في أعقاب حرب ١٩٥٦ أدرك الرئيس جمال عبد
الناصر أن وزير الدفاع عبد الحكيم عامر قائد عسكري فاشل ولا يستطيع التصرف في
ميادين القتال. أشرف عبد الناصر بنفسه على خطة انسحاب منظمة لقوات الجيش المصري من
سيناء وإعادة تمركزها في بورسعيد للتنسيق مع المقاومة الشعبية في المدينة من أجل
مواجهة فرق المظليين البريطانية.
لكن غلطة عبد الناصر كانت في أنه ترك عبد
الحكيم قائداً عاماً للقوات المسلحة وذلك خوفاً من أن يأتي قائد عام آخر لا يتمتع
بنفس الثقة. كانت تلك من أخطاء عبد الناصر الكبرى والتي دفعت مصر ثمناً باهظاً
للغاية بسببها. كانت فكرة عبد الناصر أن أي قائد آخر للجيش لا يحظى بثقة تماثل ثقته
في عبد الحكيم، قد يكون باستطاعته القيام بانقلاب عسكري على غرار ما حدث في الثالث
والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢. فما جرى في تلك الليلة كشف للضباط الشباب الذين قاموا
بما سموه حينها "حركة الجيش المباركة" أن السيطرة على الحكم في مصر أمر
شديد السهولة بالنسبة لمن يسيطر على الجيش، وهي القاعدة التي لاتزال سائدة حتى
اليوم والتي حاول رؤساء الجمهورية منذ عبد الناصر وحتى مرسي مقاومتها عبر التأكيد
على مفهوم إخضاع الجيش لـ"شرعية الرئيس".
في كتاب حازم قنديل الذي نشر بالانجليزية
وعنوانه "جنود، جواسيس، ورجال دولة" هناك فقرة حول كيف قام عبد الناصر
عام ١٩٥٣ باستبعاد العناصر التي يمكن أن تشكل تحدياً له داخل القوات المسلحة. كانت
فكرة ترتيب الأوضاع في الجيش عملاً ضرورياً من أجل استمرار الحكم الجديد.
انتقلت مصر من سنة ١٩٥٦، والتي كشفت ضعف عبد
الحكيم في الأمور العسكرية، الى سنة ١٩٦١ حيث وقع الانفصال عن سورية، وتبين لعبد
الناصر أن الخلية المسؤولة عن الانفصال كانت مرتبطة بمكتب عبد الحكيم عامر.
وبالرغم من ذلك ظل عبد الحكيم عامر، برغم مسؤوليته المباشرة عن فشل الوحدة، في
منصب القائد العام.
جاءت حرب ١٩٦٧ وكانت الهزيمة المروعة للقوات
المصرية خلال أيام نتيجة منطقية لجيش يقوده قائد مهتز وضعيف مثل عبد الحكيم عامر. وقد
وصف بعض المؤرخين الطريق الى ١٩٦٧ بأنه كان نتيجة "صراع بين دولتين داخل وطن
واحد"! هنا قرر عبد الناصر إزاحة عبد الحكيم عامر عن منصبه ووضعه تحت الإقامة
الجبرية. بالرغم من ذلك استطاع عبد الحكيم عامر بما له من شعبية في الجيش أن يجمع
عدداً من ضباط الجيش في منزله، وذلك من أجل التخطيط لانقلاب عسكري والإطاحة بعبد
الناصر. وقائع هذا المخطط وكيف فشل، رواها فيما بعد أمين هويدي رئيس المخابرات
العامة ووزير الحربية في كتابه الهام "الفرص الضائعة".
في أعقاب "انتحار" عبد الحكيم
عامر، بدأ عبد الناصر في التنبه لخطورة دخول الجيش في الحياة السياسية أو المدنية.
لذلك أصدر عدداً من القرارات لجعل وزارة الدفاع تابعة لمؤسسة الرئاسة وليست نداً
لها، وأن لا تقوم بأي دور مدني أو سياسي أو حتى أي دور في حفظ السلم والأمن العام
إلا بطلب من رئيس الجمهورية ولفترة محدودة على نحو ما حدث في أحداث ١٨ و١٩ يناير
١٩٧٧ أو أحداث الأمن المركزي في ١٩٨٦ أو مساء يوم ٢٨ يناير ٢٠١١.
ومنذ رحيل عبد الحكيم عامر وحتى إقالة
المشير طنطاوي من منصبه كوزير للدفاع، كان كل قادة الجيش المصري يدركون خطورة أن
يقوم الجيش بلعب أي دور سياسي من أي نوع. وكان لدى رؤساء الجمهورية المتعاقبين إدراك
بحساسية وخطورة إقحام الجيش في أي معارك سياسية. قد يتم أخذ رأي وزير الدفاع في
بعض المسائل المتعلقة بالأمن القومي ولكن لا يتم أخذ رأيه في تقسيم دوائر مجلس
الشعب مثلاً أو في السياسة النقدية للبنك المركزي أو حتى في السياسة الخارجية
طالما لن يؤثر ذلك على الأمن القومي.
