Sunday, 22 July 2012

يوليو.. يناير.. ودولة محمد علي


اعتادت أجهزة الإعلام المصرية الرسمية على ترديد أن مصر هي أقدم دولة في التاريخ، بينما لم تذكر أن الدولة المصرية القديمة انهارت بعد الأسرة الثلاثين، والتي تعتبر الأسرة المصرية الأخيرة في حكم هذا البلد حتى عام 1952.

وبالتالي حدث انقطاع في الدولة المصرية لحقب زمنية طويلة، فيما كانت كل مشاريع إقامة دولة في هذه البقعة من الأرض مسخرة لخدمة امبراطوريات أكبر، تأخذ من مصر مقاطعة لها، مثل الامبراطورية الفارسية، والرومانية، والبيزنطية.

ومما لا يذكر أيضاً في الإعلام، أن الدولة المصرية الحديثة أنشئت لخدمة الآلة الحربية لمحمد علي ممثلة في جيش إبراهيم باشا، والذي كان الهدف الرئيس من فتوحاته في الشرق هو الوصول الى صيغة ينفرد بها محمد علي وذريته بحكم مصر.

وأن هذه الدولة الحديثة هي التي أرسلت البعثات العلمية للغرب في القرن التاسع عشر، ليعود المحظوظون من أبناء الفلاحين كأفندية، فيختار منهم الوالي موظفين وضباطاً ولاحقاًًً إقطاعيين.

ومع تطور هذه النخبة تشكلت الدولة المصرية التي جاءت على مقاس مصالحهم الاقتصادية. وقبل ذلك التطور وخلاله وحتى منتصف القرن العشرين، كانت الغالبية العظمى من الشعب المصري خارج إطار الدولة المصرية التي ركزت جهودها على خدمة العاصمة والمدن المركزية. (يمكن الرجوع لأرقام التوزيع السكاني في مصر أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ومقارنتها بمثيلتها من الأرقام التي جرى جمعها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي) .


وبالرغم من التباين الحاد في توجهات الأنظمة السياسية منذ بداية دولة محمد علي وحتى الخامس والعشرين من يناير، فإن الدولة لم تسقط، ولكنها انحسرت أحياناً وتمدت أحياناً أخرى، محافظةً على ضعفها وعدم قدرتها على صياغة عقد اجتماعي جامع يضم أطيافاً أوسع من المصريين.
 
فقد ولدت دولة محمد علي وبها عيبين خطيرين استمرا معها خلال قرنين من الزمان. الأول أنها جاءت ممثلة لشخص الحاكم وتوجهاته ولم تكن ممثلة لطائفة "خدم الدولة" أو ما يعرف باسم Civil Servants وهم من يقومون بتسيير الجهاز البيروقراطي للدولة ويحافظون على هياكلهم، بصرف النظر عن التوجهات السياسية للنظام الحاكم. فالنظام الحاكم ينحصر دوره في رسم السياسات العامة وتنفيذ أجندته الاقتصادية والاجتماعية، ولكنه وفقاً لهذا التعريف المعمول به في الديمقراطيات الغربية، لا يتدخل في آلية عمل الدولة.

أما العيب الثاني فهو أن هذه الدولة أنشئت لخدمة الآلة الحربية لجيش إبراهيم باشا، واستمرت على عهدها هذا حتى في الحقب التي تم فيها تقليص هذه الآلة. بل أن الحاكم أصبح يستمد جزءاً كبيراً من شرعيته من انتمائه لهذه الآلة الحربية.

أما من تحدثوا في أعقاب ثورة يناير 2011 عن مخطط هدم الدولة، فهم لم يجانبهم الصواب كليةً! فهذا المخطط بدأ في السبعينيات وأشرف على تنفيذه رئيس الدولة بنفسه، سعياً لبناء شرعية حكم جديدة يواجه بها خصومه السياسيين، وخوفاً من صدامٍ محتمل مع آلته الحربية التي خرجت للتو من حرب 1973، ولم تكن راضية عن التسويات السياسية التي أعقبتها.



