يحكى أن أم كلثوم استشاطت غضبًا عندما سمعت قصيدة كلب الست لأحمد فؤاد نجم. فالقصيدة التي اعتبرتها الست تجريحًا وتهجمًا عليها شخصيًا بصورة لا تليق، حوت أيضًا وصفًا دقيقًا وحقيقيًا لمكانة أم كلثوم، "في الزمالك من سنين، وفي حمى النيل القديم، قصر من عصر اليمين، ملك واحدة من الحريم، صيتها أكتر مـِ الآدان، يسمعوه المسلمين والتتر والتركمان، والهنود والمنبوذين، ست فاقت عَ الرجال في المقام والاحترام، صيت وشهرة وتل مال، يعني في غاية التمام، قصره هي كلمة، ليها كلمة في الحكومة...".
عندما كتب نجم كلمات قصيدته عن أم كلثوم، كانت الست مركزًا من مراكز التأثير في الدولة إلى الدرجة التي جعلت وكيلًا للنيابة يفرج عن كلبها الذي عض شابًا ساقته الأقدار أن يمشي أمام منزلها في الزمالك. ووفق نجم فإن وكيل النيابة كتب في حيثيات الإفراج عن الكلب وعدم توجيه أي اتهام جنائي لصاحبته، بأن إسهامات الست أكبر من أن يتم عقاب كلبها!
منذ بدأت أم كلثوم في الانتشار في منتصف عشرينيات القرن العشرين، كانت دون أن تدري تدشن عصرًا جديدًا من الغناء في مصر والعالم العربي. بعد حسم المنافسة لصالحها أمام منيرة المهدية وفتحية أحمد، انتقلت أم كلثوم من مجرد "مغنية" في مجتمع يقوده الذكور وتسوده رؤية سلبية للمرأة التي تعمل في مجال الفن، إلى جزء من المؤسسة* التي تقود المجتمع.
لم تكن المكانة التي حققتها أم كلثوم داخل محيطها الوطني أو الإقليمي مكانةً عاديةً في تلك الحقبة أو حتى بعدها، وصولًا إلى الآن. في عام 1934 غنت في حفل افتتاح الإذاعة المصرية وهو ما جعلها صوت عصرٍ سيتحكم في مزاجه العام الراديو. بعدها بعشر سنوات ستصبح "صاحبة العصمة" عندما منحها الملك فاروق وسام الكمال، المخصص لتكريم الأمراء والنبلاء وصفوة النخبة السياسية، لتكون الوحيدة التي تحصل عليه من المنتمين إلى عالم الفن، وذلك في حفل النادي الأهلي الذي أحيته في سبتمبر/ أيلول 1944 وذكرت فاروق وهي تغني يا ليلة العيد، إذ بدّلت كلام الأغنية من "تعيش يا نيل وتتهنى ونحيي لك ليالي العيد" إلى "يعيش فاروق ويتهنى ونحيي له ليالي العيد".
لكن ذلك لم يجعلها مغنية القصر. حتى في تلك المرحلة كان لدى أم كلثوم إدراك ووعي شديد الدقة بأهمية الموازنة بين الحفاظ على علاقتها بالجماهير، دون أن تكون محسوبة على السلطة، ودون أيضًا أن تناصب هذه السلطة العداء أو تتحول إلى صوت متمرد.
كانت أم كلثوم، ببساطة، هي السلطة ذاتها! حتى عندما غنت قصيدة وُلِد الهدى وفيها بيتٌ يقول "الاشتراكيون أنت إمامهم.. لولا دعاوي القوم والغلواء"، وهي لم تعرف يومًا بأنها صاحبة توجهٍ يساري، أصرت على كلمات البيت رغم طلب تغييره من القصر، في مؤشر على استقلالية قرارها الفني.
خلال حرب 1948 طلب أفراد من اللواء المصري المحاصر في قرية الفالوجة بفلسطين سماع أغنية غلبت أصالح في روحي في حفلها الذي تم نقله عبر موجات الراديو في 3 فبراير/ شباط 1949 من مسرح حديقة الأزبكية. كان حصار اللواء المصري البالغ قوامه أربعة آلاف جندي وضابط، والذي استمر لنحو أربعة أشهر، حدثًا عظيمًا في تلك الأيام.
عندما عادوا إلى القاهرة استقبلهم الملك وكرّمهم وصافحهم ضابطًا ضابطًا، وكان من بينهم جمال عبد الناصر! ثم أقامت أم كلثوم حفلًا لتكريمهم في منزلها وحضره أيضًا الرجل الذي سينهي بعد ثلاث سنوات قرنًا ونصف من الملكية. هنا أم كلثوم بوصفها جزءاً من "المؤسسة" تساهم في تكريم أبنائها العائدين للتو من جبهة القتال.
عندما استولت "الحركة المباركة" على مقاليد السلطة في يوليو 1952، أمر الضابط المسؤول عن الإذاعة المصرية بمنع إذاعة أغاني أم كلثوم باعتبارها رمزاً من رموز "العهد البائد".
ومن الطريف أن سيد قطب الذي كان مقرباً في تلك الفترة من بعض ضباط "الحركة المباركة" طالب في مجلة الرسالة "بإخراس تلك الأصوات" التي غنت للملك! في تلك الفترة كان الصحفي مصطفى أمين يرتبط بعلاقة وثيقة بأم كلثوم وبصداقة حميمة مع البكباشي جمال عبد الناصر، أقوى أعضاء مجلس قيادة الثورة والذي لم يكن معروفًا للجماهير في ذلك الوقت.
