Monday 2 July 2012

الجزء الأول: بلاد تحلق نحو الغيوم على ارتفاع منخفض



المشهد الأول: التحليق نحو سماء ملبدة بالغيوم!

(١٣ يونيو ٢٠١٢)

وصلت إلى القاهرة في الفجر قادماً من لندن عبر فرانكفورت. فوجئت أن الطائرة من فرانكفورت إلى القاهرة هي نفس الطراز المستخدم بين لندن وفرانكفورت. رغم أن الرحلة بين العاصمتين الأوروبيتين لا تزيد عن ساعتين، فيما الرحلة الأخرى نحو أربع ساعات.

أتذكر أنني سلكت نفس الطريق في يونيو ٢٠١٠ وكانت الطائرة، التابعة لنفس الشركة وهي لوفتهانزا، ذات حجم أكبر ومقاعد أكثر رحابة وشاشات تحمل لك أفلاماً كثيرة وأغان أكثر!

سألت المضيفة عن السبب وراء هذه الطائرة الصغيرة في رحلة دولية بين قارتين. كانت الإجابة أن حركة السفر إلى القاهرة انخفضت إلى المستوى الذي دفع الشركة الألمانية لاستخدام طائرات أصغر من أجل تفادي الخسائر.

رغم العدد المحدود للمقاعد في هذه الطائرة الصغيرة، إلا أن أغلبها كان خالياً. كان هذا مؤشراً أولياً على الغيوم التي يحلق نحوها الاقتصاد المصري الذي يعتمد في جزءٍ كبير منه على السياحة.

المشهد الثاني: الملفات السرية لسائق تاكسي أبيض بتكييف!

يلعب سائق التاكسي دوراً محورياً في الحياة السياسية المصرية! فهو الذي تجمع عليه جميع الفصائل السياسية في الاستشهاد بآرائه وتوجهاته وأحياناً معلوماته التي يدعي أنه حصل عليها من مصادر "كشفت له السر أثناء رحلة مثيرة إلى فيلا مريبة في المقطم".

رحلتي الأولى كانت مع سائق تاكسي حكى لي كواليس الأحكام القضائية التي حصل عليها مبارك وأعوانه. كما حكى لي أسرار وتفاصيل الحياة "الفارهة" التي يعيشها مبارك، والتي تتخطى تفاصيلها ما تورده إحدى الصحف اليومية الخاصة!

وعندما سألته عن مصدر معلوماته، أجابني بغموض رجل استخبارات عتيق، أن وظيفته الأساسية هي: السائق الخاص لأحد المسؤولين الكبار "السريين" في الدولة، والذين يعتمدون عليه في كل صغيرة وكبيرة. وبالطبع لم أسأله عن وظيفته "الثانوية" وهي قيادة سيارات الأجرة حتى لا أدفعه للحديث عن "مهمته السرية"!

ولم يفت السائق الذي أفنى زهرة حياته في العمليات السرية بين عواصم العالم، أن يعود بي إلى أرشيف تاريخه عندما قادته المقادير كي يكون سائقاً لكبار الرؤساء والملوك العرب، بمن فيهم الرئيس السابق نفسه. وأنه كان شاهداً على الكثير من الأسرار التي لا يستطيع أن يخبرني إياها "حرصاً على سلامتي الشخصية"، "فالتاكسي ما يخلاش من ميكروفون واقع تحت الكرسي أو جنب الدواسة حضرتك"..!

يبدو أن رأفت الهجان لا يزال مسيطراً على "الكنبة الخلفية" لكل تاكسي في القاهرة!


المشهد الثالث: باشاوات الملك يجلسون في المعادي..

بعد وصولي بساعات، تلقيت دعوة كريمة من صديقة عزيزة إلى ندوة عن مستقبل الاقتصاد المصري في ظل المؤشرات على قرب الانهيار الاقتصادي داخلياً وإقليمياً ودولياً..

عقدت الندوة في نادٍ اجتماعي راقٍ، يشبه نوادي اللوردات العريقة في العاصمة البريطانية والتي لا تسمح للنساء بدخولها، وفق تقاليد تعود إلى العصر الفيكتوري.

جلست في الصف الأخير من المقاعد المحاذية لسماعة كبيرة تنقل ما يقوله مسؤول كبير سابق في هيئة مالية "سيادية".

قال الرجل كلاماً مركباً مليئاً بالمصطلحات الإنجليزية المتخصصة، ثم عرج على السياسة وربطها بالاقتصاد عبر استخدام عبارات تحتمل أكثر من معنى، ثم أطنب في الحديث عن مستقبل "مظلم" عبر استخدام عبارات أكثر "التباساً"، ولم ينس أن يختم حديثه ببعض عبارات "الاستظراف" السمج!

لم أستطع أن أكمل معه أكثر من جملتين، وانشغلت في النظر حولي إلى الحاضرين. كلهم يشتركون في الانتماء إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، ومعظمهم يستخدم هواتفه في بث تغريدات تويترية عن الندوة.