أما وريث السادات، فقد سار على دربه وفضل أن يهدم الدولة عبر الاعتماد على الأجهزة الأمنية بالكامل، بدايةً من تأمين محيط قصره وانتهاءً بمفهوم التأمين الواسع الذي امتد للتزوير في الانتخابات النيابية والمحلية وتعيين أساتذة الجامعة وموظفي الحكومة. وبالتالي تم القضاء على طبقة "خدم الدولة" The Civil Servants وتحولوا الى "خدم للنظام" Regime's Servants.  ونتيجة لهذا لم يكن أحدهم ليجرؤ ويسأل عن حيثية السيد جمال مبارك، نجل الرئيس، في التوجيه لدعم القرى الفقيرة، أو الوضع الدستوري والقانوني لقرينة الرئيس السيدة سوزان، في إصدار قرارات تتعلق بالصحة والتعليم.

وفي الثامن والعشرين من يناير وتحديداً عصر هذا اليوم، خرجت شهادة وفاة دولة محمد علي التي ولدت في الأول من مارس عام 1811 مع مذبحة القلعة. لكن نظام مبارك استمر في الحكم، لأنه كان أقوى من الدولة. بل وأعاد إنتاج نفسه عبر تحالف الشيء الوحيد الباقي من دولة محمد علي، وهو جيش إبراهيم باشا، مع جماعة الاخوان المسلمين، الفصيل السياسي الأكثر تنظيماً على الأرض. أما غالبية الشعب فظلت خارج هذا التحالف، وعنصراً ينظر إليه ككتلة انتخابية تمنح تفويضاً لسياساتٍ تخدم طبقة الأفندية والباشوات ولا تخدم قاعدةً أوسع من العمال أو الفلاحين أو أبناء القبائل في الشرق والغرب والجنوب.


هذه التدوينة هي جزأ من تدوينة نشرت تحت عنوان الدولة: هل حقاً كانت لدينا واحدة؟ الرئيس: هل يستحق كل هذه الضجة؟

Friday, 20 July 2012

ليلة اغتيال الجنرال الصامت في المكسيك


١

في عام ١٩٩٣ كنت أخدم في قاعدة أنجيرلك الجوية بتركيا. كان سرب مقاتلات إف ١٦ سي الذي أخدم فيه، مكلفاً بمراقبة الحظر الجوي جنوب خط العرض ٣٢ فوق السماء العراقية.

في هذه الفترة نشأت صداقة وطيدة بيني وبين ويليام نايت، والذي كان يحمل رتبة كابتن والتي تعادل رتبة نقيب في القوات الجوية المصرية. كان ويليام والذي كنا نناديه "بيت" يعمل طياراً على متن طائرة الإنذار المبكر الأواكس E3.

كانت طلعاتنا الجوية تضم سرباً من مقاتلات إف ١٦ وطائرة إنذار مبكر أواكس وطائرة التزود بالوقود KC-10، وكنا جميعاً نشعر بالضجر الشديد في هذه المهمات. فقد كانت السماء العراقية خالية من أي نشاط جوي، وكانت ارتفاعاتنا الشاهقة تمنعنا من رؤية أية تفاصيل للمدن العراقية. كنا نقضي أغلب الوقت ونحن ننظم مسابقات على موجات اللاسلكي حول الأفلام وأبطالها. وكان الأكثر معرفة بالإجابات هو "بيت" يليه العبد لله.

انتقلت صداقتنا من الجو وموجات اللاسلكي إلى الأرض، حيث كنا نسهر في الحانة الخاصة بقاعدتنا الجوية (أو للدقة القاعدة التركية التي ندفع إيجارها!).

أتذكر يوماً ما اقتحمت العنبر الذي يقيم فيه "بيت" وصرخت: صدام أطلق سكود نحونا.. إنها الحرب..! ثم ركضت نحو مقاتلتي. أصيب "بيت"، الذي كان مستلقياً حينها، بالفزع وسارع إلى ارتداء بدلته والركض خلفي وهو يصرخ: سكود سي أم سكود بي؟؟

كان كل من في السرب يضحك على رد فعل "بيت" وهنا أدرك زميلي أنها دعابة ثقيلة من تلك التي يطلق عليها بالانجليزية: Practical Joke.

