Wednesday, 27 December 2023

حرب أكتوبر: خمسون عامًا على انتصار عبد الودود

الرئيس السادات يتفقد الجبهة قبل الحرب وخلفه الفريق محمد صادق والفريق سعد الدين الشاذلي

خمسون عاماً مرت على اليوم الذي عبر فيه ثلاثة وثلاثين ألف جندي مصري من الضفة الغربية لقناة السويس إلى الضفة الشرقية للقناة، حيث خط "بارليف" الذي كان يعده الإسرائيليون خط دفاعهم الأول في شبه جزيرة سيناء. 


خمسون عاماً من الاحتفالات السنوية بانتصار أكتوبر والتي اعتدنا فيها على مشاهدة لقطات من الغارات الجوية التي نفذتها المقاتلات والقاذفات المصرية على أهداف إسرائيلية في سيناء، متبوعةً بمشاهد لمئات قطع المدفعية وهي تمطر سيناء بآلاف قذائف المدفعية، ثم مشاهد عبور الموجات الأولى من الجنود المصريين في القوارب المطاطية، ليتم اختتام هذه الملحمة البصرية بمشاهد عبور الدبابات والمدرعات المصرية لسيناء فوق الجسور العائمة الممتدة بين ضفتي القناة.


خلال سنوات حكم مبارك كان الحديث عن حرب أكتوبر أمراً "سيادياً"! لم يكن من المستساغ حكومياً أن يجري نقاشٌ جاد بشأن نتيجة الحرب النهائية بعد وقف إطلاق النار في ٢٨ أكتوبر خلال مباحثات الكيلو ١٠١ على طريق القاهرة السويس، أو ما جرى بين الرئيس السادات ووزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر من اتفاقات في أسوان في يناير ١٩٧٤. 


لم يكن الإعلام المصري يتحدث عن ثغرة الدفرسوار إلا بشكلٍ مقتضب، كما جرى مثلاً في حديث لمبارك مع عماد الدين أديب داخل غرفة عمليات القوات الجوية قبل انتخابات ٢٠٠٥ الرئاسية، أو كما جرى في حوار أجراه المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، وزير الدفاع الأسبق وقائد مدفعية الجيش الثاني الميداني خلال حرب أكتوبر، مع مجموعة من الصحفيين عام ١٩٨٢.


في مرحلة ما بعد ٢٠١١ بدأ نقاش على وسائل التواصل الاجتماعي حول حرب أكتوبر ونتيجتها النهائية، خاصةً في ضوء محاولات إسرائيلية مستمرة لإظهارها كنصر عسكري لهم "لأنهم نجحوا في صد هجومين متزامنين على إسرائيل"، أو لأنهم "استطاعوا أن يحاصروا الجيش الثالث بعد عبورهم لغرب القناة"، أو لأنهم استعادوا تقريباً كل مناطق هضبة الجولان التي حررتها القوات السورية في الأيام الأولى من الحرب. 


انتصار أكتوبر وشرعية النظام


تعتبر السردية المصرية الرسمية والشعبية حرب أكتوبر انتصاراً كاملاً وشاملاً لمصر ومشهده الأعظم هو يوم العبور والسيطرة على خط بارليف. وتتجاهل ما جرى على الجبهة السورية، مثلما تتجاهل ما حدث بعد ١٤ أكتوبر وثغرة الدفرسوار وحصار الجيش الثالث. 


وخلال العقود الماضية، وتحديداً خلال سنوات حكم مبارك، تجاهلت السردية الرسمية قبول السادات بوقف إطلاق النار في ٢١ أكتوبر بعد أن أيقن أنه بات يحارب الولايات المتحدة وليس إسرائيل، وذلك في أعقاب الجسر الجوي الذي أقامته إدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيسكون من أجل دعم القوات الإسرائيلية على الجبهتين المصرية والسورية. 


