Sunday, 29 September 2024

في عين الإعصار، رعبٌ يضرب الجميع



 بعد ٣٢ عاماً من قيادته لحزب الله، جاء اغتيال حسن نصر الله  ورحيله عن المشهد السياسي اللبناني والإقليمي كي يكون الزلزال السياسي الأضخم منذ زلزال السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وهو ما سوف يترك آثاراً عميقة على مستقبل الشرق الأوسط الذي يمر حالياًً بفترة هي الأكثر عنفاً ودموية منذ عقود بعيدة وبشكل لا يمكن حتى مقارنته  بمستويات الدموية اللي رافقت الاجتياح الاسرائيلي للبنان في ١٩٨٢ وما تبعه من مجازر مثل صبرا وشاتيلا أو مقارنته بمستويات العنف التي تضمنتها الحرب العراقية الإيرانية.

قد تكون إسرائيل انطلقت من نقطة "الرد على هجوم ٧ أكتوبر" من خلال تبني فكرة القضاء على حماس وحزب الله. وهي الأهداف اللي بدت بعيدة المنال خلال الأشهر اللي تلت الحرب في غزة أو خلال حرب "السقف المتعارف عليه" مع حزب الله في لبنان. ولكن بمجرد ما بدا تحقيقاً لأهداف إسرائيل العسكرية في غزة، اتخذت قرارها بنقل الحشد العسكري باتجاه لبنان والانخراط في تحقيق الهدف الذي فشلت فيه إسرائيل في ٢٠٠٦ وهو القضاء على حزب الله.


وبالتالي انتقلت إسرائيل من نقطة "الرد على الهجوم" قبل عام من الآن، كي تصل إلى نقطة "إعادة رسم المنطقة كلها بما يضمن أمن ومصالح إسرائيل لعشرات السنين".. حدث هذا بعد تنفيذ حملة قصف على غزة يمكن مقارنتها بحملة القصف الأمريكية على طوكيو خلال الحرب العالمية الثانية والتي تركت دماراً أكبر بكثير من أي دمار ناتج عن قصف طوكيو بالقنبلة الذرية، كما فعلت واشنطن مع هيروشيما وناجازاكي.


وخلال حرب غزة كانت إسرائيل منخرطة في اشتباك متواصل مع حزب الله وبوتيرة تشمل التصعيد النوعي مثل اغتيال القيادي في حماس في الضاحية الجنوبية صالح العاروري ثم اغتيال القيادي الميداني في الحزب فؤاد شكر وغيرهم من قيادات ميدانية في بيروت وجنوب لبنان. وخلال كل ذلك كانت الرسالة الإسرائيلية الأهم لطهران هي اغتيال إسماعيل هنية في بيت آمن تابع للحرس الثوري في طهران!


المسار الجديد في الصراع بين إسرائيل وحزب الله بدأ منذ لحظة تفجير أجهزة البيجر وأجهزة الاتصالات. كانت هذه لحظة فارقة لأن حسن نصر الله تعامل معها باعتبارها هزيمة مفاجئة في الجولة الحالية من الصراع بين الحزب وإسرائيل والتي بدأت في ٨ أكتوبر ٢٠٢٣. ثم توالت الأحداث عاصفة لتنتهي باغتيال حسن نصر الله نفسه في ذروة الحرب المفتوحة بين الطرفين.


وخلال كل ذلك تعاملت سوريا مع ما يحدث باعتبارها دولة إسكندنافية تربطها حدود مع السويد. بينما اكتفت إيران ببيانات الحزن العميق والوعيد البعيد، إدراكاً من طهران بأنها مخترقة بشكل مؤلم من قبل إسرائيل وأن أي خطوة جادة لدعم حليفها الإقليمي الأهم سوف يعني رداً إسرائيلياً لن تكون قادرة على دفع تكاليفه في الوقت الحالي.


الولايات المتحدة رأت في كل ما يحدث فرصة عظيمة للوصول مع إيران إلى اتفاق كانت ترفضه الأخيرة في السابق. في اتفاق ٢٠١٥ كانت الصفقة الأمريكية الإيرانية تتعلق بالبرنامج النووي. أتى ترامب وألغى الصفقة ثم أتى بايدن وبدأ الحديث مجدداً عن صفقة جديدة تشمل البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي والنفوذ الإيراني في المنطقة من خلال حلفائها ورجالها في اليمن ولبنان والعراق وسوريا. خرجت سوريا من معادلة التحالف مع إيران بعد تفاهمات مع روسيا كي تنأى بنفسها عن الصراع الحالي، وبعد انخراطها في محاولات إعادة تأهيل نظامها ضمن المنظومة العربية الرسمية، وبالتزامن مع فتح قنوات اتصال مع الاتحاد الأوروبي. وبقي حزب الله هو الحليف الإقليمي الأهم لإيران على الإطلاق. 