٢

مرت عدة سنوات منذ آخر مرة التقيت فيها بصديقي البريجدير جنرال ويليام جيه نايت (رتبته تعادل العميد طيار) والذي يعمل الآن في استخبارات سلاح الجو الأمريكي، كضابط ارتباط بين القوات الجوية ولانجلي، حيث مقر الاستخبارات المركزية الأمريكية، سي أي أيه.

اتصل بي "بيت" في منزلي الصيفي بمدينة برايتون البريطانية. كنت أتأمل البحر وأقرأ عدد الصباح من صحيفتي المفضلة، التايمز، عندما أضاءت شاشة هاتفي بكلمة Unknown. في كل مرة رأيت فيها هذه الكلمة تذكرت المكالمات التي تأتيني فجأة وتحمل لي أخباراً يصعب هضمها.

هذه المرة كان صوت "بيت" دافئاً وهو يلقي تحية الصباح بودٍ شديد، ويقول: صديقنا الكبير رحل.

أنا: من؟

بيت: الجنرال الصامت.. خزانة أسرار الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا..

أنا: هل تقصد الجنرال أومار..

بيت: نعم أقصد سوليمانهل أنت في البيت؟

أنا: نعم.. لماذا؟

بيت: متى يمكن أن تكون في جاتويك؟

أنا: لا أبعد كثيراً عن مطار جاتويك.. ربما ٤٥ دقيقة إذا تحركت الآن.

بيت: هناك طائرة بوينج clipper c-40 تابعة لنا وتحمل الرقم التسلسلي 10015 ستنطلق بعد نحو ساعة من الآن حيث ستقلك إلى روما.

أنا: لدي ثلاثة أسئلة..

بيت: اثنان فقط!

أنا: حسناً.. الأول: كيف أصل للطائرة؟ والثاني: ماذا تفعل في روما؟

بيت: توجه إلى مركز الشحن بالمطار.. طائرتنا رابضة هناك.. فقط أسأل عن الشحنة المتوجهة إلى قاعدة فيتيربو الجوية.. أما ما أفعله في روما فهو ما أفعله عادةً.. أعتني ببعض الأمور التي يفسدها الآخرون! (وضحك).

أنا: فيتيربو الجوية! الإيطاليون صاروا كرماء معنا.. (ابتسامة) حسناً.. سأكون هناك. أراك قريباً.

طائرة بوينج clipper c-40 هي النسخة العسكرية من الطائرة المدنية بوينج ٧٣٧. كانت فخامة الطائرة مفاجأة سارة لي. علمت من الطاقم أن هذه الطائرة كانت مخصصة لرحلات السيدة الأولى ميشيل أوباما حتى عام ٢٠٠٩، قبل أن تفضل التنقل مع زوجها على متن طائرة سلاح الجو رقم ١ أو طائرة نائب الرئيس سلاح الجو رقم ٢ رفقة جيل بايدن.

بعد ساعتين من الطيران على ارتفاع ٣٢ ألف قدم، وصلت إلى روما. كانت السماء المشمسة باعثاً على الارتياح والبهجة، بعد أن مللت سماء لندن وجنوب انجلترا الرمادية.



توقفت الطائرة بالقرب من القطاع الشمالي من المطار الصغير، حيث يصطف سرب من مروحيات النقل العسكري، شينوك. قابلني عند سلم الطائرة "بيت" بملابسه العسكرية الزرقاء وثلاثة صفوف من الشرائط التي ترمز إلى النياشين التي حصل عليها خلال مهماته العسكرية حول العالم.

٣

بعد أن استبدل "بيت" بدلته العسكرية الزرقاء ببدلة مدنية رمادية (على غرار ما فعله المشير في جولته الشهيرة بوسط البلد ذات مساء)، تبادلنا الحديث في مطعم "روما سباريتا" الذي يقع بوسط العاصمة الإيطالية، بالقرب من جزيرة تيبرينا (تشبه جغرافياً جزيرة الزمالك).

بيت: هل تعلم كيف رحل؟

أنا: أزمة قلبية.. هكذا يقولون في المواقع الإخبارية..

