أين الحقيقة؟
يقال أن
الحقيقة هي الضحية الأولى لأي صراع به هذا القدر من الاستقطاب. كل الوقائع التي
حدثت لها أكثر من رواية. مثلاً حريق مسجد رابعة العدوية والمستشفى الميداني. هناك
رواية تقول إن الفاعل هو قوات الأمن كي تخفي قتل أنصار مرسي. الرواية الثانية أن
الفاعل هم أنصار مرسي كي يطمسوا حقيقة أنهم أعدموا أشخاصاً شكوا في أنهم عملاء
لأجهزة الأمن. أين الحقيقة إذن؟ في الحقيقة لا توجد حقيقة سوى أعداد الجثث. فيما
عدا ذلك ستنقل وسائل الإعلام الروايات التي تتفق مع توجهاتها السياسية، وستحجب
الأخرى. واللافت أن الناس، من كلا الفريقين، لن يطالبوا بمعرفة الحقيقة! فالانقسام
وصل الى درجة أن الناس تشاهد فقط القنوات التي ستنقل لها ما تستريح إليه ويتفق مع
توجهها، دون اكتراث بمعرفة الحقيقة.
بما أنه لا
توجد حقيقة، هل يمكن وصف ما جرى بأنه "مذبحة" أو "مجزرة"؟
بعيداً عن أن
الكلمتان تستخدمان بكثافة من جماعة الإخوان وأنصار الرئيس المعزول، إلا أن ما جرى
من مقتل/قتل/وفاة (اختر ما يناسبك) هو مذبحة يتحمل مسؤوليتها الرئيسية وبشكل مباشر
قوات الأمن التي أشرفت على تنفيذ خطة فض اعتصامي رابعة والنهضة (هذا مع افتراض أنه
كانت توجد خطة واضحة). فالارتفاع الهائل في أعداد القتلى والذين تخطوا وفق الأرقام
الرسمية (حتى كتابة هذه السطور) الخمسمائة قتيل، يدل على فشل قوات الأمن في تطبيق
قواعد الاشتباك (هذه هي وجهة النظر التي تفترض حسن النية) أو الرغبة في إعدام عدد
كبير من المعتصمين وفق المفهوم المغلوط الذي يفترض أن "سحق" الجماعة
سيمنعها من القيام مرة أخرى!
كل ما سبق لا
يمنع من أن قيادات الجماعة تتحمل جزءاً من المسؤولية. بل أن المستفيد الأكبر من
الارتفاع المهول في أعداد الضحايا ستستفيد منه بشكل مباشر كلاً من الدولة
البوليسية التي تريد أن تعود آلتها القمعية بكل قوة، وجماعة الإخوان المسلمين التي
كانت قد شارفت على الموت.
كيف ستستفيد
جماعة الاخوان من ما جرى؟
بعد سقوط حكم
مرسي شعبياً وعزله سياسياً، كانت فكرة الجماعة قد تعرضت الى ضربة موجعة في العمق.
كان الكل قد بدأ يتشكك في ولاء الجماعة الى الوطن، وفي إمكانية الثقة في الجماعة
مرة أخرى. لهذا لم يكن خافياً أن قيادات الجماعة، والتي فشلت بشكل ذريع في إدارة
الجماعة خلال العام الذي حكم فيه مرسي، كانت تريد مذبحة كي تنقذ الجماعة من
الوفاة. كانت وفق المفهوم الصهيوني في إقامة دولة إسرائيل، تريد "هولوكوستاً" يعيد
الجماعة الى تموضعها الطبيعي كجماعة "مجاهدة تتعرض لقمع من الطاغية وأعوانه،
والذين يحاربونها لأنها تعلي كلمة الله". كانت السنة التي حكم فيها مرسي
كفيلة بكشف زيف كل الشعارات الدينية التي رفعتها الجماعة.
