Thursday, 31 October 2024

أميركا: انتخابات ساخنة، وأزمة عميقة

 


عودة رئيس سابق للمشهد السياسي.. محاكمات قضائية.. إدانات في قضايا جنائية.. أسئلة حول قدرات الرئيس الذهنية الذي هو أيضاً مرشح رئاسي.. محاولة اغتيال.. وتنحي متأخر للرئيس من السباق كي تحل مكانه نائبته التي قد تصبح أول سيدة تشغل منصب رئاسة الولايات المتحدة.

لا توجد انتخابات رئاسية في التاريخ الأمريكي حفلت بكل هذه الأحداث الدراماتيكية والمفاجآت السياسية والقضائية التي تشكل كل مفاجأة منها حدثاً قد يغير نتيجة الانتخابات الأكثر سخونة منذ عقود.

رغم أن حكومات العالم تنتظر نتيجة الانتخابات كي تستعد للسياسات المحتمل أن ينتهجها الرئيس القادم في يناير، إلا أن نتيجة هذه الانتخابات سوف تكون الأكثر تبايناً في الرؤى بين مرشح الحزب الديمقراطي ومرشح الحزب الجمهوري على نحو لم يحدث مع أي انتخابات أمريكية على مدار عشرات السنوات.

لكن أهمية هذا المشهد الانتخابي أنه يلخص أزمة الحزبين السياسيين المهيمنين على الرئاسة خلال عمر الجمهورية الأمريكية.

ترامب وأزمة الجمهوريين

يمر الحزب الجمهوري بأزمة مع ترشيح دونالد ترامب لمنصب الرئاسة في انتخابات 2016، وبالتالي الإطاحة بالأسماء التي كانت تحصل تقليدياً على ترشيح الحزب في الانتخابات الرئاسية، مثل جيب بوش، الحاكم السابق لفلوريدا وابن الرئيس السابق جورج بوش، وشقيق الرئيس السابق جورج دبليو بوش، لصالح رجل أعمال وترفيه من خارج المؤسسة الحاكمة

وبعد أن فاز ترامب بالرئاسة توالت تصرفاته التي خرج بعضها عن الأعراف والتقاليد الرئاسية الأمريكية. كانت قراراته وسياساته اختباراً قاسياً لقدرة مؤسسات الحكم الأمريكية على التوفيق بين ما بدا للبعض تعارضا بين رؤى ترامب الجامحة وبين تحقيق مصالح الولايات المتحدة في العالم. كما كانت تصرفاته تحدياً لفريق من نواب الحزب الجمهوري في الكونغرس والذين حاولوا أن لا يثيروا غضبه حتى لا يخسروا مقاعدهم في انتخابات التجديد النصفي، بعد أن أدركوا أن قاعدة الحزب الانتخابية قد اختطفها ترامب.

وبعد أن خسر ترامب انتخابات الرئاسة أمام جو بايدن في 2020، رفض تسليم السلطة أو الاعتراف بنتيجة الانتخابات، في سابقة لم تحدث من قبل في تاريخ البلاد. وتصاعدت الأزمة إلى حد دعوته إلى إلغاء نتائج الانتخابات، عندما حث أنصاره على إقامة مسيرة نحو مبنى الكابيتول (مقر الكونجرس) "للقتال بكل ضراوة" من أجل ما أسماها باستعادة البلاد! وهو ما أدى إلى اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير 2021 حيث قتل خمسة أشخاص وأصيب أكثر من 140 رجل أمن، وذلك في أكثر لحظات العنف السياسي خطورة منذ الحرب الأهلية الأمريكية.

هذه المرة لم يجد الحزب الجمهوري أي بديل لترامب كي يكون مرشحه في الانتخابات الرئاسية رغم أنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي حاول مجلس النواب أن يعزله مرتين.



