يفيد


 
أين الحقيقة؟ 
يقال أن الحقيقة هي الضحية الأولى لأي صراع به هذا القدر من الاستقطاب. كل الوقائع التي حدثت لها أكثر من رواية. مثلاً حريق مسجد رابعة العدوية والمستشفى الميداني. هناك رواية تقول إن الفاعل هو قوات الأمن كي تخفي قتل أنصار مرسي. الرواية الثانية أن الفاعل هم أنصار مرسي كي يطمسوا حقيقة أنهم أعدموا أشخاصاً شكوا في أنهم عملاء لأجهزة الأمن. أين الحقيقة إذن؟ في الحقيقة لا توجد حقيقة سوى أعداد الجثث. فيما عدا ذلك ستنقل وسائل الإعلام الروايات التي تتفق مع توجهاتها السياسية، وستحجب الأخرى. واللافت أن الناس، من كلا الفريقين، لن يطالبوا بمعرفة الحقيقة! فالانقسام وصل الى درجة أن الناس تشاهد فقط القنوات التي ستنقل لها ما تستريح إليه ويتفق مع توجهها، دون اكتراث بمعرفة الحقيقة. 

بما أنه لا توجد حقيقة، هل يمكن وصف ما جرى بأنه "مذبحة" أو "مجزرة"؟ 
بعيداً عن أن الكلمتان تستخدمان بكثافة من جماعة الإخوان وأنصار الرئيس المعزول، إلا أن ما جرى من مقتل/قتل/وفاة (اختر ما يناسبك) هو مذبحة يتحمل مسؤوليتها الرئيسية وبشكل مباشر قوات الأمن التي أشرفت على تنفيذ خطة فض اعتصامي رابعة والنهضة (هذا مع افتراض أنه كانت توجد خطة واضحة). فالارتفاع الهائل في أعداد القتلى والذين تخطوا وفق الأرقام الرسمية (حتى كتابة هذه السطور) الخمسمائة قتيل، يدل على فشل قوات الأمن في تطبيق قواعد الاشتباك (هذه هي وجهة النظر التي تفترض حسن النية) أو الرغبة في إعدام عدد كبير من المعتصمين وفق المفهوم المغلوط الذي يفترض أن "سحق" الجماعة سيمنعها من القيام مرة أخرى! 
كل ما سبق لا يمنع من أن قيادات الجماعة تتحمل جزءاً من المسؤولية. بل أن المستفيد الأكبر من الارتفاع المهول في أعداد الضحايا ستستفيد منه بشكل مباشر كلاً من الدولة البوليسية التي تريد أن تعود آلتها القمعية بكل قوة، وجماعة الإخوان المسلمين التي كانت قد شارفت على الموت. 

كيف ستستفيد جماعة الاخوان من ما جرى؟ 
بعد سقوط حكم مرسي شعبياً وعزله سياسياً، كانت فكرة الجماعة قد تعرضت الى ضربة موجعة في العمق. كان الكل قد بدأ يتشكك في ولاء الجماعة الى الوطن، وفي إمكانية الثقة في الجماعة مرة أخرى. لهذا لم يكن خافياً أن قيادات الجماعة، والتي فشلت بشكل ذريع في إدارة الجماعة خلال العام الذي حكم فيه مرسي، كانت تريد مذبحة كي تنقذ الجماعة من الوفاة. كانت وفق المفهوم الصهيوني في إقامة دولة إسرائيل، تريد "هولوكوستاً" يعيد الجماعة الى تموضعها الطبيعي كجماعة "مجاهدة تتعرض لقمع من الطاغية وأعوانه، والذين يحاربونها لأنها تعلي كلمة الله". كانت السنة التي حكم فيها مرسي كفيلة بكشف زيف كل الشعارات الدينية التي رفعتها الجماعة. 
ما جرى خلال مذبحة الحرس الجمهوري ثم أحداث المنصة ثم مذبحة فض الاعتصام، قدم هدية لا تقدر بثمن لقيادات الجماعة. فالهولوكوست الجديد يمكن استغلاله لخمسين عاماً قادمة. لكن المؤلم أن هذه "الهدية" دفعت ثمنها مئات الأسر التي فقدت أبنائها وآلاف الضحايا، ووطنٌ سيظل لفترةٍ طويلة منقسماً وفاقداً للاستقرار وعلى شفا حرب أهلية كاملة. 
ومن المقلق للغاية كل مظاهر الكراهية العميقة التي يبديها الطرفان تجاه الآخر، والتي ستعمق الانقسام داخل المجتمع المصري ولن تؤدي إلا الى المزيد من تعطيل المسار الديمقراطي في مصر. 
ويبدو أن الناس في مصر أصبحت تتجاهل حقيقة اختلاط الأسرة المصرية التي يمكن أن تجد فيها فرداً ينتمي الى الإخوان، له أخ ضابط في الشرطة، وأب كان عضواً في الحزب الوطني، وأخت متزوجة من سلفي، وأم تخشى عليهم جميعاً.  