ما حدث في الثامن والعشرين من يناير عام
٢٠١١ كان زلزالاً عنيفاً لأركان الدولة المصرية. ضرب الزلزال بعنف قلب هذه الدولة
كما لم يحدث من قبل منذ إنشاءها قبل قرنين وفق رؤية محمد علي باشا. أدرك الجيش
للمرة الأولى أن الجناح السياسي للنظام كان أضعف من أن يتم الاعتماد عليه في
الحفاظ على الدولة. اختفى الحزب الوطني الديمقراطي كما اختفى الجيش العراقي فور
دخول القوات الأمريكية الى بغداد. انهار حزب النظام خلال ساعات وتم حرق مقراته،
وذلك في إجابة شعبية على عبارة مهندس الحزب أحمد عز حول "مستوى رضا المصريين
المرتفع"!
تولى الجيش الحكم خلال فترة انتقالية صعبة،
أثبت فيها قادته أن علاقتهم بالسياسة وإدارة شؤون الدولة منعدمة! لم يكونوا مؤهلين
أصلاً للحكم ولم يكن أداؤهم سوى فشل تم تجسيده في كل الأزمات والصدامات الدموية
العنيفة التي شهدتها مصر منذ تنحية مبارك عن الحكم وتولي مرسي للرئاسة.
خلال حكم محمد مرسي كانت هناك بعض الإشارات
المثيرة للاهتمام في علاقة مؤسسة الرئاسة بالجيش. الأولى هي السهولة التي تمت بها
إزاحة طنطاوي وعنان من الجيش ومجيء عبد الفتاح السيسي. الثانية هي أدوار الوساطة
التي حاول السيسي أن يلعبها بين الرئيس وبين خصومه السياسيين. الثالثة كانت في
استدعاء القوى السياسية للجيش من أجل عزل مرسي.
يروي البعض ممن كانوا على صلة بتلك الفترة
أن الجيش كان يميل نحو إجبار مرسي على انتخابات مبكرة، لكن محمد البرادعي رفض هذه
الفكرة بدعوى أنه قد تجاوزها الوقت وأنه لابد من عزل مرسي أولاً، لأنه بات يشكل
خطراً على وحدة البلاد الداخلية وأن مرسي قد يكون سبباً في إشعال حرب أهلية.
استجاب الجيش لنصيحة البرادعي وتم إعلان خريطة الطريق والتي تضمنت تعديل الدستور
وانتخاب رئيس وبرلمان. قال البرادعي حينها أن السيسي أكد له عدم رغبته في الترشح
لرئاسة الجمهورية. ثم أعلن السيسي في أكثر من خطاب أنه لا يريد حكم مصر حتى لا
يقال أن الجيش تحرك من أجل السيطرة على الحكم. كان السيسي خلال تلك الخطابات
مدركاً لخطورة إقحام الجيش في السياسة.
من قالوا أن عزل مرسي كان انقلاباً، كان يتم
الرد عليهم بأن رئيس الجمهورية المؤقت هو رئيس المحكمة العليا. وأن وزير الدفاع
لايزال وزيراً في حكومة لا يرأسها. كان الحفاظ على شكل وشرعية ما جرى مهماً
للغاية، داخلياً وخارجياً. فوصف ما جرى في مصر "بالانقلاب" له تبعات
إقليمية ودولية لا تستطيع مصر أن تتحملها. هذه ليست معركة استقلال وطني مثل ما جرى
في ١٩٥٦ أو عدوان خارجي مثل ما حدث في ١٩٦٧ أو معركة تحرير أرض كحرب ١٩٧٣ ولكنها
معركة لتأكيد "شرعية عزل رئيس استجابةً لطلب شعبي".
لكن تطورات الأمور فيما بعد أثبتت أن لا أحد
يتعلم من الدرس الفادح الذي تعلمه عبد الناصر ووعاه السادات ومبارك! وسأتوقف هنا
عند مشهدين كان لا ينبغي أن يتم التورط فيهما.
المشهد الأول: أصدر المجلس الأعلى للقوات
المسلحة في يناير الماضي بياناً تحدث فيه حول تركه لوزير الدفاع حرية التقدم بالترشح
للرئاسة بالرغم من أن ذلك يعد إقحاماً للجيش في أمر لا يخصه. فطموح وزير الدفاع
السياسي بعد تركه للخدمة في القوات المسلحة أمر يخص شخص وزير الدفاع والجهات المدنية
التي تشرف على تنظيم عملية الانتخابات.
