اعتادت أجهزة الإعلام المصرية الرسمية على ترديد أن مصر هي أقدم دولة في
التاريخ، بينما لم تذكر أن الدولة المصرية القديمة انهارت بعد الأسرة الثلاثين،
والتي تعتبر الأسرة المصرية الأخيرة في حكم هذا البلد حتى عام 1952.
وبالتالي حدث انقطاع في الدولة المصرية لحقب زمنية
طويلة، فيما كانت كل مشاريع إقامة دولة في هذه البقعة من الأرض مسخرة لخدمة
امبراطوريات أكبر، تأخذ من مصر مقاطعة لها، مثل الامبراطورية الفارسية،
والرومانية، والبيزنطية.
ومما لا يذكر أيضاً في الإعلام، أن الدولة المصرية
الحديثة أنشئت لخدمة الآلة الحربية لمحمد علي ممثلة في جيش إبراهيم باشا، والذي
كان الهدف الرئيس من فتوحاته في الشرق هو الوصول الى صيغة ينفرد بها محمد علي
وذريته بحكم مصر.
وأن هذه الدولة الحديثة هي التي أرسلت البعثات
العلمية للغرب في القرن التاسع عشر، ليعود المحظوظون من أبناء الفلاحين كأفندية،
فيختار منهم الوالي موظفين وضباطاً ولاحقاًًً إقطاعيين.
ومع تطور هذه النخبة تشكلت الدولة المصرية التي
جاءت على مقاس مصالحهم الاقتصادية. وقبل ذلك التطور وخلاله وحتى منتصف القرن
العشرين، كانت الغالبية العظمى من الشعب المصري خارج إطار الدولة المصرية التي
ركزت جهودها على خدمة العاصمة والمدن المركزية. (يمكن الرجوع لأرقام التوزيع
السكاني في مصر أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ومقارنتها بمثيلتها
من الأرقام التي جرى جمعها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي) .
وبالرغم من التباين الحاد في توجهات الأنظمة
السياسية منذ بداية دولة محمد علي وحتى الخامس والعشرين من يناير، فإن الدولة لم
تسقط، ولكنها انحسرت أحياناً وتمدت أحياناً أخرى، محافظةً على ضعفها وعدم قدرتها
على صياغة عقد اجتماعي جامع يضم أطيافاً أوسع من المصريين.
فقد ولدت دولة محمد علي وبها عيبين خطيرين استمرا
معها خلال قرنين من الزمان. الأول أنها جاءت ممثلة لشخص الحاكم وتوجهاته ولم تكن
ممثلة لطائفة "خدم الدولة" أو ما يعرف باسم Civil Servants وهم
من يقومون بتسيير الجهاز البيروقراطي للدولة ويحافظون على هياكلهم، بصرف النظر عن
التوجهات السياسية للنظام الحاكم. فالنظام الحاكم ينحصر دوره في رسم السياسات
العامة وتنفيذ أجندته الاقتصادية والاجتماعية، ولكنه وفقاً لهذا التعريف المعمول
به في الديمقراطيات الغربية، لا يتدخل في آلية عمل الدولة.
أما العيب الثاني فهو أن هذه الدولة أنشئت لخدمة
الآلة الحربية لجيش إبراهيم باشا، واستمرت على عهدها هذا حتى في الحقب التي تم
فيها تقليص هذه الآلة. بل أن الحاكم أصبح يستمد جزءاً كبيراً من شرعيته من انتمائه
لهذه الآلة الحربية.
أما من تحدثوا في أعقاب ثورة يناير 2011 عن مخطط
هدم الدولة، فهم لم يجانبهم الصواب كليةً! فهذا المخطط بدأ في السبعينيات وأشرف
على تنفيذه رئيس الدولة بنفسه، سعياً لبناء شرعية حكم جديدة يواجه بها خصومه
السياسيين، وخوفاً من صدامٍ محتمل مع آلته الحربية التي خرجت للتو من حرب 1973،
ولم تكن راضية عن التسويات السياسية التي أعقبتها.
أما وريث السادات، فقد سار على دربه وفضل أن يهدم
الدولة عبر الاعتماد على الأجهزة الأمنية بالكامل، بدايةً من تأمين محيط قصره
وانتهاءً بمفهوم التأمين الواسع الذي امتد للتزوير في الانتخابات النيابية
والمحلية وتعيين أساتذة الجامعة وموظفي الحكومة. وبالتالي تم القضاء على طبقة
"خدم الدولة" The Civil Servants وتحولوا الى "خدم
للنظام" Regime's Servants. ونتيجة لهذا لم يكن أحدهم ليجرؤ ويسأل عن حيثية السيد جمال مبارك، نجل
الرئيس، في التوجيه لدعم القرى الفقيرة، أو الوضع الدستوري والقانوني لقرينة
الرئيس السيدة سوزان، في إصدار قرارات تتعلق بالصحة والتعليم.
وفي الثامن والعشرين من يناير وتحديداً عصر هذا
اليوم، خرجت شهادة وفاة دولة محمد علي التي ولدت في الأول من مارس عام 1811 مع
مذبحة القلعة. لكن نظام مبارك استمر في الحكم، لأنه كان أقوى من الدولة. بل وأعاد
إنتاج نفسه عبر تحالف الشيء الوحيد الباقي من دولة محمد علي، وهو جيش إبراهيم
باشا، مع جماعة الاخوان المسلمين، الفصيل السياسي الأكثر تنظيماً على الأرض. أما
غالبية الشعب فظلت خارج هذا التحالف، وعنصراً ينظر إليه ككتلة انتخابية تمنح
تفويضاً لسياساتٍ تخدم طبقة الأفندية والباشوات ولا تخدم قاعدةً أوسع من العمال أو
الفلاحين أو أبناء القبائل في الشرق والغرب والجنوب.
هذه التدوينة هي جزأ من تدوينة نشرت تحت عنوان الدولة: هل حقاً كانت لدينا واحدة؟ الرئيس: هل يستحق كل هذه الضجة؟