وائل غنيم، وائل خليل، معتز عبد الفتاح.. الثلاثة خرجوا علينا ذات صباح بمبادرة "مصرنا" والتي تريد وفق ما ذكروه في صفحتها على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك "أن نصنع كيانا جامعا للشباب. تتلاقى فيه إرادتنا جميعا حتى ننقل مصرنا التي نريد من حيز الحلم والخيال إلى عالم الواقع والتنفيذ.”
هي مبادرة تريد أن تقدم للناس "نخبة شبابية قادرة على تحقيق النهضة الشاملة" و"زيادة مساحة المشاركة السياسية الواعية لأكبر عدد ممكن من الناس".
لكن المبادرة واجهت هجوما شديدا من عدد من الفاعلين على شبكة تويتر، ورافق الهجوم تهكم على أهدافها وعلى الداعين إليها، وقيل من ضمن ما قيل عنها، أنه كيف يمكن أن "تلتقي الثورة مع مبادرة إصلاحية تريد توافقا مع الوضع القائم" وأن المبادرة "تصب في مصلحة المجلس العسكري الحاكم".
ومن يعود الى تويتر يمكن أن يجد تغريدات كثيرة تدعو الى "الصدام لا التوافق" والى "الراديكالية منهجا لا إصلاح الوضع الحالي والبناء عليه".
لكن المتأمل لهذا التراشق الفكري "العنيف" يدرك أن المهاجمين لمبادرة "مصرنا" ولأي مبادرة أخرى تريد الوصول الى الناس، يجهلون طبيعة المجتمع الذي يناضلون على أرضه!
هذه نقاط، بعضها ذكرته من قبل، لعل الذكرى تنفع المناضلين، والبعض الآخر معلوم لدى الناس بالضرورة:
مجتمع اللعب على الورقة الرابحة
لم يعد يجدي التعالي على المجتمع واتهامه بأنه سلبي أو متأثر بالدعاية الحكومية ونظريات المؤامرة. هذا مجتمع تشكل خلال آلاف السنين وبه من الدهاء والخبث ما مكنه من الانتصار على الطغاة الذين حكموه أو الاستعمار الذي حاول تطويعه. هذا مجتمع يدرك جيدا أنه من العبث الاصطدام العنيف بمن يملك شرعية استخدام العنف وأنه من الأفضل الانتظار الى أن تفرز المعارك الصغيرة شخصية قادرة على مواجهة مشاكل هذا المجتمع!
لاحظ مثلا موقف المجتمع من الصراع على السلطة بين الضباط الأحرار وتنحية اللواء محمد نجيب، الذي كان يتمتع بشعبية هائلة، ومع ذلك لم تعترض الناس بشكل واسع على الاطاحة به عام 1954، بل على العكس التفوا حول من أطاح به، وهو الرئيس ناصر عام 1956. أو يمكن العودة الى معركة محمد علي باشا مع عمر مكرم ومذبحته الدموية في القلعة لمناوئيه، دون أن يكون لذلك رد فعل شعبي!
أو حادثة 4 فبراير عام 1942 عندما وصل النحاس باشا الى الحكم برغبة انجليزية وصلت الى حد حصار قصر عابدين وإجبار الملك فاروق على التنازل عن العرش! (ومن المفارقات أن وفدا من الضباط من بينهم محمد نجيب وجمال عبد الناصر، ذهبوا الى قصر عابدين وأعلنوا ولائهم للملك في هذه المحنة!) وفي هذه المحنة العنيفة أبدى الناس تذمرا ولكن لم يتحركوا لأنهم أدركوا بوعيهم الجمعي أن المعركة ضد رغبة الانجليز هي معركة خاسرة لأن المارشال الألماني رومل على أبواب الاسكندرية، وسيكون رد فعل الانجليز عنيفا الى درجة خسارة مكتسبات معاهدة 1936، على محدوديتها.
يمكن أيضا العودة الى رد فعل الناس على المعركة بين الرئيس السادات وبين مراكز القوى عام 1971 أو رد فعل الناس على الإطاحة بالمشير أبو غزالة من قبل مبارك، عندما كان الأول يتمتع بالشعبية الأوسع لدى الجيش منذ المشير عامر وكان سببا مباشرا في وصول الحكم الى مبارك.
