REUTERS/Amr Abdallah Dalsh |
مرت سنة. وإن عدتم عدنا. عادوا الى سيرتهم الأولى وعدنا الى الميدان. والميدان عبقري! في مساحة محدودة من الأسفلت والرصيف الحجري يمكن أن ترى مصر بعينيك، وتسمع صوت مصر بأذنيك. وهذه ليست جملة بلاغية وإنما حقيقة علمية ملموسة.
فمن هي مصر؟
في اللحظات التي كان فيها ميدان التحرير يوم 8 فبراير 2011 يهتف بصوت واحد: "ارحل.. ارحل.."، أو يردد النشيد الوطني، كان يمكن أن تسمع صوتاً لشاب في الرابعة والعشرين من العمر. شاب غاضب ولكن في صوته نبرة أمل. هو غاضب لأنه خرج الى الحياة يوم 25 يناير عام 1987 وكانت صورة الرئيس المعلقة في مكتب الوحدة الصحية التي استخرج منه أباه شهادة ميلاده هي للسيد محمد حسني مبارك.
عندما بدأ هذا الطفل مسيرته مع التعليم الحكومي عام 92، كانت الصورة المعلقة في مكتب الناظر هي للسيد محمد حسني مبارك، رئيس الجمهورية.
بدأ وعي الطفل في التفتح وهو ابن عشر سنين (1997)، عندما كان يسترق السمع لأحاديث أبيه مع رفاقه المجتمعين في صالون البيت. كان يحاول أن يربط بين جمل فيها أجزاء من تاريخ لم يعشه. "فاكر لما نزلنا في يناير 77؟"، "كانت الدنيا برد بس الشوارع كانت مليانة". "أهو مات وسابلنا البقرة دة من بعده!". "ابن اللذينا مش مخللي حد جنبه في الصورة! من ساعة ما شال أبوغزالة وكل اللي حواليه مجرد أراجوزات!". "أهو خرب الحياة الحزبية وبيذلنا بأنه عمل مجاري وخللى عمرو دياب يغني في دورة الألعاب الأفريقية! (ضحك جماعي)".
بعد ثلاث سنوات، وتحديدا عام 2000، أدرك هذا الطفل/المراهق أن ما يتحدث عنه أباه ورفاقه، ويرى صورته في كل صحيفة يومية ونشرة إخبارية تلفزيونية أم إذاعية! هو السيد محمد حسنى مبارك رئيس الجمهورية. وجه بارد لرجل لم يعرف عنه أنه امتلك كاريزما في يومٍ من الأيام، أو كان صاحب موقف جعل الأمة تقف وراءه وتقول أنه يمثل رغبتها في الاستقلال الوطني أو حلمها في امتلاك مشروعٍ تتركه للأجيال القادمة.
محمد حسني مبارك، هو رجل اللحظة الراهنة بامتياز! لا يفكر في الماضي ولا يهتم بالتاريخ، وغير مهموم بالمستقبل، ولا حتى لديه رغبة في ترك إرث سياسي تتحدث عنه الأجيال المقبلة من أبناء وطنه، أو مشغول بأن يكتب عنه المؤرخون بتقدير وحفاوة. هو وجه بارد لرجل يمكن أن تكون كريماً معه إذا وصفته بـ"الممل".
منذ عام 2000، وحتى عام 2011، تحول الطفل الى شاب متعلم. خريج كلية التجارة، جامعة القاهرة وبالطبع لا يجد عملاً. قصة من فرط تكرارها أصبحت فلكلوراً شعبياً يروى على المقاهي، وتتحدث فيه الأمهات عندما يلتقين عند بائع الخضار أو خلال رحلتهن الى الجزار، إذا كن من القلة المحظوظة التي لديها القدرة المالية على القيام بهذه الرحلة.
لكن الذي جعل قصة هذا الشاب، وقصة أبناء جيله، مختلفة عن قصص جيل أبيه، أنه للمرة الأولى منذ ستين عاماً أصبح حكم البلاد محصورا في أسرة بعينها، وأصبح اسم الحاكم القادم معروفاً وأمراً يروج له على نطاق واسع باعتباره "الخيار الأكثر ملائمة لظروف مصر والذي سيضمن استقرارها".
لكن "ولي العهد" ورث انعدام الكاريزما من أبيه، كما ورث "احتقاراً لأبناء شعبه" من أمه! صاحب ابتسامة ميكانيكية وعينين باردتين وكأنه "قاتل محترف" يتكسب رزقه من قتل الناس! لديه استعداد فطري لبيع أي شيء بأي ثمن، سواء أكان أسهماً في شركة أو حصصاً في مجموعة مالية أو شعباً في وطن، أو وطناً كاملاً مقابل الوجاهة الرئاسية.
وشعوره هذا عبر عنه في أكثر من مناسبة عندما اجتمع مع مسؤولين في الإدارة الأمريكية وأخبرهم برغبته في وراثة كرسي أبيه، وعندما سأل عن استعداد الشعب المصري لقبول ذلك، أجاب: "ليس مهماً موافقة الشعب المصري على هذا الأمر. المهم الحصول على موافقتكم وموافقة إسرائيل. وقد حصلت على الثانية وتبقى لي الحصول على الأولى!".