تدرك إيران الآن أنّ أوراقها الإقليمية تمر باللحظة الأضعف على الإطلاق. وأنه من الأفضل الخروج بصفقة تضمن أمن النظام ومصالحه في محيطه الحيوي الضيق وليس لدى حلفائه في بيروت وصنعاء. فيما يواجه حزب الله خيارات مصيرية وتحديات هائلة بعد اغتيال عدد كبير من قادته الميدانيين والسياسيين وأهمهم على الإطلاق رمزه التاريخي حسن نصر الله. أما لبنان فيبدو قريباً من تفاعلات قد تؤدي إلى انفجار الحرب الأهلية مرةً أخرى بعد ٣٤ عاماً من توقفها!


وأمام هذه الصورة القاتمة والدموية، يعيش العالم العربي حالة من الرعب والخوف والإحساس بالانكشاف الشديد أمام إسرائيل أو الولايات المتحدة، حيث الكل يرفع شعار: الهدف هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لو بدا قليلاً وضئيلاً كي لا تنفجر فينا شاشات التلفزيون وغسالات الأطباق! لا توجد لحظة أكثر بؤساً وعجزاً ورعباً في تاريخ العالم العربي من اللحظة الراهنة!


هذه لحظة تفوقت في كابوسيتها على لحظة غزو العراق للكويت أو اجتياح إسرائيل للبنان أو حتى هزيمة ١٩٦٧.. العالم العربي الآن تجاوز القاع واقترب من مركز الأرض حيث الخوف من الاحتراق أصبح أحد الاحتمالات المتوقعة!


وهي أيضاً لحظة تأسيسية لمنطقة جديدة على نحو يمكن مقارنته بما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن هذه المرة بدون أوهام الثورة العربية الكبرى وأحلام الشريف حسين وأبناؤه في بناء دولة عربية كبيرة مستقلة.. هذه المرة هي لحظة تأسيسية لمنطقة تعمل جاهدة للحفاظ على أمن المنتجعات وموانئ اليخوت وكمبوندات السكن الفاخر المحاطة بملاعب الجولف وأشجار الأكاسيا! 








Thursday, 19 September 2024

نبوءة ديجول: "كراهية بريطانيا المتجذرة" تهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي



تم نشره يوم  الخميس 23 يونيو 2016

في السابع والعشرين من نوفمبر عام 1967، وداخل قصر الإليزيه، قال الرئيس الفرنسي شارل ديجول أمام نحو ألف شخص من الدبلوماسيين وكبار رجال الدولة الفرنسية: إن بريطانيا تملك "كراهية متجذرة" للكيانات الأوروبية. وحذّر من أن فرض بريطانيا كعضو في السوق الأوروبية المشتركة سوف يؤدي إلى تحطيمه.

قصة انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة؛ كانت بنفس قدر درامية سيناريوهات خروجها المطروح من الاتحاد الأوروبي.

ففي عام 1961 تقدمت بريطانيا بطلب الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة، وبعد ذلك بعامين رفض ديجول الموافقة على دخول بريطانيا. حاولت بريطانيا مرة أخرى وأعلن ديجول رفضه لانضمام بريطانيا في عام 1967 بالرغم من موافقة الدول الأخرى المنضمة للسوق. 

لم تستطع بريطانيا الانضمام للاتحاد إلا بعد أن ترك ديجول الحكم عام 1969، لتصبح عام 1973 دولة كاملة العضوية في السوق الأوروبية المشتركة، وجرى الاستفتاء الأول على عضوية بريطانيا في عام 1975.

كانت بريطانيا تطمع في الحصول على المزايا الاقتصادية التي توفرها السوق الأوروبية المشتركة لأعضائها، خصوصًا رفع الإجراءات الجمركية أمام التجارة بين أعضاء السوق. وكانت بريطانيا تدرك أيضًا، خطورة الابتعاد عن أي مشروع وحدة أوروبية، لأن هذا لن يؤدي سوى إلى المزيد من العزلة السياسية بعد أن خسرت مستعمراتها حول العالم.

ومن اللافت أن بريطانيا لم تكن عضوًا في التجارب الأولى للوحدة الأوروبية، مثل تجربة إنشاء تجمع للحديد والفحم عام 1952. كما لم توقع على اتفاقية روما عام 1957 والتي ضمت ست دول من أوروبا الغربية، وأسست لكيان اقتصادي لا يتم فيه فرض الجمارك على التجارة بين الدول الست. 