مجتمع يخرج عندما يجد نفسه محاصرا
أن هذا المجتمع خرج في 25 يناير 2011 لأنه أدرك أن حاكمه قد حاصره في زاوية لا يمكن الخلاص منها إلا بالإطاحة به! فمبارك لم يكن فقط قد فقد الاتصال مع مشاكل الناس وبالتالي اهتزت شرعيته، ولكنه كان قد فقد زمام المبادرة بالنسبة لتحديد سلفه وبدا أن الناس أمام سيناريو أسوأ مما يعانون منه، وهو تولي شخصية فاقدة للقبول الشعبي مثل جمال مبارك الحكم، مع ما يحمله ذلك من معان مثل "بيع البلد" و"خيانة ثوابت الأمة الوطنية" و"محاربة الناس في أكل عيشها من أجل صحابه رجال الأعمال"!
ولهذا كان المجتمع مدفوعا بالخروج لأنه فقد الأمل في إصلاح هذا النظام لذاته دون عنف أو ثورة. والمشكلة الحالية أن النظام الحالي، ممثلا في المجلس العسكري، استطاع أن يقنع الناس من خلال إعلامه الرسمي أو الخاص المتحالف معه أنه ضد مبارك في فصله الأخير وأنه انقلب عليه وأداً للتوريث ومخطط "بيع البلد". وبالتالي فمن الصعب دعوة المجتمع للاصطدام بسلطة استطاعت أن تقنعه بأنها تعمل من أجله، خصوصا وأن السيناريوهات البديلة تبدو شديدة القتامة بالنسبة لمجتمع يكره العنف ويمقت الدم.
الفقر والفقراء، مفاتيح الشرعية الشعبية
أن المشكلة الحقيقية لهذا المجتمع هي الفقر وما عدا ذلك تفاصيل فرعية على هامش هذه المشكلة. فغياب الوعي مرتبط بالفقر، والتطرف الديني مرتبط بالفقر، وسوء الصحة وغياب التعليم متفشيان لدى الفقراء، وغياب المشاركة السياسية مرتبط بالفقر.
لذا فإن أي خطاب يتجاهل الفقر والعدالة الاجتماعية هو خطاب يفشل في حشد تأييد شعبي له، حتى وإن التحف بالدين واستخدم آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة وتجاهل أن جوهر الاسلام هو المساواة بين أبناء الوطن وأن الناس شركاء في ثلاث، الكلأ والماء والنار. لذا فإن الثوار لن يصلوا الى الناس بالصدام الدموي مع المجلس وإنما سيصلوا عبر الخطاب الذي يدعو الى تغيير حقيقي على الأرض في قضايا العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة وصنع شبكة أمان للفقراء تراعي حقهم في التعليم والصحة.
ومن يؤت الحكمة..
تبدو المشكلة الأكثر إلحاحا في مسألة الصراع بين المجلس العسكري من جهة وبين الثوار على جبهات شبكات التواصل الاجتماعي، هي في عدم القراءة الواعية للتاريخ أو للتجارب الثورية الشبيهة بتجربتنا. فلو كان جنرالات المجلس يقرأون بعناية التاريخ لأدركوا أن الصيغة الأمثل لهم هي الانسحاب السريع من الحياة السياسية والابقاء على بعض الخيوط في أيديهم، لا النزول "بغشومية" في ساحة لن ينالوا منها سوى "التشكيك والانتقاص من رصيدهم الوطني".
ولو عدنا الى كل الانقلابات العسكرية التي تمتع أصحابها بثقافة تاريخية، نجد أن خطوتهم الأولى كانت في إنشاء كيان سياسي يعبر عن توجهاتهم، وفصل المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية، وترك الناس توجه سهام النقد الى الكيان السياسي لا إلى المؤسسة العسكرية، لأن أصحاب الانقلاب يدركون أن توريط المؤسسة العسكرية في الجدال السياسي سيؤدي الى أن تنقلب هذه المؤسسة عليهم هم أنفسهم كرد فعل!