ترامب الذي كان عضواً لثماني سنوات في الحزب الديمقراطي (2001-2009)، أصبح الآن الملك المتوج على عرش الحزب الجمهوري دون أن ينازعه أحد في الحزب الذي يطلق عليه اسم Grand Old Party أي الحزب العملاق العريق! فاز بالرئاسة أمام هيلاري كلينتون عام 2016 عكس جميع التوقعات. نجا من محاولتين لعزله من قبل مجلس النواب. تمت إدانته جنائياً في أبريل 2024، عندما قررت هيئة محلفين في نيويورك إدانة ترامب في 34 تهمة جنائية تتعلق بتزوير سجلات تجارية من أجل دفع مبالغ مالية بشكل سري لممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيلز مقابل صمتها وعدم التحدث عن علاقة جنسية بينهما. أصبح ترامب أول رئيس أميركي سابق يتم إدانته بتهم جنائية!

وفي مؤتمر الحزب الجمهوري تم اختيار ترامب كي يخوض الانتخابات القادمة دون أن يقترب من منافسته أي مرشح آخر من داخل الحزب. فقد حصل على أصوات 2268 مندوباً فيما حلت نيكي هيلي في المرتبة الثانية بـ97 صوتاً فقط! تبنى الحزب أجندته والتي ضمت بنوداً مثيرة للجدل مثل إلغاء وزارة التعليم! أو تعديلات من قبل فريق ترامب بشأن مسألة الحق في الإجهاض وترك ذلك لكل ولاية كي تشرع القوانين الخاصة بذلك. وبالطبع لم تخلُ أجندة الحزب التي صاغها فريق ترامب من دعم فرض رسوم جمركية باهظة على الواردات، أو الدعوة لترحيل ملايين المهاجرين غير الشرعيين.

الحزب العملاق العريق الذي أنتج رؤساء للجمهورية الأمريكية بأهمية أبراهام لينكولن وثيودور روزفلت ودوايت أيزنهاور، انتهى إلى كونه مجرد وسيلة يستخدمها ترامب من أجل أن يصل للحكم في المرة الأولى، وأن يحاول ذلك ثانية بعد إدانته في جرائم جنائية، ودوره في عرقلة عملية تسليم السلطة، بل والتحريض على اقتحام مقر الضلع الأهم للجمهورية، وهو الكونجرس!

أصبح الحزب الجمهوري ملكاً لترامب بعد أن اختصره في شخصه ومصلحته السياسية! لكن هذه المرة ترامب الذي يخوض الانتخابات القادمة ليس ترامب الذي خاض انتخابات 2016 أمام هيلاري كلينتون، والذي استطاع حينذاك أن يجذب قطاعات كبيرة من الناخبين الجمهوريين الذين آمنوا بأن هذا الرجل الذي لم يكن ابناً للمؤسسة الحاكمة الأمريكية قادر على "تطهير واشنطن من فسادها" وفق شعاره حينها.

كما أن ترامب في نسخة 2024 ليس ترامب الذي خاض انتخابات 2020 أمام بايدن، وبدا للجمهوريين أن بإمكانه الفوز على نائب الرئيس السابق البالغ من العمر حينها 78 سنة. ترامب بدا للبعض وقد فقد الكثير من كاريزمته التي تمتع بها في انتخابات 2016 كما أنه فقد الكثير من شرعيته السياسية بعد دوره في اقتحام مبنى الكابيتول، فضلاً عن أنه يبلغ من العمر 78 عاماً، وإذا فاز في الانتخابات فسوف يصبح الرئيس الأكبر سناً في تاريخ الرؤساء الأمريكيين، لينتزع اللقب الذي ناله جو بايدن عندما دخل البيت الأبيض في يناير 2021.

ومن اللافت أن أزمة الحزب دفعت أحد عتاة الجمهوريين وهو نائب الرئيس السابق ديك تشيني للإعلان عن عزمه التصويت لهاريس. وما كتبه تشيني في بيانه الذي نشرته وسائل الإعلام الأمريكية يلخص عمق أزمة الحزب الجمهوري، إذ يصل إلى حد القول بأنه "في تاريخ أمتنا الممتد لمئتين وثمانيةً وأربعين عامًا، لم يكن هناك فرد يشكل تهديدًا أكبر لجمهوريتنا من دونالد ترامب .. لقد حاول سرقة الانتخابات الأخيرة باستخدام الأكاذيب والعنف لإبقاء نفسه في السلطة بعد أن رفضه الناخبون .. (إن ترامب) لا يمكن الوثوق به في السلطة مرة أخرى .. كمواطنين، يقع على عاتق كل منا واجب وضع البلاد فوق الانتماء الحزبي للدفاع عن دستورنا. ولهذا السبب سأدلي بصوتي لنائبة الرئيس كامالا هاريس".