تبدو مشكلة بريطانيا أنها تريد أن تكون جزءًا من أوروبا، دون أن تكون عضوًا حقيقيًا فيها. فعندما اختار أعضاء الاتحاد الأوروبي الاشتراك في نظام موحد لتأشيرات الدخول، الشنجن، رفض البريطانيون الانضمام. وعندما تبنوا اليورو كعملةٍ موحدة لهم، اختار البريطانيون الاحتفاظ بالجنيه الاسترليني، والحفاظ على سلطة بنك انجلترا المركزي في تحديد أسعار الفائدة، وعدم الخضوع لقرارات البنك المركزي الأوروبي في تحديد سعر الفائدة في منطقة اليورو.

رئيسة وزراء بريطانيا خلال الثمانينيات، مارجريت ثاتشر، لخصت علاقة بريطانيا بأوروبا من خلال قول "لا" ثلاث مرات في جلسة لمجلس العموم عام 1990. كانت ثاتشر معارضة شرسة لمنح بروكسل، حيث مقر المفوضية الأوروبية، أي سلطات مركزية أو تشكيل ما يعرف باسم "الولايات المتحدة الأوروبية".

تاريخيًا لم يكن حزب المحافظين من المؤمنين بفكرة الاندماج الكامل في أوروبا أو كياناتها السياسية مثل الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن زعيم المحافظين التاريخي وينستون تشرشل كان من الذين يؤمنون بأن حل المشاكل الأوروبية لن يكون سوى بإقامة وحدة كاملة.

في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، بدأ التململ يزداد في القاعدة الشعبية للمحافظين تجاه المهاجرين من دول أوروبا الشرقية التي انضمت للاتحاد عام 2004 و2007. لمواجهة هذا التململ والضغط الشعبي، قام رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون بالتعهد بإجراء استفتاء حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في حال تم انتخاب المحافظين للحكم عام 2015. 

نقطة تفتيش على الحدود البريطانية 

كان كاميرون يعتقد أنه سيضطر للدخول في مشاورات لتشكيل حكومة ائتلافية وأن وعده الانتخابي سيكون أول الأشياء التي يمكن التضحية بها. كما أراد كاميرون أن يقضي على الأصوات المناوئة لأوروبا داخل حزبه من خلال نتيجة استفتاء شعبي سيحسم، وفق تصوره، الجدل حول أوروبا إلى الأبد.

فاز كاميرون بعدد كافٍ من المقاعد التي تمكنه من الحكم دون الدخول في ائتلاف مع الديمقراطيين الأحرار، وخلال الشهور الماضية خاض كاميرون جولات من المفاوضات الماراثونية مع زعماء دول الاتحاد الأوروبي، من أجل الحصول على صفقة تمكنه من تسويق البقاء داخل الاتحاد للبريطانيين.

وفق رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جونكر فإن كاميرون "حصل على أقصى ما يستطيع ونحن قدمنا أقصى ما نستطيع، وبالتالي لن يكون هناك المزيد من التفاوض ولن تكون هناك صفقة جديدة غير تلك التي اتفقنا عليها في فبراير.. الخروج سوف يعني الخروج"!

الصفقة التي حصل عليها كاميرون شملت نقاطًا عدة؛ أهمها أن لا يحصل المهاجرون الأوروبيون إلى بريطانيا على مساعدات حكومية إلا بعد أن يحصلوا على وظائف في الأراضي البريطانية، ويساهموا في النظام الضريبي للبلاد. كما تشمل الصفقة عدم مسؤولية بريطانيا على إنقاذ الاقتصادات التي تتعثر في منطقة اليورو. 

خلال المناظرات التي جمعت أنصار معسكر الخروج؛ وأبرزهم عمدة لندن السابق بوريس جونسون (محافظين)، وأنصار معسكر البقاء؛ وأبرزهم عمدة لندن الحالي صديق خان (عمال)، كان من المهم ملاحظة أن كلا المعسكرين لا يعبران عن الأحزاب السياسية أو التوجهات الأيدولوجية. فعدد كبير من أبرز من طالبوا بالبقاء هم من حزب المحافظين، ومنهم بالطبع رئيس الوزراء ووزير المالية جورج أوزبورن وزعيمة المحافظين في اسكتلندا روث دافيدسون. وبالتالي أظهر الاستفتاء انقسامًا داخل المحافظين. كما أن عددًا لا بأس به من البريطانيين من أصول غير أوروبية (عرب وأسيويون من شبه القارة الهندية) أعربوا عن رغبتهم في الخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى لا تقتصر الهجرة لبريطانيا على القادمين من أوروبا فقط وأن تعود لتشمل الجميع من خارج القارة الأوروبية. 