هكذا فعل ناصر ورفاقه مع كيانهم السياسي الأول وهو "هيئة التحرير" ثم "الاتحاد الاشتراكي"، ولاحقا كان الرئيس السادات ذكيا في استكماله لهذا النهج عبر "المنابر" ثم تأسيسه للحزب الوطني الديمقراطي، والذي زرع فيه الرئيس السادات بذرة موته عندما جعله تجمعا للانتهازيين من رجال الأعمال وفرسان عصر الانفتاح! لكن بصرف النظر عن المآلات المأساوية لكل هذه الكيانات السياسية التي أسستها السلطة، فإن نجاحها الأكبر كان في إبعاد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية.
ومن المفيد لأعضاء المجلس أن يقرأوا بعناية تجربة الجنرال إرنستو جيزيل، الذي تولى حكم البرازيل عام 1974، وكان لديه برنامجا لتحويل البلاد من الدكتاتورية العسكرية الى نظام ديمقراطي ولكن عبر ما وصفه بالممر "البطيء، المتدرج، والآمن". ويمكن لهم أن يقارنوا بين تجربته وبين تجربة نظام ليوبولدو جالتيري في الأرجنتين وهزيمته في حرب جزر الفوكلاندز مع بريطانيا عام 1982، مما أدى الى انتخابات حرة في العام الذي تلاه.
ولو كان أعضاء المجلس يدركون طبيعة العالم الذي نعيش فيه، لما سمحوا بلواء يعمل مستشارا للشؤون المعنوية بأن يخرج بتصريحات تدعو الى "حرق الثوار في أفران هتلر"! فالرأي العام العالمي لا يمكن أن يقف صامتا أمام تصريحات تدعو الى أساليب فاشية لقمع المعارضة، أياً كانت. كما أن هذا التصريح يرسم لدى الرأي العام المحلي والعالمي علامات استفهام كبيرة حول النوايا الحقيقية للمجلس الذي يحاول أن يبني شرعيته لدى الناس باعتباره "معارضا للأساليب القمعية التي كانت سائدة قبل 25 يناير".
أما بالنسبة للثوار فإن دراسة التجارب الثورية الشبيهة بتجربة ثورة يناير الشعبية، وأولها تجربة انتفاضة يناير عام 1977 وتجربة الثورة الإيرانية عام 1979، سيؤدي الى الإدراك بأن المعركة الحقيقية ستحسم لمن يملك "نفسا طويلا" قادرا على "الزن المتواصل" على كافة الجبهات الشعبية من أجل إقناع الناس بأن الثورة مستمرة حتى نصل الى نظام تعددي حقيقي يعالج المشاكل الحقيقية للناس ويكون له برنامج عمل واضح وآلية في تداول السلطة. دون ذلك، فإن الصدام الدموي سيؤدي إما الى بقاء المجلس في الحكم برغبة شعبية من أجل "الأمن والآمان" أو الى صعود مد الجماعات الجهادية الحركية والتي تنتظر بفارغ الصبر التهام التيارات الليبرالية في مصر والداعين الى دولة مدنية.
سأكرر قصة كنت قد رويتها من قبل، ولكن لعل الذكرى تنفع..
في شهر مايو 2011 جمعتني مائدة عشاء مع مجموعة من الصحفيين القادمين من تسع دول مختلفة حول العالم. كنت المصري الوحيد بينهم. وكان الموضوع المسيطر على الجلسة هو الانبهار والاعجاب الشديد بالثورة المصرية وسلميتها وقدرتها على تغيير نظام قمعي مثل نظام مبارك. فقط زميلة إيرانية لم تبدو منبهرة أو سعيدة وقالت لي: احذروا أن تسرق ثورتكم مثلما سرقت ثورتنا قبل ثلاثين عاما. في تلك الليلة ظننت أنها تشعر بالغيرة من قدرتنا على التغيير وفشل الايرانيين في ذلك. لكن لاحقا تذكرت ما قالته لي خلال أحداث ليلة اقتحام السفارة الاسرائيلية، وخلال معارك استهداف أعين وصدور الثوار، وخلال الانتخابات الأخيرة وما صاحبها من تضليل!
حفظ الله ثورتنا من السرقة وألهم أبنائها الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.