Saturday 17 August 2024

كيف تنفجر الموهبة؟ مقال عمي إبراهيم عبد المجيد يذكر فيه صديق عمره وصديقي العزيز..

من الأرشيف الشخصي - صورة بها عمي إبراهيم ووالدي

كتب صديق العمر الكاتب والباحث في التاريخ صلاح زكي أحمد على صفحته في فيسبوك بمناسبة ظهور نتائج الثانوية العامة المصرية يقول: (إذا أردت أن تبني أمة عظيمة أسس نظاما تعليميا وطنيا، وإذا أردت أن تُدمر وطنا، افتح المجال للتعليم الخاص، بريطاني وألماني وفرنسي، أما التعليم الحكومي الوطني أتركه للإهمال وللفقراء).

صلاح زكي أحمد يكتب مقالاته في مواقع مهمة منها، «أصوات أون لاين» و»المنصة» وله كتب مهمة مثل «الثورة الفلسطينية التاريخ – الواقع المستقبل» و»الأيديولوجية والأمن ـ دراسة تطبيقية في الاستراتيجية الإسرائيلية» و»مصر والمسألة القومية ـ بحث في عروبة مصر» وغيرها. جمعت بيننا أيام الأمل في السبعينيات حتى تفرقنا في البلاد، ثم قربت السوشيال ميديا بيننا في السنوات الأخيرة، وهو حاضر دائما في القلب والروح، رغم لقاءاتنا الشخصية القليلة. ما كتبه عن التعليم أعاد إليّ تاريخا كان فيه التعليم للجميع هدفا لعظماء الساسة والمفكرين، وعلى رأسهم طه حسين، الذي رفع شعار التعليم كالماء والهواء. وكيف انتشرت المدارس الحكومية بتبرعات باشوات العصر الملكي، والجمعيات الأهلية. ذلك العصر الذين كانوا يبنون فيه المدرسة ثم يتبرعون بها إلى وزارة المعارف العمومية، التي هي وزارة التربية والتعليم بعد يوليو/تموز 1952. والأمر نفسه في الجامعات مثل جامعة القاهرة والإسكندرية. لم تكن هناك مدارس خاصة، إلا ما ندر مثل، مدارس الإرساليات الأجنبية، وهذه أيضا كانت مفتوحة للجميع.

ظل الأمر قائما بعد يوليو 1952 واتسعت المدارس الحكومية أكثر مع خطة الحكومة في الستينيات التي رفعت شعار مدرسة كل أسبوع ومصنع كل عشرة أيام، ثم بدا الانكسار والتراجع، منتصف السبعينيات مع سياسة أنور السادات، التي رفعت شعار تشجيع القطاع الخاص، فعملت على تدمير القطاع العام وفتحت المجال للمدارس والجامعات الخاصة، واستمر الأمر بشكل جنوني حتى الآن، فانتهت تقريبا جميع المصانع ولم تتسع حتى مساحة مصانع القطاع الخاص بما يكفي، أو يعوض ما تم تدميره، وصار القطاع الخاص نفسه يعاني الكثير من السياسة المركزية للدولة، التي وهي ترفع شعار القطاع الخاص جعلت كل شيء في يدها وهذا التناقض مستمر. انتشرت مدارس القطاع الخاص وجامعاته، فصار لدينا مدارس ألمانية وفرنسية وإنكليزية وروسية وإيطالية وكندية، وأهملت مدارس الحكومة التي كانت مجانية وصارت متخمة بأعداد الطلاب التي وصلت في المرحلة الابتدائية في بعض المدارس إلى مئة تلميذ، وانتهي الأمر إلى التعليم عن بعد بالموبايل واللاب توب، وانتشرت مراكز الدروس الخصوصية، التي تسمى السناتر وصارت تقريبا بديلا عن المدرسة.

حاولت هنا أن أوجز مسيرة التعليم إلى التدهور الحالي، لكن أيضا، ما أثاره صلاح زكي أحمد في روحي سؤال هو، كيف تنفجر المواهب. الواقع والتاريخ يقول إن المدارس هي أول الأماكن التي تظهر فيها الموهبة. تميزت المدارس في ما مضي بأن فيها جماعات للموسيقى والشعر والفن التشكيلي والسينما والرحلات والكشافة وغيرها. كانت المدارس متسعة فيها فناء كبير فيه ملاعب أحدها لكرة القدم والثاني لكرة السلة والثالث للكرة الطائرة، وعلى الجانب أدوات التدريب الرياضي، أو الجمباز، وفي كل مدرسة مكتبة للقراءة واستعارة الكتب، بل كانت هناك حصتان للقراءة الحرة في المكتبة، يدخل فيها طلبة كل فصل دراسي مرة في الأسبوع يقرأون ما يشاءون من اختياراتهم، ولا أحد يسألهم أو يحدد لهم ما يقرأون.