وبالتالي جمع معسكر الخروج أفرادًا من تيار اليمين المحافظ الذي ينادي "بعودة بريطانيا إلى البريطانيين"، إلى جانب أفراد من البريطانيين ذوي الأصول غير الأوروبية. كما جمع أعضاءً في حزب المحافظين إلى جانب أعضاءً في حزب العمال.

لم يعد الاستفتاء إذن ذا صبغة حزبية؛ وإنما أصبح حول رؤية الأطراف المتعددة داخل المجتمع البريطاني لشكل وموقع بريطانيا على خريطة العالم خلال العقود القادمة. وبدا أن الاستفتاء يحاول أن يعيد صياغة هوية بريطانيا والبريطانيين. هل هم أوروبيون أم لا؟

استطلاعات الرأي أظهرت أن المقيمين في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية يعتبرون أنفسهم أوروبيون، وبالتالي فإنه من المحتمل أن تحاول اسكتلندا إعادة الاستفتاء على انفصالها من المملكة المتحدة، في حال خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وذلك من أجل نيل الاستقلال والانضمام إلى الاتحاد. ما يعني أن المملكة المتحدة مهددة بالتفكك إذا ما قررت الخروج. 

أوباما في انجلترا

وبالرغم من الحساسية الموجودة لدى بريطانيا تجاه هيمنة ألمانيا على الاتحاد، فإن الخروج منه سوف يضر بمكانة بريطانيا السياسية في العالم، وتحديدًا لدى الولايات المتحدة التي قام رئيسها باراك أوباما بزيارة خاصة إلى بريطانيا من أجل حث البريطانيين على البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي.

فواشنطن ترى أن وجود بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي يعد مصلحةً أمريكية من أجل إبقاء التوازن، والحفاظ على التنسيق بين الولايات المتحدة والكتلة الأوروبية. وبالتالي لا يرغب الأمريكيون في أن يخسروا حليفهم الأهم داخل الاتحاد الأوروبي.

 وإذا بات في حكم المؤكد أن بريطانيا سوف تتأثر سلبًا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، فإن الأخير سوف يتأثر أيضًا بشدة. فالأحزاب اليمينية المتطرفة في أكثر من دولة أوروبية، لديها ذات الطموح الانفصالي، وتراقب عن كثب استفتاء الخروج البريطاني من أجل المطالبة به في دولها. وتكمن الخطورة في أن شعبية هذه الأحزاب في ازدياد، وهو ما يعني أن خروج بريطانيا من الاتحاد قد يشكل بداية انفراط عقده، وعودة القارة الأوروبية إلى عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية.

ومن المتوقع أن يكون تأثير الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي مروعًا على الصعيد الاقتصادي. فالاتحاد الأوروبي سوف يخسر شريكًا تجاريًا كبيرًا، واقتصادًا يعد خامس أكبر اقتصاد في العالم. أما بريطانيا فستخسر شريكها التجاري الأكبر، وسوف تفقد عملتها الكثير من قيمتها بسبب الخروج، وفق تصريحات رئيس بنك انجلترا المركزي. كما سينعكس الخروج سلبًا على حقوق العمال في بريطانيا والتي ينظم الاتحاد الأوروبي الكثير من قواعدها.

وقد يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى التسريع ببدء أزمة اقتصادية عالمية جديدة بسبب الأوزان النسبية الكبيرة للطرفين في الاقتصاد العالمي. أما سياسيًا؛ فسيفقد الطرفان الكثير من مكانتهما في العالم، وهو ما سينعكس سلبًا على قدرتهما في التدخل لحل النزاعات الإقليمية، أو تحقيق توازن في القوى الدولية المؤثرة سياسيًا، أمام روسيا والصين والولايات المتحدة.

لم تواجه أوروبا تحديًا يهدد كيانها السياسي الأهم في تاريخها، مثل تحدي استفتاء مواطني المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي هذه اللحظات يتذكر الأوروبيون كلمات ديجول ويقولون: ربما كان الجنرال الفرنسي العجوز على حق!

Sunday, 15 September 2024

التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب: شركة ذات مسؤولية محدودة



تم نشره يوم الأحد 20 ديسمبر 2015

خلال حرب 1991 حصلت مصر على إعفاء كبير من ديونها وعلى مساعدات ضخمة من الدول الخليجية. لكن الخطاب الرسمي كان يسوق للمشاركة العسكرية المصرية باعتبارها ضمن واجبات الشقيقة الكبرى لتحرير شقيقة صغرى من عدوان شقيقة أخرى.