بيت: لا.. هذا غير صحيح.

أنا: على تويتر هذي يقول إنه مات في تفجير دمشق.

بيت: (ضحكة بصوت عالٍ) هذه جيدة.. جيدة للغاية!

أنا: إذن أين وكيف؟

بيت: في المكسيك.

أنا: تفاصيل أكثر..

بيت: لا أستطيع في هذا التوقيت.. إنما ما أعرفه أنه كان يقدم استشارات للحكومة المكسيكية وتحديداً القوات العسكرية المكلفة بخوض الحرب على كارتل المخدرات، حول كيفية مواجهة هذه الميليشيات المسلحة، وفق خبرته السابقة في مواجهة التطرف في مصر خلال التسعينيات.

أنا: تجار المخدرات؟

بيت: لا. ما أعرفه أنهم رجالٌ من منطقتكم.

أنا: مصر أم بلد عربي آخر؟

بيت: بلد عربي متورط في الصراع في سوريا والشرق الأوسط!

أنا: وصلت المعلومة.. لم أكن أعلم أن لديهم هذا المستوى من الكفاءة الدولية!

بيت: الرجل كان يشعر بالكثير من النشاط في الفترة الأخيرة. انظر إلى هذه الصور (ثم أخرج من حقيبته صوراً للمرحوم بالأبيض والأسود التقطت فيما يبدو من مسافة بعيدة للغاية).

أنا: حسناً يا صديقي. هل لديك أية نصائح؟

بيت: نعم.. صدام لم يكن لديه سكود بي في عام ٩٣.. (ثم انفجر في ضحكة بصوت مرتفع)..

بدت عليّ الدهشة الشديدة..

بيت: ما فعلته أنا الآن منذ اتصالي بك في الصباح وحتى هذه اللحظة، هو انتقامي مما فعلته أنت في أنجيرلك عام ٩٣. (ثم واصل الضحك)..

أنا: أيها الوغد اللعين.. لقد أفسدت عليّ الذهاب إلى السينما هذا المساء! لكن هذه الصور.. من أين أتيت بها؟

بيت: إنها من الإنترنت أيها الأحمق، لقد عملت فقط على إخفاء بعض معالمها من خلال أدوبي فوتوشوب.

أنا: حتى أنتم تعلمون ما هو الفوتوشوب!

بيت: لم أفهم!

أنا: لا عليك.. إذن الغداء وتذاكر السينما على حسابك أيها الوغد اللعين..





Saturday, 7 July 2012

ليلة اغتيال رجلٍ ميت


المشهد الأول

في المدخل الرخامي للمبنى الأبيض الأنيق المشيد فوق هضبة المقطم، وقف رجلٌ فارع الطول، مهيب الطلة، عملاق البنيان، صامتاً وكأن أبو الهول قد عاد للحياة..

في الحقيقة، لقد عاد هذا الرجل بالفعل إلى الحياة ولكن لفترة قصيرة. فهو يعتقد أنه قادرٌ على تصحيح مسار شيء تركه في الدنيا قبل أن يرحل فجأة ذات ليلة باردة!

سأله موظف الاستقبال بأدبٍ جم: هو حضرتك مين؟

أجاب الرجل المهيب بلغةٍ عربية سليمة بها بعض الألفاظ العامية، التي تضفي رونقاً على حديثه: ستعرف لاحقاً يا أخينا.. من فضلك أخبر الأخ الفاضل المرشد أنني أريد مقابلته لأمرٍ هام لا يحتمل الانتظار أو التأجيل..

الموظف: ولكن فضيلة المرشد مشغول جداً و..

قاطعه بحدة: لقد قلت لك لا يحتمل التأجيل أو الانتظار.

ارتبك الموظف واضطرب، وبدأ في مسح قطرات عرقه البارد. رفع السماعة وتمتم بكلمات لم يسمعها صاحب الطلة المهيبة، ثم قال له: اتفضل حضرتك من هنا..

المشهد الثاني

في مكتب المرشد شاشةٌ صغيرة موصلة بعدد من الكاميرات في المبنى، منها الكاميرا المثبتة خلف النقوش الإسلامية التي تزين سقف المدخل.