تبادلت الحديث مع عددٍ منهم خارج القاعة، وكانوا جميعاً من رجال الأعمال الذين يمتلكون مصانع تضررت من الوضع الاقتصادي لمصر بعد خلع مبارك. كلهم استهلوا حديثهم معي بنفس الجملة! “الوضع هنا أصبح مستحيلاً، والحل الوحيد أمامي هو أن أنقل استثماراتي إلى خارج البلاد بسرعة وقبل أن تباغتني ثورة جديدة!”.

أما الجملة التالية فكانت تحمل هذا المعنى: “أرجو أن لا تفهم من كلامي أنني ضد الثورة! بل على العكس، كنت من ضمن الذين هبطوا إلى التحرير وطالبوا بخلع مبارك، ولكن ما جرى بعد ذلك من تناحر القوى السياسية وانهيار حركة البيع والشراء أدى إلى ما أعانيه حالياً من صعوبات، تجعل من الصعب البقاء في مصر. أشعر بالأسى لمن يعملون معي..”.

أما المشرفون على تنظيم هذه الندوة، وهم مجموعة من الليبراليين المتحمسين، فقد قالوا لي إن "السبيل الوحيد للتغيير الحقيقي في مصر وتحقيق الحرية الاقتصادية للأسواق لن يكون سوى بالعمل على الأرض. وأن هذه الندوة مثال على العمل المنظم على الأرض والخروج من الشرنقة النخبوية..”.

بعد الندوة جمعتنا طاولة عشاء تميزت بأطباق "الستيك المشوي"، فيما كانت القاعة المجاورة لقاعة العشاء، مكاناً لجلسة بين مجموعة من المسؤولين السابقين وروائي ثوري ورجال أعمال، يتراهنون فيما بينهم على نتيجة الحكم القضائي المنتظر حول تطبيق قانون العزل السياسي على المرشح الرئاسي الفريق أحمد شفيق.

بدت الجلسة شبيهة بجلسات الباشوات بين عامي ١٩٥٣ و١٩٥٦ والتي كانوا يحاولون فيها أن يتنبأوا بقرب انقضاض الامبراطورية البريطانية على مجموعة الضباط "المتهورين"، وإعادة النظام الملكي مرة أخرى..


المشهد الرابع: سهرة حتى الصباح مع صديقي رجل الأعمال الطيب..

يقترب عمره من الأربعين. ملامحه المصرية الأصيلة تحمل الكثير من سمات التسامح والأدب الجم. هو رجل أعمال يعمل في قطاع النسيج. كانت الحياة بالنسبة له أيسر كثيراً قبل سقوط نظام مبارك. بالرغم من ذلك انخرط في العديد من نشاطات المجتمع المدني من أجل إحداث تغييرٍ حقيقي في المجتمع.

كان من أوائل من هبطوا إلى التحرير في أيام الثورة الأولى. لم يأبه بتجارته التي توقفت أو بمتجره الذي احترق في مجمع تجاري تعرض للنهب والتخريب خلال الانفلات الأمني الذي صاحب تلك الأيام.

سهرنا معاً في أحد الكافيهات التي تكتظ بها أحياء المهندسين والزمالك والدقي، وتكتظ هي بدورها بأبناء الطبقة الوسطى الجديدة في المجتمع المصري.

حكى لي عن المخاوف الحقيقية التي يخشاها مجتمع رجال الأعمال من الاضطرابات التي قد تعقب الإعلان عن نتيجة الانتخابات الرئاسية، وعن حقيقة ما يواجهه هذا المجتمع من مشاكل مالية منذ خلع مبارك، وعن أن هذه المشاكل تهدد بشكل مباشر الاقتصاد في مصر، وستدفع بكبار رؤوس الأموال للهجرة من البلاد للحفاظ على ما تبقى من ثرواتها.

استمعت له بتركيز شديد وأدركت أن المشكلة التي يواجهها الاقتصاد المصري مركبة، وأعقد كثيراً مما يكتب عنها في الصحف. فالشريك التجاري الأكبر لمصر، وهو الاتحاد الاوروبي، يمر بأزمة اقتصادية عميقة بسبب عملته الموحدة اليورو، ما أثر بشكل مباشر على استيراده لمنتجات مصر الزراعية وعلى أرقام السائحين الوافدين إليها. فإذا أضفنا هذا العامل إلى العوامل الأخرى المتعلقة بعدم الاستقرار السياسي والأمني الذي تعانيه مصر، فإن الصورة تصبح أكثر قتامة من اللون الأسود!

سألني صديقي عن توقعاتي لمستقبل مصر، فأجبته أنني متفائل، لكني فشلت في أن أذكر له الأسباب التي تدعوني للتفاؤل!

الشيء الوحيد المؤكد أن الأمور كانت ستكون أسوأ لو استمر نظام مبارك في الحكم عبر سياساته التي كانت تدفع البلاد نحو الفوضى التي لا يمكن السيطرة عليها. فكل ما تواجهه البلاد منذ خلع مبارك، هي استحقاقات تأخر التعامل معها لفترة طويلة.


No comments:

Post a Comment