ما جرى خلال
مذبحة الحرس الجمهوري ثم أحداث المنصة ثم مذبحة فض الاعتصام، قدم هدية لا تقدر
بثمن لقيادات الجماعة. فالهولوكوست الجديد يمكن استغلاله لخمسين عاماً قادمة. لكن
المؤلم أن هذه "الهدية" دفعت ثمنها مئات الأسر التي فقدت أبنائها وآلاف
الضحايا، ووطنٌ سيظل لفترةٍ طويلة منقسماً وفاقداً للاستقرار وعلى شفا حرب أهلية
كاملة.
ومن المقلق
للغاية كل مظاهر الكراهية العميقة التي يبديها الطرفان تجاه الآخر، والتي ستعمق
الانقسام داخل المجتمع المصري ولن تؤدي إلا الى المزيد من تعطيل المسار الديمقراطي
في مصر.
ويبدو أن
الناس في مصر أصبحت تتجاهل حقيقة اختلاط الأسرة المصرية التي يمكن أن تجد فيها
فرداً ينتمي الى الإخوان، له أخ ضابط في الشرطة، وأب كان عضواً في الحزب الوطني،
وأخت متزوجة من سلفي، وأم تخشى عليهم جميعاً.
ما الذي فعله
محمد البرادعي؟
من الصعب في
اللحظة الحالية تقييم موقف نائب الرئيس السابق محمد البرادعي من الأزمة، خصوصاً
وأن استقالته ساهمت في رفع الغطاء الدولي عن الحكومة المصرية خلال مواجهتها مع
جماعة الإخوان وأنصار الرئيس المعزول. على الجانب الآخر لم يكن موقف البرادعي
مستغرباً لمن يعرف أن الرجل لا يفعل سوى ما يتسق مع قناعاته، وهو لم يوافق على دور
الكومبارس داخل تركيبة السلطة الحالية. وما
تسرب حتى الآن، أن القيادات الأمنية والعسكرية وعدت محمد البرادعي وشيخ الأزهر
خلال آخر اجتماع لمجلس الدفاع الوطني قبل فض اعتصامي رابعة والنهضة بعدم اللجوء
الى القوة وإعطاء الحل السياسي الأولوية في التعامل مع الاعتصامين. وهذا ما دفع شيخ
الأزهر كي يخرج بتصريحه الشهير الذي قال فيه "لقد علمنا بفض الاعتصامين من
أجهزة الإعلام ونحن نبرأ أمام الله من الدم الذي سال، وأبعدوا الأزهر عن
السياسة". فيما قرر البرادعي الاستقالة بعد شعوره بالخديعة وبعد أن فاض به
الكيل من الآلة الإعلامية التي كانت تحرض ضده وتشكك فيه خلال وجوده في منصب الرجل
الثاني داخل السلطة.
كيف يمكن فهم الأدوار الإقليمية في الأزمة المصرية؟
ربما الوسيلة
الأسهل لمعرفة ذلك هو تتبع القنوات الإعلامية ومواقفها. مثلاً قناة الجزيرة،
الذراع الإعلامي لدولة قطر، تعتبر طرفاً رئيسياً في المعركة الدائرة حالياً في
مصر، من خلال خطابها الإعلامي الموالي كلياً لجماعة الإخوان والرئيس المعزول. أما
قناة العربية المملوكة من قبل رجال أعمال سعوديين، فخطابها الإعلامي يقف مع
الحكومة المصرية ويحرص على إظهار الوجه القبيح لجماعة الإخوان والتي أصبحت لها
قاعدة جماهيرية داخل السعودية.
وربما تبدو
الأمور أكثر تعقيداً عندما تستخدم هذه القنوات من قبل مموليها كي يمرروا من خلالها
مواقفهم من الأزمة. حينها تتحول القناة التلفزيونية من وسيلة إعلامية الى طرف له
تأثير على الأرض، إما من خلال التحريض أو إخفاء الحقائق جزئياً.
ثورة يناير..