وفق كالفن دارك، والذي يعمل كمحلل لسياسات الأحزاب الأمريكية، فإن "ترامب يركز على حشد الناخبين الأساسيين بدلاً من الفوز بالناخبين المعتدلين أو المستقلين. كما تسعى حملة ترامب إلى الوصول إلى الناخبين الذين لم يدعموا الجمهوريين في الماضي، مثل الشباب الأميركيين من أصل أفريقي واللاتينيين. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر لأن هؤلاء الناخبين هم الأقل احتمالا للتصويت في الانتخابات".

أزمة الديمقراطيين

أما الحزب الديمقراطي فتمثلت أزمته في التخبط الذي أصابه بعد هزيمة هيلاري كلينتون في انتخابات 2016 أمام ترامب، ثم اختيار نائب الرئيس السابق جو بايدن في انتخابات 2020 كي يكون قادراً على إيقاف مسيرة ترامب نحو ولاية رئاسية ثانية. حينها قال بايدن الذي كان يبلغ السابعة والسبعين من العمر في تجمع انتخابي حاشد في ديترويت في مارس 2020 إنه يعتبر نفسه "جسرًا" لمن أسماهم بـ"جيل كامل من القادة" و"مستقبل هذه البلاد".

لكنه قرر أن يخوض الانتخابات القادمة مع نائبته كامالا هاريس أمام ترامب.

تزايدت الضغوط على بايدن من أجل الانسحاب من السباق الانتخابي. وأتت الضغوط من داخل قيادات الحزب الديمقراطي الذين شعروا أن بايدن أصبح عبئاً انتخابياً بسبب تقدمه في العمر وافتقاده الحيوية الذهنية التي تمتع بها خلال مناظراته التلفزيونية أمام ترامب عام 2020. تمسك بايدن بالبقاء في السباق رغم نصائح نواب الحزب في الكونغرس، خصوصاً بعد مناظرته التلفزيونية الأولى أمام ترامب في السابع والعشرين من يونيو الماضي.

حينها بدا بيدن مرهقاً أمام ترامب الذي حاول أن يستغل نقطة ضعف خصمه وهي السن، رغم أن الفارق بينهما في العمر لا يتجاوز أربع سنوات. وسائل الإعلام الأمريكية قالت إن المناظرة بين الرجلين "اتسمت بإجابات مرتبكة من قبل الرئيس الحالي، وأكاذيب وتصريحات مغلوطة من قبل سلفه".

ثم أتت محاولة اغتيال ترامب كي تصنع منه بطلاً شعبياً في أنظار مؤيديه، وأن تجعله أقرب للفوز بالرئاسة في حال استمر بايدن منافساً له. نجاة ترامب أظهرت للديمقراطيين أن بايدن سوف يصبح عنواناً متوقعاً لخسارة الانتخابات.

انسحب بايدن من السباق الانتخابي وأفسح المجال لنائبته كامالا هاريس والتي استهلت حملتها الانتخابية بالهجوم على ترامب باستخدام طريقته في مهاجمة خصومه السياسيين. شبهت هاريس خصمها ترامب بالخارجين عن القانون الذين اعتادت مقابلتهم في قاعة المحكمة عندما كانت مدعية عامة: "واجهت مرتكبي الجرائم من جميع الأنواع: المعتدون الذين أساءوا معاملة النساء، والمحتالون الذين خدعوا المستهلكين، والمخادعون الذين خالفوا القوانين لتحقيق مكاسبهم الخاصة. لذا أنا أعرف أي نوع هو دونالد ترامب".



هاريس، والتي بدت في أعين الكثيرين غير قادرة على منافسة ترامب خلال أزمة تمسك بايدن بالسباق الانتخابي، أظهرت تقدما ضئيلا في استطلاعات الأخيرة.