شاهد المرشد صورة الرجل في الشاشة، فارتفع حاجباه من الدهشة، وسبح الله كثيراً على هذا التطابق المدهش!

فور أن دخل عليه سكرتيره الخاص، يطلب منه الإذن كي يدخل صاحب الطلة المهيبة، سارع المرشد بالموافقة والطلب بألا يزعجه أحدٌ بمن فيهم الرئيس الجديد.

دخل الرجل المهيب مكتب المرشد، ووقف يتأمل أركان الغرفة بخليطٍ من الامتعاض وعدم الاكتراث. سارع المرشد إليه مرحباً، سائلاً عن اسمه الكريم..

"بقى مش عارفني فضيلتك..؟!” هكذا قال الرجل باقتضاب للمرشد الذي أبلغه بأدب أنه في الحقيقة لا يعرفه وإنما يحترمه لشبهه الشديد بالإمام الشهيد.

"أيوة أنا هو.. أمهلني الله بضع ساعات كي أجتمع بكم وأنقذكم من بذرةٍ خبيثة تريد بكم السوء.”

بدت الجملة كأنها طلقة استقرت في عقل المرشد، وأصابته بوجلٍ شديد.

انهار الرجل على مقعده وسأل الإمام: طيب هو مين يا مولانا؟

الإمام: مش مهم هو مين، المهم أجمع أعضاء المكتب بسرعة، فوقتي محدود ويجب أن أعود من حيث أتيت قبل صلاة الفجر.

رفع المرشد سماعة هاتفه الأسود الأنيق وقال لسكرتيره: من فضلك اتصل بالأخوة الأفاضل (وتوقف عند هذه الكلمات التي نطقها ببطء) وأخبرهم إننا عايزين مقرأة الليلة..

ثم أغلق السماعة بهدوء شديد.

نظر له الإمام بغضب: لقد قلت لك أنني لا أملك الكثير من الوقت..

المرشد: يا مولانا أنت أكثرنا علماً بأنه لا أمان لآلةٍ تسري فيها الكهرباء!

المشهد الثالث

تلقى كل رجلٍ فيهم الرسالة النصية أو المكالمة من سكرتير المرشد بنفس التعبير. الصمت لدقيقة وقراءة الرسالة مرة أخرى، أو الطلب من السكرتير أن يكرر الرسالة ببطء. الاعتذار من أي ارتباط والتوجه فوراً إلى المبنى الأبيض الأنيق بالمقطم.

اجتمع الرجال في غرفة الاجتماعات التي صممت كي لا تضم سوى طاولة بيضاوية سوداء ومقاعد فحصت بدقة كي لا تحتوي على أي جهازٍ صغير يعمل عن بعد!

الشعور الدائم بالملاحقات الأمنية والضربات الوقائية من قبل الحكومات المتعاقبة منذ حقبة مولانا الملك، جعلت قمة الهرم التنظيمي تفضل الاجتماع في غرفة تخلو حتى من نافذة صغيرة تطل على الشارع وتحمل ضوضائه إليهم.

كان الرجل المهيب آخر من انضم إليهم. صمتوا جميعاً عندما دخل وانتاب بعضهم شعورٌ غامض بأن هذا القادم من المجهول سيرحل مصحوباً بضجةٍ صاخبة!

"مين دة؟" كان هذا هو التساؤل الذي ألقاه بسخرية أحد الأعضاء النافذين في وجه المرشد.

المرشد: دة الإمام الشهيد..

رد العضو النافذ الذي يوصف بأنه خزانة غضبٍ مكتوم تمشي على قدمين: أنت حتهزر والا شكلك كبرت يا مولانا..

"اخرس واسمع ما سوف أقول.” بغضب وحسم، ألقى الرجل المهيب الجملة وهو ينظر في عيني "خزنة الأموال" الغاضبة. تابع وهو يجز على أسنانه: لم أنشئ هذه الجماعة كي تكون أداة من أدواتك في بناء امبراطورية ترضي طموحك في الهيمنة والسيطرة.

