لي صديق موسوعي الثقافة بشكل مذهل.. هو للدقة فنان فيه الكثير من الفلسفة وفيلسوف فيه الكثير من الفن ومتبحر عظيم في جميع الفلسفات الحديثة وخصوصا ما انعكس منها في المسرح والشعر والسينما والأوبرا والموسيقى الكلاسيكية!
هذا الصديق هادئ الطبع بشكل غير متصور. صوته منخفض للغاية، حتى أنك تجتهد كي تستمع الى ما يقول! وهو متواضع بشكل أسطوري حتى أنك قد لا تراه أو تقع عينك عليه إذا تصادف ومررت من جانبه.
في أحد الصباحات التي انهيت فيها شيفتا بينما هو يبدأ آخر، ألقيت عليه السلام والتحية وسريعا بدأنا نتحدث عن العصر الذهبي للسينما السوفيتية وقلت له بأنني أعتقد أن أندريه تاركوفسكي لم يكن مخرجا بل فيلسوفا حقيقيا من وزن الفلاسفة الكبار كهيجل ونيتشة، وأنهم إذا كانوا قد اتخذوا من الكلمات أداة لنقل فلسفتهم فإن تاركوفسكي اعتبر الصورة هي أداته في نقل أفكاره الفلسفية..
سرح صديقي فجأة وقال لي: أنا تاركوفسكي.. مأساة تاركوفسكي هي مأساتي..
أنا: مش فاهم!
صديقي: تاركوفسكي عندما خرج من الاتحاد السوفيتي بعد سنوات من المعاناة مع الرقابة والقمع الفكري، ذهب الى ايطاليا حيث احتفوا به بشدة ولكنه بعد فيلمين فقط مات! أنا أيضا منذ أن تركت العراق، وأنا ميت يسير على قدمين!
حاولت أن أغير الموضوع وأقول إن يوسف شاهين كان له حسا فلسفيا في بعض أفلامه..
صديقي: يوسف شاهين كان صديقا عزيزا.. لي حوارات مطولة معه عن أفلامه وأعماله.. حتى أنه تبناني وعرض علي الخروج من العراق ودراسة السينما، ولكن كان علي أن أنتهي أولا من الخدمة العسكرية.. في إحدى زيارته الى بغداد أخبرني بأنه بعلاقاته مع الفرنسيين حجز لي منحة لدراسة السينما في الاكاديمية الفرنسية للفنون.. في هذا الوقت كنت أراسل مجلة عربية تصدر في باريس، وأرسلوا لي عقدا كي التحق بهم هناك.. كانت لدي وظيفة تنتظري ومنحة من يوسف شاهين لدراسة السينما في فرنسا.. لكن كان علي أن أقبل التكليف الحكومي بوظيفة رسمية ثم أقدم استقالتي منها في نفس اليوم استعدادا للسفر..
سكت صديقي وبدأت عيناه تدمعان ثم رأيت دمعة تنزل بسرعة من عينه اليمنى وهو محدق في الفراغ وكأني لست موجودا، وكأنه يستعيد وقائع هذه الأيام مشهدا مشهد..!
أنا: وايه اللي حصل؟
صديقي: لا شيء! في اليوم الذي كنت فيه في الطريق الى المطار للسفر، لبست الخوذة!
أنا: خوذة ايه؟
صديقي: خوذة الحرب! لقد غزا صدام الكويت واستدعوا الاحتياط وأنا منهم..
خجلت من دموع صديقي وقررت ألا أعلق عليها وأقنعه بأن يكتب حياته كسيناريو فيلم.. قلت له: لازم تكتب حياتك.. دي دراما..
صديقي: لا لن أكتبها ولن أكتب.. منذ أن تركت العراق وأنا أخاف من الورقة البيضاء وأهرب منها.. لي كتاب عن السينما نشر في الثمانينات، وجدت صديقا لي يريني طبعة جديدة منه صدرت في الأردن دون علمي.. لم أغضب ولم أفرح ولم أهتم! لقد مات بالنسبة لي كل شيء تركته في بغداد.. لم يبق لي سوى أن استمع الى تشايكوفسكي وأحرر خبرا عن زلزال في جواتيمالا!
ملحوظة: عمل صديقي مراسلا في عراق ما بعد صدام، ولكن ميليشيات القتل اغتالت عددا من أفراد أسرته وقررت أن يكون هو التالي.. هرب من العراق وعمل مراسلا في السودان ثم صحفيا في لندن.. ولا تزال روحه عالقة في ركن ما في سوق المتنبي للكتب في بغداد!
ملحوظة أخرى: على قبر تاركوفسكي في باريس قطعة رخام مكتوب عليها: الى الرجل الذي رأى الملاك!
مأساه صديقك فيها من مأساه ابي بعض التشابه فقد ترك العراق أيضاً
ReplyDeleteلكن ظلت روحه عالقه في الاعظميه وعلي نخل بساتين جدي
التي استولي عليها صدام ثم الأمريكان
هذا البلد به من الشغف ما يجعل كل من يغادره يفقدجزء من
روحه هناك.
مدونه هائله ولغه جميله :)
انا افتقد جزءا من روحي ولا أعلم أين يعلق
ReplyDeleteتدوينة تجدد الأسى على الحزء الذي لم اعرفه يوما ولكني افتقده
التعليق غالبا هيخونني لان الاحساس الغالب هو حزن مع تقدير للتدوينه الرائعه ..
ReplyDelete