لكن نتائج استطلاعات الرأي لا تعني أن الحزب الديمقراطي لا يمر بأزمة. فالتباين في المواقف بين أجنحة الحزب المختلفة تجاه قضايا مثل الحرب في غزة، يصل إلى حد الانقسام. فهناك جناح تقليدي مؤمن بالانحياز الأمريكي لإسرائيل ويمثله بايدن. وهناك جناح يعتقد أنه لا يمكن تجاهل الربط بين الحرب في غزة وبين الدعم الأمريكي لإسرائيل في ظل الإدارة الديمقراطية الحالية.

هاريس اختارت أن تسير على خطى بايدن في دعم إسرائيل. ففي مقابلتها مع CNN رفضت دعوات البعض داخل الحزب بأن على واشنطن أن تعيد النظر في إرسال الأسلحة إلى إسرائيل، وقالت إنها "تدعم إسرائيل القوية" ولكن يجب التوصل إلى صفقة وقف لإطلاق النار في غزة.

تصريحات هاريس قوبلت باستهجان من الأعضاء العرب داخل الحزب. رشيدة طليب، التي تُعد أول امرأة فلسطينية أمريكية تُنتخب لعضوية الكونغرس، علقت بالقول أن تصريحات هاريس تعني أن "جرائم الحرب والإبادة الجماعية سوف تستمر"، بينما قالت مندوبة الحزب الديمقراطي في جورجيا، "تانجينا إسلام"، إنها تريد دعم هاريس لكنها تشعر بالحزن الشديد لعدم اهتمامها بالفلسطينيين، وإنه "إذا خسرت هاريس في جورجيا، فإن السبب الوحيد سيكون أن الناس لم يخرجوا للتصويت، أو أن الناس صوتوا للحزب الثالث"، وذلك في إشارة إلى تحالف مناهض للحرب في غزة مكون من حركة "الصوت اليهودي من أجل السلام" وطلاب الجامعات والمسلمين السود والمسلمين من الأعراق الأخرى والعرب.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن موقف هاريس من الحرب في غزة قد "يضر بالحزب الديمقراطي في ولاية ميشيغان المتأرجحة حيث توجد مجتمعات عربية أمريكية ومسلمة كبيرة" وفق رؤية كالفن دارك والذي يعتقد أيضاً "إن قضية الإجهاض تعمل لصالح الديمقراطيين لأنها تحشد الناخبين، وخاصة النساء، اللواتي يعارضن موقف ترامب من حقوق الإنجاب للنساء".

بالإضافة إلى الانقسام الذي يمر به الحزب بسبب الموقف من دعم إسرائيل والحرب في غزة، فإن قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة تعتقد أن الحزب الديمقراطي تحت قيادة بايدن أو مرشحته للرئاسة هاريس لم يجعل مشاكلهم الاقتصادية ضمن أولوياته بنفس القدر مثل قضايا الحق في الإجهاض وحقوق المثليين والاحتباس الحراري. ولهذا لم يكن مفاجئاً أن يتم النظر لهاريس باعتبارها "ليبرالية من سان فرانسيسكو، وسياسية تقدمية تهتم بشدة بحقوق الإنجاب والتنوع العرقي".

ما بعد الانتخابات

يعتمد مستقبل الحزب الجمهوري على المدى الطويل على نتيجة الانتخابات القادمة. وفق كالفن دارك فإن الحزب الجمهوري أمام ثلاث احتمالات. الأول هو فوز ترامب وحينها "ستصبح أيديولوجية MAGA "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" الخاصة به هي المنصة الدائمة للحزب الجمهوري وستمهد الطريق لقادة MAGA في المستقبل، مثل جيه دي فانس، لمواصلة حركة ترامب بعد ولايته الثانية.

أما الاحتمال الثاني فهو خسارة ترامب بهامش صغير، وحينها "سنرى صراعًا داخليًا على السيطرة بين الجمهوريين MAGA والجمهوريين البراجماتيين الذين سيصرون على أن الحزب الجمهوري MAGA لا يمكنه الفوز في الانتخابات." فيما الاحتمال الثالث وهو خسارة خسر ترامب بهامش كبير، حيث "سنشهد ظهور حزب جمهوري يستند إلى المبادئ الجمهورية التقليدية إلى جانب بعض عناصر أيديولوجية MAGA لاسترضاء أنصار ترامب المتشددين."