خزنة الأموال بغضب وصوت مرتفع: اسمع يا ممثل درجة عاشرة.. مفيش ميتين بيصحوا من الموت علشان يدوا مواعظ لأهم ناس في البلد. اطلع برة قبل ما أخليك..

قبل أن يكمل جملته، صرخ أحد الأعضاء في فزع: مولانا أنت بتنزف؟

الرصاصات اللي دخلت في فبراير لا تزال باقيةً معي، تذكرني بأن ما كنت أظنه خيراً، خرج منه ما تسبب في مقتلي.” ثم تمتم بصوتٍ خفيض: ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين..

لا يوجد لدي الكثير من الوقت كي أمضيه معكم. فقد جئت إليكم كي أحذركم من أن جمرةً خبيثة تريد بكم السوء. هذه الجمرة ليست من الخارج. احذروا أن تستجيبوا له. (وأشار إلى خزنة الأموال الذي ظل صامتاً كتنينٍ يريد نفث نيرانه) فإن استعجال التمكين، فيه هلاككم.”

سار الرجل المهيب نحو باب الغرفة ببطء قبل أن يسمع من خلفه صوت انفجارٍ صاخب، صاحبه شهقة عظيمة من أحد الأعضاء الذي صرخ: بتضرب الإمام بالرصاص؟!

نظر الرجل المهيب إلى صدره، فوجد خيطاً رفيعاً من الدم يرتسم على قميصه الأبيض. علم على الفور أن الرصاصة الغادرة أصابته دون أن تخشى الانضمام إلى أخواتها من الرصاصات التي يحملها جسده.

نظر ببطء إلى مصدر الرصاصة فوجد "خزنة الأموال" يحمل مسدسه النمساوي الأسود، وينظر إليه في تحدٍ وغضب.

ابتسم باقتضاب وقال له: رصاصتك مش حتقتل ميت! أتركهم، ربما انصلح حالهم.

ثم نظر إليهم مودعاً وقال: قريباً نلتقي.. احذروا مما تتمنون حدوثه.

أغلق الرجل المهيب الباب خلفه، وساد الصمت غرفة الاجتماعات إلى أن قطع الصمت صوت المرشد وهو يقول: ولهذا خلق الله الندم!


Monday, 2 July 2012

الجزء الأول: بلاد تحلق نحو الغيوم على ارتفاع منخفض



المشهد الأول: التحليق نحو سماء ملبدة بالغيوم!

(١٣ يونيو ٢٠١٢)

وصلت إلى القاهرة في الفجر قادماً من لندن عبر فرانكفورت. فوجئت أن الطائرة من فرانكفورت إلى القاهرة هي نفس الطراز المستخدم بين لندن وفرانكفورت. رغم أن الرحلة بين العاصمتين الأوروبيتين لا تزيد عن ساعتين، فيما الرحلة الأخرى نحو أربع ساعات.

أتذكر أنني سلكت نفس الطريق في يونيو ٢٠١٠ وكانت الطائرة، التابعة لنفس الشركة وهي لوفتهانزا، ذات حجم أكبر ومقاعد أكثر رحابة وشاشات تحمل لك أفلاماً كثيرة وأغان أكثر!

سألت المضيفة عن السبب وراء هذه الطائرة الصغيرة في رحلة دولية بين قارتين. كانت الإجابة أن حركة السفر إلى القاهرة انخفضت إلى المستوى الذي دفع الشركة الألمانية لاستخدام طائرات أصغر من أجل تفادي الخسائر.

رغم العدد المحدود للمقاعد في هذه الطائرة الصغيرة، إلا أن أغلبها كان خالياً. كان هذا مؤشراً أولياً على الغيوم التي يحلق نحوها الاقتصاد المصري الذي يعتمد في جزءٍ كبير منه على السياحة.

المشهد الثاني: الملفات السرية لسائق تاكسي أبيض بتكييف!

يلعب سائق التاكسي دوراً محورياً في الحياة السياسية المصرية! فهو الذي تجمع عليه جميع الفصائل السياسية في الاستشهاد بآرائه وتوجهاته وأحياناً معلوماته التي يدعي أنه حصل عليها من مصادر "كشفت له السر أثناء رحلة مثيرة إلى فيلا مريبة في المقطم".