عند الأزمات لا بد من التحرك للأمام. ربما مرت هذه القاعدة على ذهن المسؤولين عن صناعة القرار في الرياض عندما أعلنوا عن تشكيل تحالف "إسلامي" مكون من 35 دولة "لمحاربة الإرهاب في العالم".

فالرياض تدرك أن التنظيم الذي يسمي نفسه باسم "الدولة الإسلامية" قد بات التهديد الأخطر على أمنها الداخلي، خصوصًا وأن التنظيم استطاع أن يظهر قدرة على القيام بهجمات إرهابية حول العالم من خلال عناصر متعاطفة معه كما حدث في باريس. في نفس الوقت تعتبر المملكة السعودية إيران التهديد الأكبر لأمنها الإقليمي، خصوصًا مع التمدد الإيراني في الفراغات المحيطة بالمملكة كما حدث في اليمن وسورية والعراق.

لمواجهة هذه التهديدات كان الحل من وجهة نظر الرياض هو تشكيل "تحالف إسلامي لمكافحة الإرهاب حول العالم". عبارة تبدو قابلة للتأويل والتفسير بأكثر من طريقة. لكن ربما التأمل في الدول الإسلامية المستثناة من التحالف وأبرزها العراق وإيران، هو ما  جعل وزير الدفاع الأمريكي يصرح بأن "هذا التحالف يبدو متماشيًا مع ما كنا نحث عليه قادة الدول العربية السنية على القيام به وهو المشاركة بشكل أكبر في مكافحة داعش".

هو تحالف "إسلامي سني" بطبيعة الدول المستثناة منه. وهو تحالف يجمع دولًا تخوض حربًا باردة فيما بينها مثل مصر من جهة وتركيا وقطر من جهة أخرى. وهو تحالفٌ يأتي كي يشكل مظلة واسعة تقودها الرياض من أجل المشاركة بجنود على الأرض في مناطق لا ترغب العواصم الغربية بالانتشار بريًا فيها، مثل العراق وسوريا وليبيا.

فهل سيستطيع هذا التحالف تحقيق المهمة التي تشكل من أجلها؟

على الأرجح سيواجه التحالف صعوبات تجعل مهمته شبه مستحيلة للأسباب التالية:

​لا يوجد جيش واحد في التحالف لديه القدرة على خوض حرب برية بعيدة عن حدوده بدون دعم لوجيستي وغطاء جوي من جيش دولة كبرى مثل الولايات المتحدة. 

أولًا: الجيوش المشاركة في التحالف هي جيوش مصممة للدفاع عن حدود دولها أو القيام بمهمة حفظ الأمن الداخلي عند حدوث اضطرابات شعبية واسعة. لا يوجد جيش واحد في التحالف لديه القدرة على خوض حرب برية بعيدة عن حدوده بدون دعم لوجيستي وغطاء جوي من جيش دولة كبرى مثل الولايات المتحدة. ثم أن نتائج الحملة العسكرية السعودية في اليمن أو التحديات الأمنية التي تواجه مصر في سيناء أو التحديات التي تواجه تركيا في شمال العراق أو تلك التي تواجه باكستان في مناطق القبائل تطرح علامات استفهام حول قدرة جيوش الدول المشاركة على خوض معارك في مناطق مثل سورية أو العراق أو ليبيا أو مالي.

ثانيًا: تم الإعلان عن التحالف فجأة وبدون استشارة دول مشاركة فيه. وزير خارجية باكستان قال إنه لا يوجد علم لدى حكومته بالتحالف وأنه طلب إيضاحات من سفير باكستان في الرياض. أما ماليزيا فقالت على لسان وزير دفاعها أنها تدعم فكرة التحالف لكنها لن تشارك بقوات عسكرية فيه. أندونيسيا قالت إنها "تنتظر معرفة طبيعة التحالف العسكري الذي ستقوده السعودية". مصر لم يصدر عنها أي تصريح رسمي بالترحيب أو التحفظ. كما لم يتم معرفة رأي الحكومة المصرية في الاشتراك في تحالف عسكري مع تركيا وقطر. لكن اللافت هنا أن السعودية لم يكن لديها "جرأة" الإعلان عن مشاركة دول في التحالف مثل الجزائر وسلطنة عُمان.

تاريخيًا فإن سلطنة عُمان لا تشارك في أي تحالفات عسكرية إقليمية أو معارك خارج حدودها، وهو ما مكن القيادة العُمانية من الحفاظ على علاقات بجميع دول الإقليم خلال الأزمات الكبرى. كانت مسقط العاصمة الوحيدة التي حافظت على علاقات جيدة مع طهران وبغداد خلال الحرب العراقية الإيرانية.