هل كانت حقاً ثورة؟
يمكن النظر
الى الصراع بين من يؤمنون أن يناير 2011 ثورة، وبين من يرفضونها ويطرحون يونيو
2013 كثورة، تكراراً لفكرة "أهلي وزمالك". لكن الحقيقة أن يناير هي
بداية لموجة ثورية طويلة لم تنتهي بعد، ولا يعلم أحد متى تنتهي. وما قيل في وصفها
كثورة أتى كرد فعلٍ عاطفي بعد إنجاز الإطاحة بحكم مبارك، والذي بدا أنه مستمرٌ
معنا حتى قيام الساعة. لكن التطورات اللاحقة أثبتت أن من قاموا بالثورة لم يصلوا
الى الحكم كي يطبقوا برنامجها، وأن ما قامت به الحركة الاحتجاجية العظيمة في يناير
2011 هو الإطاحة برموز النظام، فيما بقي النظام مستمراً. بل أن الإخوان عندما أتوا
الى الحكم في 2012 لم يسعوا الى الاطاحة بالنظام أو القضاء عليه، وإنما حاولوا أن
يعيدوا تفصيله كي يصبح على مقاسهم. والشواهد كثيرة على محاولات مرسي والجماعة في
التزلف الى الشرطة. يكفي جملة مرسي الشهيرة لأفراد الشرطة "لقد كنتم في القلب
من ثورة يناير"!
أما يونيو
2013 فهي أيضاً ليست ثورة، وإنما موجة ثورية عاتية لإسقاط مبارك في نسخته
الإسلامية، وهو الرئيس محمد مرسي!
وما جرى في يناير 2011 ويونيو 2013 وما بينهما من أحداث، يؤكد أن تكرار
الحشد الشعبي الهائل في الميادين والشوارع قد يتكرر مع أي حاكم قادم لمصر، طالما لم
يتم صياغة مشروع للاستجابة الى المطالب الرئيسية الثلاث: العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية،
والحرية. فالمعادلة التي أدت الى انهيار نظام مبارك، هي التي قد تتكرر وتطيح بأي
نظام قادم.
إذن متى تنتهي هذه الموجات الثورية؟ لا أحد يعلم. الثورة الفرنسية استمرت
لعشر سنين. الثورة الإيرانية تحولت الى مشروع دموي انتهى بسيطرة فصيل واحد فقط على
الحياة في إيران. الثورة الكوبية بدأت بعمل مسلح وانتهت بديكتاتورية لا تزال مستمرة
حتى اللحظة.
السبيل الوحيد لإنهاء الموجات الثورية المتتابعة هو إعادة صياغة عقد
اجتماعي جديد يستجيب للمطالب الثلاث.
ماذا عن المستقبل؟
المستقبل لا يبدو مشرقاً. فالكراهية والتطرف أصبحا الأعلى صوتاً في
المجتمع. لأول مرة خلال التاريخ المصري الحديث أصبحت وسائل الإعلام تغذي العنف
الأهلي بالتحريض. هناك نماذج مخيفة لبرامج تلفزيونية ومقالات صحفية تدعو الى
"سحق وحرق وقتل وسحل" الفريق الآخر. ولأن لكل فعل رد فعل، مساوٍ له في
المقدار، مضاد له في الاتجاه، فقد أصبح رد فعل الفريق الآخر التحريض في الاتجاه
المضاد. وما حدث من الفريقين تمت ترجمته بالفعل على أرض الواقع. ومن المؤسف أنه
جرى تسجيل معظم هذه الأفعال الوحشية وجرى بثها على مواقع التواصل الاجتماعي
والقنوات التلفزيونية، ليزداد تورط المجتمع في دائرة مفرغة من العنف والدموية.
من المهم أيضاً أن نعي أن كل الحروب الأهلية ودوامات العنف الدموية التي
مرت بها المجتمعات خلال المائة عام الأخيرة انتهت بجلوس جميع الأطراف على طاولة
المفاوضات والتوصل الى صيغة للتعايش والغفران. ولا يمكن النظر الى الحالة المصرية
على أنها استثناء. يجب أن ندرك أنه إذا لم نتوصل الى هذه الصيغة، فإن دوامة العنف
ستستمر لفترة طويلة، ولن تجدي كل الحلول الأمنية والقبضات الحديدية وقوانين حل
التنظيم وحظر الجماعة واعتقال القيادات.