أما الحزب الديمقراطي فيبدو موحداً حول هدف وحيد وهو هزيمة ترامب في الانتخابات القادمة، وتأجيل انقساماته لما بعد الانتخابات. ولهذا فإن "الديمقراطيين التقدميين لا ينتقدون مواقف هاريس الصارمة بشأن الهجرة والشؤون الخارجية والبيئة وامتلاك الأسلحة لأنهم يعرفون أنها لا تستطيع الحصول على الدعم الواسع الذي تحتاجه للفوز إذا ركزت على السياسات ذات الميول اليسارية"، وفق رؤية دارك.

تبدو الآن الولايات المتحدة إما على موعدٍ مع سابقة تاريخية لم تحدث منذ عام 1893 عندما دخل الرئيس، جروفر كليفلاند البيت الأبيض للمرة الثانية بعد أن تركه قبلها بأربعة أعوام، ليصبح الرئيس الثاني والعشرين والرئيس الرابع والعشرين في تاريخ الجمهورية الأمريكية. أو سوف تكون على موعدٍ مع سابقة تاريخية وهي وصول أول سيدة للرئاسة في حال فوز هاريس المنحدرة من أبوين مهاجرين من الهند وجامايكا. لكن الأهم من السوابق التاريخية أن الجمهورية الأمريكية ليست بخير!

Saturday, 5 October 2024

أم كلثوم: المؤسسة العابرة للأزمنة





يحكى أن أم كلثوم استشاطت غضبًا عندما سمعت قصيدة كلب الست لأحمد فؤاد نجم. فالقصيدة التي اعتبرتها الست تجريحًا وتهجمًا عليها شخصيًا بصورة لا تليق، حوت أيضًا وصفًا دقيقًا وحقيقيًا لمكانة أم كلثوم، "في الزمالك من سنين، وفي حمى النيل القديم، قصر من عصر اليمين، ملك واحدة من الحريم، صيتها أكتر مـِ الآدان، يسمعوه المسلمين والتتر والتركمان، والهنود والمنبوذين، ست فاقت عَ الرجال في المقام والاحترام، صيت وشهرة وتل مال، يعني في غاية التمام، قصره هي كلمة، ليها كلمة في الحكومة...".

عندما كتب نجم كلمات قصيدته عن أم كلثوم، كانت الست مركزًا من مراكز التأثير في الدولة إلى الدرجة التي جعلت وكيلًا للنيابة يفرج عن كلبها الذي عض شابًا ساقته الأقدار أن يمشي أمام منزلها في الزمالك. ووفق نجم فإن وكيل النيابة كتب في حيثيات الإفراج عن الكلب وعدم توجيه أي اتهام جنائي لصاحبته، بأن إسهامات الست أكبر من أن يتم عقاب كلبها!

منذ بدأت أم كلثوم في الانتشار في منتصف عشرينيات القرن العشرين، كانت دون أن تدري تدشن عصرًا جديدًا من الغناء في مصر والعالم العربي. بعد حسم المنافسة لصالحها أمام منيرة المهدية وفتحية أحمد، انتقلت أم كلثوم من مجرد "مغنية" في مجتمع يقوده الذكور وتسوده رؤية سلبية للمرأة التي تعمل في مجال الفن، إلى جزء من المؤسسة* التي تقود المجتمع.

لم تكن المكانة التي حققتها أم كلثوم داخل محيطها الوطني أو الإقليمي مكانةً عاديةً في تلك الحقبة أو حتى بعدها، وصولًا إلى الآن. في عام 1934 غنت في حفل افتتاح الإذاعة المصرية وهو ما جعلها صوت عصرٍ سيتحكم في مزاجه العام الراديو. بعدها بعشر سنوات ستصبح "صاحبة العصمة" عندما منحها الملك فاروق وسام الكمال، المخصص لتكريم الأمراء والنبلاء وصفوة النخبة السياسية، لتكون الوحيدة التي تحصل عليه من المنتمين إلى عالم الفن، وذلك في حفل النادي الأهلي الذي أحيته في سبتمبر/ أيلول 1944 وذكرت فاروق وهي تغني يا ليلة العيد، إذ بدّلت كلام الأغنية من "تعيش يا نيل وتتهنى ونحيي لك ليالي العيد" إلى "يعيش فاروق ويتهنى ونحيي له ليالي العيد".