رحلتي الأولى كانت مع سائق تاكسي حكى لي كواليس الأحكام القضائية التي حصل عليها مبارك وأعوانه. كما حكى لي أسرار وتفاصيل الحياة "الفارهة" التي يعيشها مبارك، والتي تتخطى تفاصيلها ما تورده إحدى الصحف اليومية الخاصة!

وعندما سألته عن مصدر معلوماته، أجابني بغموض رجل استخبارات عتيق، أن وظيفته الأساسية هي: السائق الخاص لأحد المسؤولين الكبار "السريين" في الدولة، والذين يعتمدون عليه في كل صغيرة وكبيرة. وبالطبع لم أسأله عن وظيفته "الثانوية" وهي قيادة سيارات الأجرة حتى لا أدفعه للحديث عن "مهمته السرية"!

ولم يفت السائق الذي أفنى زهرة حياته في العمليات السرية بين عواصم العالم، أن يعود بي إلى أرشيف تاريخه عندما قادته المقادير كي يكون سائقاً لكبار الرؤساء والملوك العرب، بمن فيهم الرئيس السابق نفسه. وأنه كان شاهداً على الكثير من الأسرار التي لا يستطيع أن يخبرني إياها "حرصاً على سلامتي الشخصية"، "فالتاكسي ما يخلاش من ميكروفون واقع تحت الكرسي أو جنب الدواسة حضرتك"..!

يبدو أن رأفت الهجان لا يزال مسيطراً على "الكنبة الخلفية" لكل تاكسي في القاهرة!


المشهد الثالث: باشاوات الملك يجلسون في المعادي..

بعد وصولي بساعات، تلقيت دعوة كريمة من صديقة عزيزة إلى ندوة عن مستقبل الاقتصاد المصري في ظل المؤشرات على قرب الانهيار الاقتصادي داخلياً وإقليمياً ودولياً..

عقدت الندوة في نادٍ اجتماعي راقٍ، يشبه نوادي اللوردات العريقة في العاصمة البريطانية والتي لا تسمح للنساء بدخولها، وفق تقاليد تعود إلى العصر الفيكتوري.

جلست في الصف الأخير من المقاعد المحاذية لسماعة كبيرة تنقل ما يقوله مسؤول كبير سابق في هيئة مالية "سيادية".

قال الرجل كلاماً مركباً مليئاً بالمصطلحات الإنجليزية المتخصصة، ثم عرج على السياسة وربطها بالاقتصاد عبر استخدام عبارات تحتمل أكثر من معنى، ثم أطنب في الحديث عن مستقبل "مظلم" عبر استخدام عبارات أكثر "التباساً"، ولم ينس أن يختم حديثه ببعض عبارات "الاستظراف" السمج!

لم أستطع أن أكمل معه أكثر من جملتين، وانشغلت في النظر حولي إلى الحاضرين. كلهم يشتركون في الانتماء إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، ومعظمهم يستخدم هواتفه في بث تغريدات تويترية عن الندوة.

تبادلت الحديث مع عددٍ منهم خارج القاعة، وكانوا جميعاً من رجال الأعمال الذين يمتلكون مصانع تضررت من الوضع الاقتصادي لمصر بعد خلع مبارك. كلهم استهلوا حديثهم معي بنفس الجملة! “الوضع هنا أصبح مستحيلاً، والحل الوحيد أمامي هو أن أنقل استثماراتي إلى خارج البلاد بسرعة وقبل أن تباغتني ثورة جديدة!”.

أما الجملة التالية فكانت تحمل هذا المعنى: “أرجو أن لا تفهم من كلامي أنني ضد الثورة! بل على العكس، كنت من ضمن الذين هبطوا إلى التحرير وطالبوا بخلع مبارك، ولكن ما جرى بعد ذلك من تناحر القوى السياسية وانهيار حركة البيع والشراء أدى إلى ما أعانيه حالياً من صعوبات، تجعل من الصعب البقاء في مصر. أشعر بالأسى لمن يعملون معي..”.

