بعد ٣٢ عاماً من قيادته لحزب الله، جاء اغتيال حسن نصر الله ورحيله عن المشهد السياسي اللبناني والإقليمي كي يكون الزلزال السياسي الأضخم منذ زلزال السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وهو ما سوف يترك آثاراً عميقة على مستقبل الشرق الأوسط الذي يمر حالياًً بفترة هي الأكثر عنفاً ودموية منذ عقود بعيدة وبشكل لا يمكن حتى مقارنته بمستويات الدموية اللي رافقت الاجتياح الاسرائيلي للبنان في ١٩٨٢ وما تبعه من مجازر مثل صبرا وشاتيلا أو مقارنته بمستويات العنف التي تضمنتها الحرب العراقية الإيرانية.
قد تكون إسرائيل انطلقت من نقطة "الرد على هجوم ٧ أكتوبر" من خلال تبني فكرة القضاء على حماس وحزب الله. وهي الأهداف اللي بدت بعيدة المنال خلال الأشهر اللي تلت الحرب في غزة أو خلال حرب "السقف المتعارف عليه" مع حزب الله في لبنان. ولكن بمجرد ما بدا تحقيقاً لأهداف إسرائيل العسكرية في غزة، اتخذت قرارها بنقل الحشد العسكري باتجاه لبنان والانخراط في تحقيق الهدف الذي فشلت فيه إسرائيل في ٢٠٠٦ وهو القضاء على حزب الله.
وبالتالي انتقلت إسرائيل من نقطة "الرد على الهجوم" قبل عام من الآن، كي تصل إلى نقطة "إعادة رسم المنطقة كلها بما يضمن أمن ومصالح إسرائيل لعشرات السنين".. حدث هذا بعد تنفيذ حملة قصف على غزة يمكن مقارنتها بحملة القصف الأمريكية على طوكيو خلال الحرب العالمية الثانية والتي تركت دماراً أكبر بكثير من أي دمار ناتج عن قصف طوكيو بالقنبلة الذرية، كما فعلت واشنطن مع هيروشيما وناجازاكي.
وخلال حرب غزة كانت إسرائيل منخرطة في اشتباك متواصل مع حزب الله وبوتيرة تشمل التصعيد النوعي مثل اغتيال القيادي في حماس في الضاحية الجنوبية صالح العاروري ثم اغتيال القيادي الميداني في الحزب فؤاد شكر وغيرهم من قيادات ميدانية في بيروت وجنوب لبنان. وخلال كل ذلك كانت الرسالة الإسرائيلية الأهم لطهران هي اغتيال إسماعيل هنية في بيت آمن تابع للحرس الثوري في طهران!
المسار الجديد في الصراع بين إسرائيل وحزب الله بدأ منذ لحظة تفجير أجهزة البيجر وأجهزة الاتصالات. كانت هذه لحظة فارقة لأن حسن نصر الله تعامل معها باعتبارها هزيمة مفاجئة في الجولة الحالية من الصراع بين الحزب وإسرائيل والتي بدأت في ٨ أكتوبر ٢٠٢٣. ثم توالت الأحداث عاصفة لتنتهي باغتيال حسن نصر الله نفسه في ذروة الحرب المفتوحة بين الطرفين.
وخلال كل ذلك تعاملت سوريا مع ما يحدث باعتبارها دولة إسكندنافية تربطها حدود مع السويد. بينما اكتفت إيران ببيانات الحزن العميق والوعيد البعيد، إدراكاً من طهران بأنها مخترقة بشكل مؤلم من قبل إسرائيل وأن أي خطوة جادة لدعم حليفها الإقليمي الأهم سوف يعني رداً إسرائيلياً لن تكون قادرة على دفع تكاليفه في الوقت الحالي.
الولايات المتحدة رأت في كل ما يحدث فرصة عظيمة للوصول مع إيران إلى اتفاق كانت ترفضه الأخيرة في السابق. في اتفاق ٢٠١٥ كانت الصفقة الأمريكية الإيرانية تتعلق بالبرنامج النووي. أتى ترامب وألغى الصفقة ثم أتى بايدن وبدأ الحديث مجدداً عن صفقة جديدة تشمل البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي والنفوذ الإيراني في المنطقة من خلال حلفائها ورجالها في اليمن ولبنان والعراق وسوريا. خرجت سوريا من معادلة التحالف مع إيران بعد تفاهمات مع روسيا كي تنأى بنفسها عن الصراع الحالي، وبعد انخراطها في محاولات إعادة تأهيل نظامها ضمن المنظومة العربية الرسمية، وبالتزامن مع فتح قنوات اتصال مع الاتحاد الأوروبي. وبقي حزب الله هو الحليف الإقليمي الأهم لإيران على الإطلاق.
تدرك إيران الآن أنّ أوراقها الإقليمية تمر باللحظة الأضعف على الإطلاق. وأنه من الأفضل الخروج بصفقة تضمن أمن النظام ومصالحه في محيطه الحيوي الضيق وليس لدى حلفائه في بيروت وصنعاء. فيما يواجه حزب الله خيارات مصيرية وتحديات هائلة بعد اغتيال عدد كبير من قادته الميدانيين والسياسيين وأهمهم على الإطلاق رمزه التاريخي حسن نصر الله. أما لبنان فيبدو قريباً من تفاعلات قد تؤدي إلى انفجار الحرب الأهلية مرةً أخرى بعد ٣٤ عاماً من توقفها!
وأمام هذه الصورة القاتمة والدموية، يعيش العالم العربي حالة من الرعب والخوف والإحساس بالانكشاف الشديد أمام إسرائيل أو الولايات المتحدة، حيث الكل يرفع شعار: الهدف هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لو بدا قليلاً وضئيلاً كي لا تنفجر فينا شاشات التلفزيون وغسالات الأطباق! لا توجد لحظة أكثر بؤساً وعجزاً ورعباً في تاريخ العالم العربي من اللحظة الراهنة!
هذه لحظة تفوقت في كابوسيتها على لحظة غزو العراق للكويت أو اجتياح إسرائيل للبنان أو حتى هزيمة ١٩٦٧.. العالم العربي الآن تجاوز القاع واقترب من مركز الأرض حيث الخوف من الاحتراق أصبح أحد الاحتمالات المتوقعة!
وهي أيضاً لحظة تأسيسية لمنطقة جديدة على نحو يمكن مقارنته بما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن هذه المرة بدون أوهام الثورة العربية الكبرى وأحلام الشريف حسين وأبناؤه في بناء دولة عربية كبيرة مستقلة.. هذه المرة هي لحظة تأسيسية لمنطقة تعمل جاهدة للحفاظ على أمن المنتجعات وموانئ اليخوت وكمبوندات السكن الفاخر المحاطة بملاعب الجولف وأشجار الأكاسيا!
No comments:
Post a Comment