لكن ذلك لم يجعلها مغنية القصر. حتى في تلك المرحلة كان لدى أم كلثوم إدراك ووعي شديد الدقة بأهمية الموازنة بين الحفاظ على علاقتها بالجماهير، دون أن تكون محسوبة على السلطة، ودون أيضًا أن تناصب هذه السلطة العداء أو تتحول إلى صوت متمرد.

كانت أم كلثوم، ببساطة، هي السلطة ذاتها! حتى عندما غنت قصيدة وُلِد الهدى وفيها بيتٌ يقول "الاشتراكيون أنت إمامهم.. لولا دعاوي القوم والغلواء"، وهي لم تعرف يومًا بأنها صاحبة توجهٍ يساري، أصرت على كلمات البيت رغم طلب تغييره من القصر، في مؤشر على استقلالية قرارها الفني.

خلال حرب 1948 طلب أفراد من اللواء المصري المحاصر في قرية الفالوجة بفلسطين سماع أغنية غلبت أصالح في روحي في حفلها الذي تم نقله عبر موجات الراديو في 3 فبراير/ شباط 1949 من مسرح حديقة الأزبكية. كان حصار اللواء المصري البالغ قوامه أربعة آلاف جندي وضابط، والذي استمر لنحو أربعة أشهر، حدثًا عظيمًا في تلك الأيام.

عندما عادوا إلى القاهرة استقبلهم الملك وكرّمهم وصافحهم ضابطًا ضابطًا، وكان من بينهم جمال عبد الناصر! ثم أقامت أم كلثوم حفلًا لتكريمهم في منزلها وحضره أيضًا الرجل الذي سينهي بعد ثلاث سنوات قرنًا ونصف من الملكية. هنا أم كلثوم بوصفها جزءاً من "المؤسسة" تساهم في تكريم أبنائها العائدين للتو من جبهة القتال.

عندما استولت "الحركة المباركة" على مقاليد السلطة في يوليو 1952، أمر الضابط المسؤول عن الإذاعة المصرية بمنع إذاعة أغاني أم كلثوم باعتبارها رمزاً من رموز "العهد البائد".

ومن الطريف أن سيد قطب الذي كان مقرباً في تلك الفترة من بعض ضباط "الحركة المباركة" طالب في مجلة الرسالة "بإخراس تلك الأصوات" التي غنت للملك! في تلك الفترة كان الصحفي مصطفى أمين يرتبط بعلاقة وثيقة بأم كلثوم وبصداقة حميمة مع البكباشي جمال عبد الناصر، أقوى أعضاء مجلس قيادة الثورة والذي لم يكن معروفًا للجماهير في ذلك الوقت.

نقل مصطفى أمين الخبر لعبد الناصر الذي كان "سمّيعًا" قديمًا للست، وممتنًا لوقفتها مع لوائه المحاصر في الفالوجة. ألغى عبد الناصر القرار فورًا وعادت أم كلثوم لدار الإذاعة، لتبدأ علاقة تحالف وثيقة نادرة بين الرجل الأول في الجمهورية، وأهم سيدة بها، امتدت لثمان عشرة سنة. علاقة لم تتكرر في تاريخ الدولة المصرية الحديث منذ تأسيسها في أوائل القرن التاسع عشر.

من مفارقات التاريخ أن الصداقة بين عبد الناصر ومصطفى أمين انتهت عندما اعتقل الأخير بتهمة تجسس لصالح الاستخبارات الأمريكية. وعندما علمت أم كلثوم بخبر اعتقاله تحدثت مع عبد الناصر ودافعت عن أمين، وفي ذروة انفعالها أخبرته أنهما كانا متزوجين لأكثر من عشر سنوات، ودفعت لعبد الناصر بعقد الزواج، فألقى عليه نظرةً وطواه في جيبه.