كما تجاهلت السردية الرسمية تفاصيل مراحل التفاوض التي جرت بين السادات وإسرائيل في أعقاب الحرب من أجل استعادة باقي أراضي سيناء بالتفاوض والتي ظلت تحت الاحتلال الإسرائيلي، حيث ضمت ١٢ مستوطنة ومطارين. وبالتالي لم يتم تحرير سيناء بالكامل خلال العمليات العسكرية في حرب ١٩٧٣، كما بات شائعاً في السردية الشعبية خلال سنوات حكم مبارك.


وبالطبع ركزت السردية الرسمية خلال سنوات مبارك على دور سلاح الطيران في افتتاح المعركة، واعتبرته "أول ضربة جوية فتحت باب الحرية". وفي الأوبريتات التي كانت تقام كل عام في ذكرى الحرب، كان قائد الطيران السابق والرئيس الحالي، آنذاك، حسني مبارك، هو صاحب الضربة الجوية التي ضمنت النصر لمصر.


اعتبر السادات حرب أكتوبر تجديداً لشرعية النظام بعد هزيمته في حرب ١٩٦٧. تحدث السادات في أعقاب الحرب عن "شرعية أكتوبر"، واعتبر أنه حان الوقت لجيل أكتوبر كي يستلم الراية من جيله. لكن في السنوات الأخيرة من حكمه، عاد السادات ودافع عن شرعية ثورة يوليو واعتبر التشكيك فيها تشكيكاً في شرعيته كرئيس، وهو ما ذكره في خطابه الأخير في مجلس الشعب في سبتمبر ١٩٨١.


لكن مبارك أتى للحكم وفي ذهنه شرعية حرب أكتوبر فقط. كان احتفاله بالثالث والعشرين من يوليو جزءاً من واجباته كرئيس لنظام جمهوري أنتجته ثورة يوليو ١٩٥٢. بينما حرص على أن يكون احتفاله بالسادس من أكتوبر احتفالاً شخصياً لإدراكه أن هذه الحرب هي التي أنتجت شرعية نظامه السياسي. ولهذا تم ربط إنجازه كقائد للطيران في الحرب بكل إنجازاته كرئيس. خططه للتنمية أو الاستثمار أصبحت عبوراً ثانياً بعد العبور الأول! رفع سقف الحريات في الصحافة (المسيطر عليها أمنياً) أصبح رمزاً لمعنى الحرية التي فتحت بابها الضربة الجوية.


كما تم التحكم في أسماء الأشخاص الذين سوف ينسب إليهم النصر. فخلال سنوات السادات ومبارك، خلت قائمة "صناع النصر" من اسم رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي. بينما حصل السادات ومبارك على النصيب الأكبر من الاحتفاء. وفي المرتبة الثانية جاء اسم القائد العام ووزير الحربية خلال الحرب المشير أحمد اسماعيل، ورئيس هيئة العمليات المشير محمد عبد الغني الجمسي، ومعه قادة الأفرع الرئيسية الآخرين مثل قائد الدفاع الجوي محمد علي فهمي.


رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة خلال الحرب اللواء محمد عبد الغني الجمسي


عالم ما بعد أكتوبر


لم يقتصر دور حرب أكتوبر على منح الشرعية لنظام سياسي بقيادة مبارك فحسب. وإنما صنعت هذه الحرب عالماً جديداً من التفاعلات في إقليم الشرق الأوسط. فبسبب القيود التي وضعتها الدول العربية النفطية على إنتاج النفط وبيعه خلال الحرب، ارتفعت أسعار النفط في العالم، وقفزت إلى مستوى سعري جديد بعد الحرب لم يكن متحققاً قبلها.


ارتفاع الأرصدة المالية للدول العربية النفطية بعد حرب أكتوبر أدى إلى انتقال جزء كبير من الثقل السياسي إلى عواصمها، وبدأت بعض الدول العربية النفطية في عقد تحالفات أعمق مع الدول الغربية أو في دعم حركات وجماعات حول العالم لتحقيق رؤاها السياسية.