كما كانت العاصمة الخليجية الثانية مع الدوحة التي حافظت على علاقات مع بغداد بعد حرب 1991 لتحرير الكويت. ولاتزال عُمان الدولة الخليجية الوحيدة التي لديها علاقات جيدة للغاية بإيران وفي نفس الوقت لديها علاقات جيدة للغاية مع الولايات المتحدة، وهو ما مكنها من لعب دور الوساطة بين الطرفين للتوصل الى الاتفاق النووي الأخير مع طهران. كما أن سلطنة عُمان أبدت تحفظها على الحملة العسكرية التي قادتها السعودية في اليمن.

أما غياب الجزائر فيطرح علامات استفهام حول قدرة التحالف على القيام بعمل عسكري بري في ليبيا دون أن تكون الجزائر حاضرة سواء بالتنسيق أو المشاركة، أو تحقيق أحد الأهداف الرئيسية للتحالف وهو محاربة "القاعدة في بلاد المغرب".

ثالثًا: في أعقاب الإعلان عن التحالف، وقبل أن يصدر أي تصريح رسمي مصري، أعلن ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز عن التكفل باحتياجات مصر من البترول لخمس سنوات. كما أعلن عن زيادة استثمارات المملكة في مصر.

كان واضحاً أن الرياض تريد قطع الطريق أمام القاهرة في حال أرادت إبداء أي تحفظ على المشاركة العسكرية تحت مظلة السعودية. لكن الأزمة المرتقبة ستكمن في كيفية تسويق القيادة السياسية المصرية لهذا التحالف داخليًا، خصوصًَا وقد بدا أن المشاركة تمت وفق "صفقة شراء" كان ثمنها معلنًا.

هذه ليست المرة الأولى التي تشارك فيها مصر في تحالف عسكري إقليمي مقابل الحصول على منافع وامتيازات. خلال حرب 1991 حصلت مصر على إعفاء كبير من ديونها وعلى مساعدات ضخمة من الدول الخليجية. لكن الخطاب الرسمي كان يسوق للمشاركة العسكرية المصرية باعتبارها ضمن واجبات الشقيقة الكبرى لتحرير شقيقة صغرى من عدوان شقيقة أخرى.

كانت المشاركة العسكرية المصرية أيضاً تحت قيادة الحليف الأكبر لمصر وهي الولايات المتحدة، وكان الهدف العسكري واضحاً وهو تحرير الكويت فقط وعدم التورط في أي عمليات عسكرية داخل حدود العراق. أما هذه المرة فالسعودية هي التي ستقود الحلف العسكري، وهو أمر سيصعب من عملية تسويقه داخليًا.

ولا تبدو القيادة العسكرية الباكستانية بعيدة عن مأزق تسويق المشاركة في التحالف داخليًا دون الحصول على "ثمن مناسب". فبرلمانها كان قد رفض المشاركة في الحملة العسكرية السعودية في اليمن، وهو ما تسبب في أزمة بين الرياض وإسلام آباد.

رابعًا: يبدو مستبعدًا أن تشارك مصر في أي عمل عسكري في "التحالف الإسلامي" دون أن تحصل على دعم هذا التحالف في القيام بعمليات عسكرية برية في ليبيا ضد تنظيم الدولة الإسلامية والتنظيمات المتطرفة المتحالفة معه. لكن هذا التحالف غير المتجانس يضم دولًا غير متفقة حول رؤيتها تجاه الأزمة الليبية. فتركيا وقطر يدعمان فصائل لا ترحب بها القاهرة. فكيف يمكن تجنب الاختلاف حول أي تحركٍ عسكري للتحالف في دولة لا يتفق حولها المشاركون في التحالف نفسه.

ومن اللافت أنه تم الإعلان عن أن التحالف مستعد لمكافحة الإرهاب في دول مثل العراق وسورية وليبيا واليمن ومصر. فهل تقبل مصر رسميًا أن تشترك قوات أجنبية في محاربة الإرهاب على أرضها؟

خامسًا: إيجاد غطاء أممي أو دولي للمشاركة العسكرية في أي دولة لمكافحة الإرهاب سوف يكون أحد التحديات الكبيرة التي ستواجه التحالف، خصوصًا عند شن عمليات عسكرية برية في دول مثل ليبيا. لكن من المرجح أنه إذا تم التحرك عسكريًا من قبل التحالف فإن ذلك لن يتم دون موافقة الولايات المتحدة، وهو ما يعني أن التحالف في حال تفعيله سوف يكون ذراعًا بريًا للقوى الكبرى الغربية في المنطقة.