أما المشرفون على تنظيم هذه الندوة، وهم مجموعة من الليبراليين المتحمسين، فقد قالوا لي إن "السبيل الوحيد للتغيير الحقيقي في مصر وتحقيق الحرية الاقتصادية للأسواق لن يكون سوى بالعمل على الأرض. وأن هذه الندوة مثال على العمل المنظم على الأرض والخروج من الشرنقة النخبوية..”.

بعد الندوة جمعتنا طاولة عشاء تميزت بأطباق "الستيك المشوي"، فيما كانت القاعة المجاورة لقاعة العشاء، مكاناً لجلسة بين مجموعة من المسؤولين السابقين وروائي ثوري ورجال أعمال، يتراهنون فيما بينهم على نتيجة الحكم القضائي المنتظر حول تطبيق قانون العزل السياسي على المرشح الرئاسي الفريق أحمد شفيق.

بدت الجلسة شبيهة بجلسات الباشوات بين عامي ١٩٥٣ و١٩٥٦ والتي كانوا يحاولون فيها أن يتنبأوا بقرب انقضاض الامبراطورية البريطانية على مجموعة الضباط "المتهورين"، وإعادة النظام الملكي مرة أخرى..


المشهد الرابع: سهرة حتى الصباح مع صديقي رجل الأعمال الطيب..

يقترب عمره من الأربعين. ملامحه المصرية الأصيلة تحمل الكثير من سمات التسامح والأدب الجم. هو رجل أعمال يعمل في قطاع النسيج. كانت الحياة بالنسبة له أيسر كثيراً قبل سقوط نظام مبارك. بالرغم من ذلك انخرط في العديد من نشاطات المجتمع المدني من أجل إحداث تغييرٍ حقيقي في المجتمع.

كان من أوائل من هبطوا إلى التحرير في أيام الثورة الأولى. لم يأبه بتجارته التي توقفت أو بمتجره الذي احترق في مجمع تجاري تعرض للنهب والتخريب خلال الانفلات الأمني الذي صاحب تلك الأيام.

سهرنا معاً في أحد الكافيهات التي تكتظ بها أحياء المهندسين والزمالك والدقي، وتكتظ هي بدورها بأبناء الطبقة الوسطى الجديدة في المجتمع المصري.

حكى لي عن المخاوف الحقيقية التي يخشاها مجتمع رجال الأعمال من الاضطرابات التي قد تعقب الإعلان عن نتيجة الانتخابات الرئاسية، وعن حقيقة ما يواجهه هذا المجتمع من مشاكل مالية منذ خلع مبارك، وعن أن هذه المشاكل تهدد بشكل مباشر الاقتصاد في مصر، وستدفع بكبار رؤوس الأموال للهجرة من البلاد للحفاظ على ما تبقى من ثرواتها.

استمعت له بتركيز شديد وأدركت أن المشكلة التي يواجهها الاقتصاد المصري مركبة، وأعقد كثيراً مما يكتب عنها في الصحف. فالشريك التجاري الأكبر لمصر، وهو الاتحاد الاوروبي، يمر بأزمة اقتصادية عميقة بسبب عملته الموحدة اليورو، ما أثر بشكل مباشر على استيراده لمنتجات مصر الزراعية وعلى أرقام السائحين الوافدين إليها. فإذا أضفنا هذا العامل إلى العوامل الأخرى المتعلقة بعدم الاستقرار السياسي والأمني الذي تعانيه مصر، فإن الصورة تصبح أكثر قتامة من اللون الأسود!

سألني صديقي عن توقعاتي لمستقبل مصر، فأجبته أنني متفائل، لكني فشلت في أن أذكر له الأسباب التي تدعوني للتفاؤل!

الشيء الوحيد المؤكد أن الأمور كانت ستكون أسوأ لو استمر نظام مبارك في الحكم عبر سياساته التي كانت تدفع البلاد نحو الفوضى التي لا يمكن السيطرة عليها. فكل ما تواجهه البلاد منذ خلع مبارك، هي استحقاقات تأخر التعامل معها لفترة طويلة.