بعدها أرسلت لأمين في السجن من يخبره أنها قد أهدته أبياتًا في حفلها الذي أقيم في نادي الضباط، وغنت فيه قصيدة الأطلال على مسامع عبد الناصر نفسه؛ "أعطني حريتي أطلق يديَّ.. إنني أعطيت ما استبقيت شيئًا.. آه من قيدك أدمى معصمي.. لِمَ أبقيه وما أبقى عليَّ"! وليس من المستبعد أن يكون عبد الناصر قد فهم رسالة الست، لم يستجب لها بالطبع ولكنه أيضًا لم يصطدم معها. كان يدرك حجم تأثيرها في العالم العربي الذي يخصص الخميس الأول من كل شهر فقط لأغانيها.

خلال تلك الصداقة الحميمة بين عبد الناصر وأم كلثوم، لم تكن الأخيرة صوتًا للسلطة أو الثورة، كما كان عبد الحليم حافظ. كانت جزءًا من "المؤسسة"، وصوتًا أكبر من أن يُصنّف كصوتٍ مصري. كان "صيتها أكتر مـ الآدان، يسمعوه المسلمين والتتر والتركمان، والهنود والمنبوذين، ست فاقت عـ الرجال في المقام والاحترام". لذا لم يكن غريبًا أن تنجو من تحولات ما حدث في 1952 أو من هزيمة النظام الموجعة في 1967.

لكن قدرة أم كلثوم على تجاوز العصور توقفت مع رحيل عبد الناصر في 1970 وتولي أنور السادات مقاليد السلطة منفردًا في 1971. رغم تأكيد جيهان السادات على العلاقة الطيبة بينها وبين أم كلثوم، فإن ما يروى يعكس حقيقة غير ذلك، وتحديدًا عندما سلمت الست على الرئيس الجديد في حفلٍ وقالت له "إزيك يا أبو الأناور"، في دليلٍ على معرفة قديمة تعود إلى الأيام الأولى للثورة. ضحك السادات وتلقى الجملة بترحاب، لكن جيهان قالت بغضب "اسمه الريس!". حينها فهمت أم كلثوم الرسالة؛ هذه العلاقة مع الرئيس الجديد لن تكون كحال سابقتها مع سلفه. اختارت الست الابتعاد، ورافق ذلك متاعب صحية وصعود لأصوات جديدة وتوهج حاد لعبد الحليم في سنوات عمره الأخيرة!

في 1975 ماتت أم كلثوم، لكن مكانتها لدى العالم العربي انتقلت إلى مرحلة أخرى!

منذ رحيلها دخلت أم كلثوم الخريطة الجينية لعقول أجيال من العرب. عند عمرٍ معين يتم تفعيل "خاصية أم كلثوم" لتصبح صوتًا  لذكريات وقصص حب قديمة! تُستدعى أغانيها في الأعمال الفنية، ويُعاد إنتاجها بأشكالٍ مختلفة، بل وتصبح أغانيها اختبارًا أساسيًا للأصوات الجديدة.

وبعد أكثر من أربعة عقود على رحيلها لا يتم التعامل مع الست باعتبارها امرأةً مؤثرة يمكن تناول سيرتها الشخصية بشكلٍ محايد أو حتى الحديث عن حياتها العائلية وقصصها العاطفية كما حدث مثلا مع عبد الحليم حافظ أو فريد الأطرش. تجاوزت أم كلثوم كل ذلك لتصبح كائناً هضم الفرق بين الرجل والمرأة، كما هضم من قبل الملحنين الكبار وكتاب أغانيها. فالأغاني تنسب لها، وحتى زمنها ينسب لها ليصبح "عصر أم كلثوم"!

—————————————————————

المؤسسةهي نخبة أو مجموعة مهيمنة تملك السلطة أو مصادر القوة والسيطرة داخل الأمةوهي أيضاً مجموعة اجتماعية مغلقة تختار أعضائها بنفسها، سواء داخل الحكومة أو في القطاعات التي تهيمن على الأنشطة الأخرى في المجتمع.