لذا فعندما هبط صاحبنا الى الشارع لأول مرة في الخامس والعشرين من يناير 2011 ثم مرة أخرى في الثامن والعشرين من يناير.. ثم لم يغادر الى منزله إلا في الساعات الأولى من الثاني عشر من فبراير، فإنه فعل ذلك لإدراكه بأن مستقبله لعشر سنوات مقبلة سيكون أسوأ من العشر سنوات التي مضت من عمره!
فما رآه من تعذيب مورس من قبل ضابط شرطة قسم الحي الذي يقيم فيه بحق ابن بواب عمارتهم، للاشتباه بأن وراء سرقة سيارة ابنة عميد الشرطة جارهم، سيتضاعف في السنوات المقبلة وسيصل إليه!
كما أنه من المستبعد كثيراً أن يجد عملاً في السنوات القادمة، وإذا حدث ذلك فلن يكون أفضل من صديقه الذي قبل أن يعمل مندوباً لمبيعات منتجات لا يرغب أحد في شرائها، ولا يستطيع على شرائها أحد! دائرة مفرغة من العبثية التي تودي الى الجنون أو الى الانتحار، كما فعل صديقه الآخر ذات يوم غائم، وترك في حلقه طعماً مراً من الإهانة الشخصية.
لم يعد هناك شيء كي يغير به من مستقبله سوى النزول الى الشارع والهتاف ثم الهتاف، ثم الصمود أمام الرصاص الحي، ثم الهتاف، ثم الصمود وسط الحصار والبرد وقلة الأكل وتشويه السمعة في الإعلام، ثم الهتاف، ثم الصمود أمام غزوة من راكبي الجمال والأحصنة، وكأن الزمن قد عاد ألفي عام الى الوراء، ثم الهتاف ثانية حتى رحيل الفرعون وولي عهده ووزيره الأول وكبير العسس.
by: Telemachus Stavropoulos |
تحقق ما كان يبدو أكثر جموحاً من الخيال وذهب الفرعون وحاشيته الى الجحيم (يعرف الجحيم هذه المرة باسم منتجع شرم الشيخ الرئاسي) وعاد الشاب الى منزله وهو يحمل شيئين: الأول: أمل في الغد بحجم الحلم الذي تحقق. الثاني: ثقة بأن من تولوا أمر البلاد والعباد سيكونون أوفياء لتضحيات أسلافهم والتي لا تقل عن تضحيات من هبطوا الى الشوارع للمطالبة بـ"العيش والحرية والعدالة الاجتماعية".
لكن الأمل قتل برصاصة حية من بندقية قناص، يعرف إعلاميا باسم الطرف الثالث. أما الثقة فتحطمت كلوح زجاج هوى على قطعة كسر رخام باردة!
هبط الشاب الى الشارع ثانيةً وما كاد يشترك في الهتاف الجماعي حتى أحس بقطعة معدنية ملتهبة وهي تحرق صفاً من خلايا مخه، ورأى ومضة من ضوء مبهر، لم يراه من قبل، أعقبه شريط سريع متتابع من صور عشوائية ليس بينها رابط.
صورة صديقه الذي انتحر بالأبيض والأسود في الصفحة قبل الأخيرة من الأهرام. غرفته التي لم يحرص على ترتيبها يوماً. وجه ابن البواب وقد تورمت عيناه. مذيعان في برنامج يومي وهما يتحدثان عن حكمة السيد الرئيس ورؤية السيد أمين لجنة السياسات. سلالم العمارة التي يقطن بها وتحديدا السلمة المشروخة في الطابق الثالث. الكرسي المفضل لديه في المقهى الذي اعتاد على الذهاب إليه لمشاهدة ماتشات فريقه المفضل (الأهلي). قلمه الذي اعتاد أن يكتب به ملاحظات على هامش الكتب التي يقرأها. صورة رسمية باهتة للسيد الرئيس معلقة في غرفة ناظر المدرسة. وجه أباه مبتسما وهي يتلقى خبر قدومه الى الحياة قبل أربعة وعشرين عاماً.
لا أحد يعرف ما الذي رآه "أمل" بعد هذا الشريط السريع من الصور. ولكن من المؤكد أنه أدرك في تلك اللحظة الحكمة من وراء قرار أبويه المشترك بإطلاق هذا الاسم عليه. وربما سمع أيضا كلمتين ألقاهما رجل كان يحمل نفس اسمه. "لا تصالح". سمعها قبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة.
في المساء، وفي شريط الأخبار على شاشة قناة إخبارية كتب: مقتل خمسة وإصابة سبعة خلال مواجهات بين متظاهرين وقوات الأمن في شارع محمد محمود * رئيس الوزراء الإيطالي يعرب عن تأييده الحذر لفكرة إصدار سندات مشتركة لدول منطقة اليورو * دوري أبطال أوروبا: تشيلسي وآرسنال يتطلعان للدور الثاني على حساب باير ليفركوزن ودورتموند