كما مهدت الحرب لعقد اتفاق للسلام بين مصر وإسرائيل، وهو الأمر الذي تعود محاولات عقده إلى بداية الخمسينيات، عندما أرسلت إسرائيل عدة رسائل إلى عبد الناصر من أجل الوصول إلى تفاهم بشأن السلام. أولى هذه الرسائل كانت من بن غوريون إلى عبد الناصر وحملها النائب في مجلس العموم البريطاني ريتشارد جروسمان. رفض عبد الناصر الرسائل الإسرائيلية وقال لحامليها من المسؤولين البريطانيين والأمريكيين أن الأولوية بالنسبة له هو جلاء القوات البريطانية عن مصر. 


كما جرت محاولة أخرى عبر العالم اليهودي ألبرت أينشتاين، الذي تواصل مع عضو الوفد المصري لدى الأمم المتحدة محمود عزمي، ومن خلاله التقى أينشتاين محمد حسنين هيكل في ديسمبر ١٩٥٢، حيث طلب منه إخطار عبد الناصر برغبته في العمل كوسيط لعملية السلام بين مصر وإسرائيل. قام هيكل بتسليم الرسالة إلى عبد الناصر الذي لم يقبل مبادرة أينشتاين. لكن الأخير لم يستسلم وحاول أن ينقل له نفس الرسالة عبر رئيس وزراء الهند، جواهر لال نهرو، وهي المحاولة التي لم تنل نصيباً من النجاح.


رغم ذلك تواصل الدبلوماسي المصري عبد الرحمن صادق عام ١٩٥٣ مع الملحق العسكري في السفارة الإسرائيلية في باريس. بعض المصادر أشارت إلى أن المحاولة كانت تهدف إلى التوصل لاتفاق سلام بين مصر وإسرائيل. لكن مصادر إسرائيلية قالت إن المباحثات كان محاولة لمنع إعدام المتورطين في عملية "سوزانا" والتي تضمنت قيام يهود مصريين بتنفيذ عمليات إرهابية وتخريبية شملت محاولات تفجير مصالح بريطانية وأمريكية ودور للسينما من أجل الإضرار بالعلاقات الجيدة بين القاهرة وواشنطن ولندن آنذاك، وعرقلة جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس.


حتى بعد حرب ١٩٦٧، عرض موشيه ديان اتفاقاً للسلام مع مصر مقابل انسحاب إسرائيل من سيناء. حملت العرض فدوى طوقان، والتي كتبت في مذكراتها أنها حملت عرضاً للسلام من ديان إلى عبد الناصر، حيث قابلت ديان في القدس في أكتوبر ١٩٦٨، ثم زارت مصر بعدها وقابلت جيهان السادات في منزل الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين، وعبر أنور السادات، التقت فدوى طوقان عبد الناصر ونقلت إليه رسالة ديان والتي رفضها.


تم ذكر ذلك مبادرة ديان في كتاب أحمد بهاء الدين "محاوراتي مع السادات" وفي مذكرات فدوى طوقان "الرحلة الأصعب". كما ذكر المبادرة موشيه ديان في لقائه مع السادات في اليوم العاشر من مفاوضات منتجع كامب ديفيد عام ١٩٧٨. وفق كتاب لورانس رايت "١٣ يوماً في سبتمبر"، هاجم السادات تعنت الإسرائيليين في تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في سيناء. كان ديان قد وعد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر قبل اللقاء بأنه لن يتحدث مع السادات في تفاصيل المفاوضات كي لا ينسحب السادات من كامب ديفيد. لكن ديان نسيَّ وعده وذكر السادات برفض عبد الناصر لعرض إسرائيل بإعادة سيناء بعد حرب ١٩٦٧ مقابل السلام، وقال "ماذا كان ردكم؟ ما أخذ بالقوة سوف يسترد بالقوة. ماذا كنتم تعتقدون أننا فاعلون؟ أن نجلس مكتوفي الأيدي بينما تعلنون أنكم غير مستعدين للتصالح مع وجود إسرائيل؟".


بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، كان السادات قد استطاع أن يمهد للرأي العام في الداخل خطواته نحو عقد اتفاق للسلام مع إسرائيل. فالضغوط الشعبية التي كانت قائمة قبل ١٩٧٣ بضرورة القيام بعمل عسكري لتحرير سيناء، خفت كثيراً. والعلاقة مع إدارة نيكسون وبعدها إدارة فورد من خلال هنري كيسنجر، كانت قد توطدت. 


ومن خلال الزخم الذي حصل عليه السادات في أعقاب حرب أكتوبر بفضل جهده البارع في تصوير نتيجة الحرب لجمهور خطاباته بأنها نصرٌ حاسم (مثل خطاب مجلس الشعب يوم ١٦ أكتوبر ١٩٧٣ وجملته الشهيرة "الآن أصبح للوطن درعٌ وسيف")، استطاع أن يبرر مبادرته بزيارة القدس عام ١٩٧٧، ليصبح أول زعيم مصري وعربي يلتقي في العلن بزعماء إسرائيل وجهاً لوجه، "وفي الكنيست ذاته".


بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في عام ١٩٧٩، والتي كانت إحدى نتائج عالم ما بعد حرب ١٩٧٣، انسحبت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، وبات طريق إسرائيل نحو مغامرات عسكرية في العالم العربي خالياً من أي احتمالات لتدخل عسكري مصري. حدث ذلك خلال غزو لبنان في ١٩٨٢ أو الغارة الإسرائيلية على تونس عام ١٩٨٥ أو العمليات العسكرية في لبنان والأراضي الفلسطينية التي تكررت خلال العقود التالية على التوصل لسلام مع مصر.


أصبح الحفاظ على السلام مع إسرائيل ركيزة أساسية في التحالف المصري مع الولايات المتحدة. كما أصبحت كلمة "السلام" ودلالتها الوحيدة بأنها مع إسرائيل تحديداً، جزءاً من الخطاب الرسمي المصري منذ ١٩٧٧. ولم يكن هذا ليتحقق سوى بعد حرب ١٩٧٣.


بعد خمسين عاماً على حرب أكتوبر ١٩٧٣، تبدو عملية تلخيصها في كلمات مثل النصر الكامل أو النصر المنقوص، تبسيطاً مُخلاً في حق حدث كبير ومركب ومتعدد الجبهات وقابل للتأويل من أطرافٍ متعددة. يمكن القول إن الحرب جعلت مصر الرابح الأكبر عندما نجحت في استعادة سيناء بدون مستوطنات إسرائيلية. لكن الذي بقيَّ من الحرب في ذكراها الخمسين أنها كانت انتصاراً كاملاً لعبد الودود، الجندي المصري الذي ظل في الجيش بعد حرب ١٩٦٧ وشارك في حرب الاستنزاف لثلاث سنوات ثم في التدريب لثلاث سنوات أخرى، ثم حارب ٢٣ يوماً في أكتوبر ١٩٧٣، وحوصر مع الجيش الثالث لثلاثة أشهر أخرى!


عبد الودود الذي كتب له أحمد فؤاد نجم رسالة يقول فيها:


واه يا عبد الودود


عقولَّك وانت خابر.. كل القضية عاد


ولسا دمّ خيَّك.. مشرباش التراب


حِسّك عينك تزحزح.. يدّك عن الزناد


خليك يا عبدو راصد.. لساعة الحساب


آن الأوان يا ولدي.. ما عاد إلا المعاد


تنفضّ الشركة واصل.. وينزاحوا الكلاب


إن كنت وادّ أبوك.. تجيبلي ثار أخوك


والأهل يبلّغوك.. جميعاً السلام



*تم نشر المقال في موقع المنصة:  الأحد 8 أكتوبر 2023 






No comments:

Post a Comment