تدرك الرياض أن الدول المحيطة بها تنهار وتترك فراغًا لا تستطيع أن تتمدد فيه سوى إيران وإسرائيل وتركيا. وإذا كانت الرياض لا تخشى تركيا وإسرائيل في الوقت الراهن، فإنها تعتبر طهران الخطر الأكبر الذي يتهددها، وأنه لم يعد بإمكانها التعويل على الولايات المتحدة في حماية المملكة من التمدد الإيراني بعد قرار واشنطن بالانسحاب من المنطقة والتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران.

ولا تعكس سرعة الإعلان عن التحالف "الإسلامي السني" والطريقة التي تم بها الإعلان سوى القلق المتزايد لدى الرياض حيال التمدد الإيراني من جهة وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى. لكن على الأرجح سيكون مصير هذا التحالف الإسلامي مماثلًا لمصير "القوة العربية المشتركة" التي اقترحتها مصر. محاولات يائسة لمواجهة الطوفان.

الحرب العالمية الثالثة.. هل تبدأ أم بدأت بالفعل؟


تم نشره يوم الاثنين 7 ديسمبر 2015 في موقع المنصة

بعد دقائق من بث خبر إسقاط مقاتلات حربية تركية لقاذفة حربية روسية على الحدود بين تركيا وسوريا، بدأ سيلٌ من تعليقات منصات الاتصال الاجتماعي ينظر للخبر باعتباره لحظة إشعال فتيل الحرب العالمية الثالثة.

التغريدات العربية على تويتر، والتي كتب بعضها أسماء معروفة تعمل بالإعلام والسياسة، قارنت لحظة إسقاط القاذفة الروسية بواقعة اغتيال ولي عهد النمسا في ٢٨ يونيو/حزيران عام ١٩١٤ والتي أشعلت الحرب العالمية الأولى على مدار ٤ سنوات كاملة، ومنهم من قارنها بغزو ألمانيا النازية لبولندا في مطلع سبتمبر/أيلول عام ١٩٣٩ والتي أشعلت حربًا استمرت لست سنوات ويوم واحد!

فهل حقًا ستندلع الحرب العالمية الثالثة خلال الأسابيع المقبلة؟!

هناك ٣ إجابات يمكن الحصول عليها، كل إجابة تعتمد على إيجاد تعريف لما يمكن أن يطلق عليه اسم "الحرب العالمية".

الإجابة الأولى تفترض أن حرباً عالمية ستندلع، ومن الأدق أن نسميها: "الحرب العالمية الرابعة"، إذا ما اعتبرنا أن الحرب الباردة كانت الحرب العالمية الثالثة. وتفترض تلك الإجابة أن مفهوم "الحرب العالمية" لا يقتصر على الحرب التي يتم خوضها بالأسلحة التقليدية ولكن يشمل تلك الحروب التي تشترك فيها قوى إقليمية عديدة وتكون عابرةً للقارات.

فإذا كانت جبهات الحرب العالمية امتدت من المحيط الهادي وحتى المحيط الأطلنطي مرورًا بالبحر الأبيض المتوسط، فإن الحرب الباردة كانت أيضاً عابرةً للقارات والمحيطات، بل وفي مرحلةٍ منها وهي حقبة الثمانينات امتدت لتشمل الفضاء الخارجي وحينها أطلقت عليها إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان اسم "حروب النجوم".

كانت الحرب الباردة حربًا عالمية بكل ما تعنيه تلك الكلمة جغرافيًا. لم يحدث أن تواجهت القوتين الأكبر حينها بالأسلحة التقليدية، ولكنهما تواجهتا من خلال تكديس الأسلحة النووية ونشرها في دول العالم المختلفة، ومن خلال الحروب بالوكالة وأشهرها حربي فيتنام وأفغانستان.

وما يجري في العالم اليوم من حروبٍ إقليمية كبرى مثل الحرب في سوريا أو العراق أو اليمن، وما جرى في أوكرانيا، هو إعادة إحياء لفكرة الحرب الباردة ومحاورها المتورطة في صراعات مباشرة أو عبر الوكالة.

وإذا أخذنا الشرق الأوسط كمثال للجبهة الأكثر اشتعالًا الآن على الساحة الدولية فإننا يمكن أن نرى بدايات لما يمكن أن نطلق عليه اسم "الحرب العالمية الرابعة"، حيث أكثر من دولة مشتركة فيها إما بجهدٍ عسكري في سوريا مثل روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيران والإمارات والأردن، أو بشكلٍ غير مباشر عبر تسليح ودعم فصائل المعارضة السورية مثل السعودية وتركيا وقطر. وتمتد قائمة الدول المشتركة في عمليات عسكرية في العراق لتشمل بلجيكا وهولندا وكندا وأستراليا وأسبانيا والنرويج والدنمرك.