المشهد الثاني: خرج وزير الدفاع ببدلته
العسكرية المموهة وألقى كلمة للشعب المصري عبر التلفزيون الرسمي للدولة، استمرت
لربع ساعة، وأعلن فيه تقدمه بالاستقالة من منصبه والتقدم لخوض الانتخابات على
المنصب التنفيذي الأعلى في البلاد. كما أعلن رغبته في بناء دولة ديمقراطية حديثة،
وطلب أن يتم التوقف عن تشويه أو مهاجمة من يجد في نفسه القدرة على تحمل المسؤولية
وخوض الانتخابات الرئاسية، وأنه سيظل حريصاً على أمن مصر "بل والمنطقة"!
وتحدث حول الأعباء التي يواجهها المواطن المصري وحول التحديات التي تنتظر الدولة
والشعب.
ملاحظات على المشهد الثاني والذي لم يكن من
المفترض أن يحدث:
أولاً: كان من المفترض، ومن الضروري، أن
يقوم وزير الدفاع بالتقدم باستقالته لرئيس الجمهورية. ثم يتقدم بأوراق ترشيحه
للجنة العليا للانتخابات مثل أي مرشح مدني، سواء بخلفية عسكرية أو طبية أو هندسية
أو غير ذلك. وكان من المفترض أن يقوم وزير الدفاع السابق بإعلان برنامجه السياسي
الذي سيخوض به الانتخابات وهو يرتدي زياً مدنياً. أما وقد ارتدى بدلته العسكرية
وأعلن عن طموحه السياسي من داخل مقر تابع للمؤسسة العسكرية، فقد أقحم الجيش فيما
لم يكن من المفترض أن يكون طرفاً فيه. وهو ما سيؤثر على شكل العلاقات المدنية
العسكرية في مصر خلال الأعوام القادمة.
ثانياً: جميع شهادات القادة العسكريين الذين
عينهم عبد الناصر بعد هزيمة ١٩٦٧ أشارت الى أن أحد الأسباب الرئيسية للهزيمة هي
التساهل في أن يلعب الجيش أدواراً في الحياة المدنية، وهو ما أدى الى عدم قدرته
على الوفاء بالتزاماته العسكرية. وعندما أصبح الجيش طرفاً في الحياة المدنية
والسياسية، أصبح قادراً على التفكير في الانقلاب على قائده الأعلى، مثلما خطط عبد
الحكيم عامر مع عبد الناصر، أو مثلما كان يحدث بشكل دوري في سورية قبل وصول حافظ
الأسد للحكم، أو في العراق قبل وصول أحمد حسن البكر ونائبه صدام للسلطة.
ثالثاً: عندما بدأت وحدات الجيش في الانتشار
في القاهرة والمدن الكبرى مساء ٢٨ يناير ٢٠١١، استقبل الناس جنود الجيش بالهتاف:
الجيش والشعب إيد واحدة. كان المقصود من هذا الهتاف هو أن يتم التفريق بين الجيش
كمؤسسة ولائها للشعب وبين الرئاسة كمؤسسة تتعرض لغضب الشعب. لم يتعامل الناس مع
الجيش في تلك اللحظة على أنه ذراع مبارك القمعية مثلما كانوا يتعاملون مع قوات
الشرطة. لكن هذا الفصل أصبح صعباً. فقائد الجيش انتقل من مكتبه في وزارة الدفاع
الى الترشح للرئاسة دون أي فترة انتقالية، يتولى فيها عملاً مدنياً مثلما حدث مع
مبارك عندما عينه السادات نائباً لرئيس الجمهورية. أو السادات الذي كان رئيساً
لمجلس الأمة ثم نائباً لرئيس الجمهورية.
رابعاً: خلال السنوات الثلاث الماضية كانت
المؤسسة العسكرية تخضع لإرادة الشعب. لما زاد الغضب الشعبي على مبارك، لم تجد
المؤسسة التي كان يرسم طياروها بمقاتلاتهم في السماء كلمتي "مصر مبارك"،
لم تجد تلك المؤسسة أي مشكلة في إزاحة قائدها الأعلى عن السلطة. تكرر السيناريو مع
محمد مرسي. ماذا لو تزايد الغضب الشعبي على الرئيس القادم؟
خامساً: لا توجد مشكلة في أن يتقدم وزير الدفاع
للمنصب التنفيذي والسياسي الأعلى في الدولة إذا وجد في نفسه القدرة على تحمل
المسؤولية. لكن يجب أن يتم ذلك وفق قواعد الحياة المدنية والسياسية التي تحفظ لمصر
خصوصيتها كدولة ليست قبلية أو عشائرية. لذلك فإن ما جرى من دخول وزير الدفاع
السابق الى الحياة السياسية تم ضمن أجواء "المبايعة الشعبية والتأييد"،
لا ضمن أجواء التنافس الانتخابي. فقد أصبح الجميع يعلم الآن اسم الرئيس القادم. فما هو
الهدف إذن من المنافسة مع مرشحين لن يشكلوا تهديداً حقيقاً لفرص وزير الدفاع السابق في
الفوز.
هذا كله يمثل شروخاً عميقة في شرعية الرئيس القادم.