ما الذي فعله محمد البرادعي؟ 
من الصعب في اللحظة الحالية تقييم موقف نائب الرئيس السابق محمد البرادعي من الأزمة، خصوصاً وأن استقالته ساهمت في رفع الغطاء الدولي عن الحكومة المصرية خلال مواجهتها مع جماعة الإخوان وأنصار الرئيس المعزول. على الجانب الآخر لم يكن موقف البرادعي مستغرباً لمن يعرف أن الرجل لا يفعل سوى ما يتسق مع قناعاته، وهو لم يوافق على دور الكومبارس داخل تركيبة السلطة الحالية. وما تسرب حتى الآن، أن القيادات الأمنية والعسكرية وعدت محمد البرادعي وشيخ الأزهر خلال آخر اجتماع لمجلس الدفاع الوطني قبل فض اعتصامي رابعة والنهضة بعدم اللجوء الى القوة وإعطاء الحل السياسي الأولوية في التعامل مع الاعتصامين. وهذا ما دفع شيخ الأزهر كي يخرج بتصريحه الشهير الذي قال فيه "لقد علمنا بفض الاعتصامين من أجهزة الإعلام ونحن نبرأ أمام الله من الدم الذي سال، وأبعدوا الأزهر عن السياسة". فيما قرر البرادعي الاستقالة بعد شعوره بالخديعة وبعد أن فاض به الكيل من الآلة الإعلامية التي كانت تحرض ضده وتشكك فيه خلال وجوده في منصب الرجل الثاني داخل السلطة. 

كيف يمكن فهم الأدوار الإقليمية في الأزمة المصرية؟ 
ربما الوسيلة الأسهل لمعرفة ذلك هو تتبع القنوات الإعلامية ومواقفها. مثلاً قناة الجزيرة، الذراع الإعلامي لدولة قطر، تعتبر طرفاً رئيسياً في المعركة الدائرة حالياً في مصر، من خلال خطابها الإعلامي الموالي كلياً لجماعة الإخوان والرئيس المعزول. أما قناة العربية المملوكة من قبل رجال أعمال سعوديين، فخطابها الإعلامي يقف مع الحكومة المصرية ويحرص على إظهار الوجه القبيح لجماعة الإخوان والتي أصبحت لها قاعدة جماهيرية داخل السعودية. 
وربما تبدو الأمور أكثر تعقيداً عندما تستخدم هذه القنوات من قبل مموليها كي يمرروا من خلالها مواقفهم من الأزمة. حينها تتحول القناة التلفزيونية من وسيلة إعلامية الى طرف له تأثير على الأرض، إما من خلال التحريض أو إخفاء الحقائق جزئياً.