إلى جانب ذلك كانت كل المدارس حريصة على أن تصحب التلاميذ في رحلة أسبوعية إلى أحد دور السينما الشهيرة، باشتراك رمزي لا يزيد عن ثلاثة قروش فضلا عن إقامة المسرحيات من التلاميذ في المدرسة نفسها. هذا المناخ التعليمي لم يكن حلما وإن صار الآن، لكنه كان من بقايا الفترة الملكية التي حافظت عليها حركة يوليو 1952 ولم تلغه أو تغيره. ظل مستمرا حتى السبعينيات اللعينة. هذا حديث لا أقوله من القراءة لكن من واقع ما عشته أنا، إذ دخلت المدرسة الابتدائية عام 1952. وانتقلت إلى المدرسة الإعدادية عام 1958 وإلى المدرسة الثانوية عام 1961 وعشت ذلك كله في جميع مراحل التعليم. لعبنا كل الألعاب ولكل لعبة ذكريات، وانضممت إلى جماعة الموسيقى ولم أستمر، وإلى جماعة الفن التشكيلي ولم استمر، لكن كانت الساعتان اللتان نمضيهما في المكتبة عامل الجذب الكبير لروحي للقراءة، حتى انفجرت موهبة الكتابة، دون أن أرتب لها. زملائي حدث لهم ما حدث لي لكن في المجالات الأخرى، فبينهم من التحق بأندية رياضية ومن التحق بالكليات العسكرية إذ كانت ملاعب الجمباز حافزا له على تقوية جسده، وبينهم من امتهن الموسيقي وبينهم من أثرت فيه جماعة الرحلات فالتحق بالكلية البحرية يطوف العالم، أو عمل في أسطول نقل بحري وهكذا. الإنسان يولد وفيه كل المواهب لكن ما يعيشه هو الذي يفتح باب إحدى المواهب للانفجار. تستطيع أن تمشي مع كل المهن التي أخذت الموهبة صاحبها إليها. هل لم يظهر من زملائي لص أو قاتل. ظهر. شخص واحد أتذكره في المرحلة الإعدادية صار لصا في الميناء، أي أن موهبة الإجرام موجودة مثل غيرها في كل شخص، لكن المناخ حوله هو الذي يفجرها.

لم يكن مناخ التعليم يفجر مواهب شريرة إلا نادرا، وغالبا صاحبها لم ينجح في التعليم وجاء سلوكه رد فعل لأحداث خاصة وقعت له أو لأسرته. كانت المدارس ليس للتعليم فقط لكن مراكز ثقافية أوسع من قصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة، لأنها لم تكن معنية بالثقافة فقط، كما أوضحت في أنواع جماعاتها، وكان العالم حولها أكثر اتساعا ونظافة. فمدينة مثل الإسكندرية كانت لا تزال تحتفظ بطابعها الكوزموبوليتاني التي تحدثت عنه كثيرا، وكل المدن كانت تتمتع بمباني رائعة على الطراز الأوروبي، أو الأوروبي والإسلامي معا، وكان قانون البناء يحظر أن يرتفع البناء إلى أكثر من مرة ونصف لعرض الشارع، ومن ثم فالشارع الذي يصل عرضه إلى عشرة أمتار لا يرتفع البناء فيه عن خمسة عشر مترا. أي خمسة طوابق أو أربعة طوابق بارتفاعات تلك الأيام. حتى المباني على النيل أو كورنيش البحر كانت لا ترتفع عن ستة طوابق رغم اتساع الشارع والبحر أمامها حتى لا تحجب الهواء والشمس عن غيرها. كانت مساحة العشوائيات قليلة جدا على أطراف المدن، ولم تكن هي المدن نفسها كما هو حادث الآن. قانون المباني الذي أشرت إليه كان يجعل كل شيء في الشارع واضحا لسكانه، ومن ثم تقل الجرائم أو تنعدم. الآن في شوارع لا تزيد عن ستة أمتار ترتفع البنايات إلى خمسة عشر طابقا، ومن ثم لا شمس ولا هواء، وتتحول لبؤر إجرامية أقل ما فيها توزيع المخدرات والتحرش بالنساء.

ذلك المناخ القديم بكل تجلياته كان دافعا لانفجار المواهب الرائعة في العديد من التلاميذ. الآن اختفي هذا المجال وأصبحت للمواهب حقول أخرى، ليست بقدرات المدرسة القديمة أهمها، الأسرة التي تعاني كثيرا في الحفاظ على سلامة عقل وروح أبنائها من عشوائيات الفكر حولها الذي جاء نتيجة طبيعية لعشوائيات البناء، وقد ضاقت المدارس عن ساكنيها فزادت الجرائم وانفجر الإجرام. هل ليس في المدارس والجامعات الخاصة ثقافة؟ فيها ثقافة استهلاكية مثل حفلات الرقص والغناء الذي تتردد فيها أغاني العشوائيات التي سادت السوشيال ميديا، لكننا لم نسمع عن فرقة مسرحية مثلا، ويكون همّ التلميذ هو كيف ينتهي من الدراسة نفسها. حتى لو فيها ثقافة فنسبة القادرين على التعليم الخاص قليلة جدا قياسا على عدد الشعب، الذي صار مهملا تعتبره الدولة الحاكمة سبب أزماتها في كل مجال، وتفكر كل عام في زيادة مصروفات الدراسة بينما أغلقت مدارسه.

No comments:

Post a Comment