نقل مصطفى أمين الخبر لعبد الناصر الذي كان "سمّيعًا" قديمًا للست، وممتنًا لوقفتها مع لوائه المحاصر في الفالوجة. ألغى عبد الناصر القرار فورًا وعادت أم كلثوم لدار الإذاعة، لتبدأ علاقة تحالف وثيقة نادرة بين الرجل الأول في الجمهورية، وأهم سيدة بها، امتدت لثمان عشرة سنة. علاقة لم تتكرر في تاريخ الدولة المصرية الحديث منذ تأسيسها في أوائل القرن التاسع عشر.
من مفارقات التاريخ أن الصداقة بين عبد الناصر ومصطفى أمين انتهت عندما اعتقل الأخير بتهمة تجسس لصالح الاستخبارات الأمريكية. وعندما علمت أم كلثوم بخبر اعتقاله تحدثت مع عبد الناصر ودافعت عن أمين، وفي ذروة انفعالها أخبرته أنهما كانا متزوجين لأكثر من عشر سنوات، ودفعت لعبد الناصر بعقد الزواج، فألقى عليه نظرةً وطواه في جيبه.
بعدها أرسلت لأمين في السجن من يخبره أنها قد أهدته أبياتًا في حفلها الذي أقيم في نادي الضباط، وغنت فيه قصيدة الأطلال على مسامع عبد الناصر نفسه؛ "أعطني حريتي أطلق يديَّ.. إنني أعطيت ما استبقيت شيئًا.. آه من قيدك أدمى معصمي.. لِمَ أبقيه وما أبقى عليَّ"! وليس من المستبعد أن يكون عبد الناصر قد فهم رسالة الست، لم يستجب لها بالطبع ولكنه أيضًا لم يصطدم معها. كان يدرك حجم تأثيرها في العالم العربي الذي يخصص الخميس الأول من كل شهر فقط لأغانيها.
خلال تلك الصداقة الحميمة بين عبد الناصر وأم كلثوم، لم تكن الأخيرة صوتًا للسلطة أو الثورة، كما كان عبد الحليم حافظ. كانت جزءًا من "المؤسسة"، وصوتًا أكبر من أن يُصنّف كصوتٍ مصري. كان "صيتها أكتر مـ الآدان، يسمعوه المسلمين والتتر والتركمان، والهنود والمنبوذين، ست فاقت عـ الرجال في المقام والاحترام". لذا لم يكن غريبًا أن تنجو من تحولات ما حدث في 1952 أو من هزيمة النظام الموجعة في 1967.
لكن قدرة أم كلثوم على تجاوز العصور توقفت مع رحيل عبد الناصر في 1970 وتولي أنور السادات مقاليد السلطة منفردًا في 1971. رغم تأكيد جيهان السادات على العلاقة الطيبة بينها وبين أم كلثوم، فإن ما يروى يعكس حقيقة غير ذلك، وتحديدًا عندما سلمت الست على الرئيس الجديد في حفلٍ وقالت له "إزيك يا أبو الأناور"، في دليلٍ على معرفة قديمة تعود إلى الأيام الأولى للثورة. ضحك السادات وتلقى الجملة بترحاب، لكن جيهان قالت بغضب "اسمه الريس!". حينها فهمت أم كلثوم الرسالة؛ هذه العلاقة مع الرئيس الجديد لن تكون كحال سابقتها مع سلفه. اختارت الست الابتعاد، ورافق ذلك متاعب صحية وصعود لأصوات جديدة وتوهج حاد لعبد الحليم في سنوات عمره الأخيرة!
في 1975 ماتت أم كلثوم، لكن مكانتها لدى العالم العربي انتقلت إلى مرحلة أخرى!
منذ رحيلها دخلت أم كلثوم الخريطة الجينية لعقول أجيال من العرب. عند عمرٍ معين يتم تفعيل "خاصية أم كلثوم" لتصبح صوتًا لذكريات وقصص حب قديمة! تُستدعى أغانيها في الأعمال الفنية، ويُعاد إنتاجها بأشكالٍ مختلفة، بل وتصبح أغانيها اختبارًا أساسيًا للأصوات الجديدة.
وبعد أكثر من أربعة عقود على رحيلها لا يتم التعامل مع الست باعتبارها امرأةً مؤثرة يمكن تناول سيرتها الشخصية بشكلٍ محايد أو حتى الحديث عن حياتها العائلية وقصصها العاطفية كما حدث مثلا مع عبد الحليم حافظ أو فريد الأطرش. تجاوزت أم كلثوم كل ذلك لتصبح كائناً هضم الفرق بين الرجل والمرأة، كما هضم من قبل الملحنين الكبار وكتاب أغانيها. فالأغاني تنسب لها، وحتى زمنها ينسب لها ليصبح "عصر أم كلثوم"!
—————————————————————
* المؤسسة: هي نخبة أو مجموعة مهيمنة تملك السلطة أو مصادر القوة والسيطرة داخل الأمة. وهي أيضاً مجموعة اجتماعية مغلقة تختار أعضائها بنفسها، سواء داخل الحكومة أو في القطاعات التي تهيمن على الأنشطة الأخرى في المجتمع.
No comments:
Post a Comment