ثورة يناير.. هل كانت حقاً ثورة؟
يمكن النظر الى الصراع بين من يؤمنون أن يناير 2011 ثورة، وبين من يرفضونها ويطرحون يونيو 2013 كثورة، تكراراً لفكرة "أهلي وزمالك". لكن الحقيقة أن يناير هي بداية لموجة ثورية طويلة لم تنتهي بعد، ولا يعلم أحد متى تنتهي. وما قيل في وصفها كثورة أتى كرد فعلٍ عاطفي بعد إنجاز الإطاحة بحكم مبارك، والذي بدا أنه مستمرٌ معنا حتى قيام الساعة. لكن التطورات اللاحقة أثبتت أن من قاموا بالثورة لم يصلوا الى الحكم كي يطبقوا برنامجها، وأن ما قامت به الحركة الاحتجاجية العظيمة في يناير 2011 هو الإطاحة برموز النظام، فيما بقي النظام مستمراً. بل أن الإخوان عندما أتوا الى الحكم في 2012 لم يسعوا الى الاطاحة بالنظام أو القضاء عليه، وإنما حاولوا أن يعيدوا تفصيله كي يصبح على مقاسهم. والشواهد كثيرة على محاولات مرسي والجماعة في التزلف الى الشرطة. يكفي جملة مرسي الشهيرة لأفراد الشرطة "لقد كنتم في القلب من ثورة يناير"!
أما يونيو 2013 فهي أيضاً ليست ثورة، وإنما موجة ثورية عاتية لإسقاط مبارك في نسخته الإسلامية، وهو الرئيس محمد مرسي!
وما جرى في يناير 2011 ويونيو 2013 وما بينهما من أحداث، يؤكد أن تكرار الحشد الشعبي الهائل في الميادين والشوارع قد يتكرر مع أي حاكم قادم لمصر، طالما لم يتم صياغة مشروع للاستجابة الى المطالب الرئيسية الثلاث: العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية، والحرية. فالمعادلة التي أدت الى انهيار نظام مبارك، هي التي قد تتكرر وتطيح بأي نظام قادم.


إذن متى تنتهي هذه الموجات الثورية؟ لا أحد يعلم. الثورة الفرنسية استمرت لعشر سنين. الثورة الإيرانية تحولت الى مشروع دموي انتهى بسيطرة فصيل واحد فقط على الحياة في إيران. الثورة الكوبية بدأت بعمل مسلح وانتهت بديكتاتورية لا تزال مستمرة حتى اللحظة.
السبيل الوحيد لإنهاء الموجات الثورية المتتابعة هو إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد يستجيب للمطالب الثلاث.

ماذا عن المستقبل؟
المستقبل لا يبدو مشرقاً. فالكراهية والتطرف أصبحا الأعلى صوتاً في المجتمع. لأول مرة خلال التاريخ المصري الحديث أصبحت وسائل الإعلام تغذي العنف الأهلي بالتحريض. هناك نماذج مخيفة لبرامج تلفزيونية ومقالات صحفية تدعو الى "سحق وحرق وقتل وسحل" الفريق الآخر. ولأن لكل فعل رد فعل، مساوٍ له في المقدار، مضاد له في الاتجاه، فقد أصبح رد فعل الفريق الآخر التحريض في الاتجاه المضاد. وما حدث من الفريقين تمت ترجمته بالفعل على أرض الواقع. ومن المؤسف أنه جرى تسجيل معظم هذه الأفعال الوحشية وجرى بثها على مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية، ليزداد تورط المجتمع في دائرة مفرغة من العنف والدموية.
من المهم أيضاً أن نعي أن كل الحروب الأهلية ودوامات العنف الدموية التي مرت بها المجتمعات خلال المائة عام الأخيرة انتهت بجلوس جميع الأطراف على طاولة المفاوضات والتوصل الى صيغة للتعايش والغفران. ولا يمكن النظر الى الحالة المصرية على أنها استثناء. يجب أن ندرك أنه إذا لم نتوصل الى هذه الصيغة، فإن دوامة العنف ستستمر لفترة طويلة، ولن تجدي كل الحلول الأمنية والقبضات الحديدية وقوانين حل التنظيم وحظر الجماعة واعتقال القيادات.

*الصور من موقع الفن المعاصر!