الإجابة الثانية تفترض أن مفهوم الحرب العالمية يعني تلك الحروب الكبرى التي تعيد رسم حدود دول، وينتج عنها اختفاء بعضها وقيام دولٍ أخرى مكانها.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى رسمت بريطانيا وفرنسا خريطة الشرق الأوسط وقسمت سوريا الكبرى الى الدول التي عرفت لاحقاً كسوريا، العراق، فلسطين، الأردن، لبنان. وهي دول لم تكن منسجمة إثنياً مثل العراق، أو دينياً وطائفياً مثل سوريا ولبنان، ولم تكن دولاً لها امتدادات طبيعية مثل الأردن. لذا كان البديل هو إيجاد فكرة "الدولة الوطنية/القومية" في تلك الدول، والتي بدأت في الانهيار الكامل في أعقاب حرب العراق عام ٢٠٠٣ واستمرت في الانهيار في سوريا وليبيا.

وإذا كانت الحرب العالمية تعني إعادة رسم الخرائط، فإن حرباً عالمية "صغرى" تدور حالياً في منطقة الشرق الأوسط وتعيد رسم خرائط دوله كما لم يحدث منذ مائة عام. وهي حربٌ عالمية لأن آثارها ممتدة خارج حدودها، مثل ظواهر الهجمات الإرهابية في أوروبا أو موجات النزوح من دول المشرق العربي باتجاه الشواطئ الأوروبية أو الهجمات الإرهابية في تونس وليبيا ومصر واليمن والتي يعلن عن مسؤوليتها أفرع محلية لتنظيم ما يعرف باسم "الدولة الإسلامية".

أما الإجابة الثالثة فتفترض أن مفهوم الحرب العالمية سيكون شبيهاً بالحربين العالميتين الأولى والثانية من حيث الاستخدام الكثيف للأسلحة التقليدية والأعداد الهائلة من الجنود والمعدات.

ووفق ذلك المفهوم فإن حرباً عالمية ثالثة تبدو مستبعدة بسبب ما جرى صباح يوم ٦ أغسطس/آب عام ١٩٤٥ عندما تم إلقاء "الصبي الصغير" على مدينة هيروشيما اليابانية، وما جرى بعد هذا الصباح بثلاثة أيام عندما تم إلقاء "الرجل البدين" على مدينة ناجازاكي. حينها أدرك العالم أن عصراً جديداً من الرعب قد بدأ.

استطاعات الولايات المتحدة في لحظة أن تبيد أثر ١٤٠ ألفاً من البشر في هيروشيما، وأن تبيد أثر ٨٠ ألفاً غيرهم في ناجازاكي. لم تعد الدولة النووية الأولى في التاريخ تحتاج لآلاف الغارات الجوية لقتل مثل هذا العدد من سكان مدينتين.

ما جرى في صباح ٦ و٩ أغسطس عام ١٩٤٥ هو الذي أسس لفكرة "الردع النووي"، والتي كانت السبب الرئيسي في منع نشوب حرب إبادة بين الاتحاد السوفيتي وبين الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب الباردة. وهي أيضاً الفكرة التي نجحت حتى كتابة هذه السطور في منع نشوب حرب إبادة نووية بين الهند وباكستان.

ليس سراً أن باكستان طلبت من الولايات المتحدة أن تنقل معلومةً للهند حول برنامج صواريخها النووي. هذه المعلومة تفيد بأن إسلام آباد لا تملك رفاهية الرد على أي هجوم نووي هندي. لذا فإن من يمتلك قرار إطلاق الصواريخ الباكستانية لن ينتظر هجومًا نوويًا هنديًا، بل سيضغط الزر ويخلد للنوم إذا أحس بالخطر!

إذن فانتشار الردع النووي لدى عدد من القوى الإقليمية حول العالم هو الذي قد يمنع نشوب حرب عالمية ثالثة بالمفهوم التقليدي الذي عرفه العالم خلال النصف الأول من القرن العشرين. وهو الذي يمكن أيضاً أن يطلق سباقًا للتسلح النووي في مناطق أخرى!

أيًا كانت الإجابة التي يمكن أن تجد فيها تفسيرًا لما يحدث في عالم اليوم من صراعات إقليمية ودولية، فإنه بات من حكم المؤكد أن عالماً جديداً يتشكل الآن وأننا في لحظةٍ شبيهة بتلك التي شهدها العالم أثناء انهيار نظامه في الحربين العالميتين السابقتين.