Saturday, 10 September 2011

اقتحام سفارة، حصار وزارة، وليلة البحث عن قيصر

التاسع من سبتمبر عام ألفين وأحد عشر.. بينما جميع الأعين مصوبة باتجاه نيويورك وواشنطن لرؤية كيف ستتذكر الولايات المتحدة الذكرى العاشرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر بعد يومين، إذ بالقاهرة تقرر أن بوصلة الشبكات الاخبارية يجب أن تنتقل إليها وتحديدا في موقعين: الأول مقر وزارة الداخلية المصرية، والثاني مقر السفارة الاسرائيلية في الجيزة.



حصار وزارة:

لا يمكن النظر الى ما حصل من حصار لوزارة الداخلية من قبل متظاهرين غاضبين دون النظر الى ما جرى قبل ذلك بيومين عندما اندلعت اشتباكات عنيفة بين أنصار فريق الأهلي المصري (التراس الأهلي) وبين رجال الشرطة والأمن المركزي داخل وحول استاد القاهرة.

كان من الواضح أن وزارة الداخلية لم تستوعب بعد أن ما كان قائما قبل الخامس والعشرين من يناير في مصر لم يعد له وجود الآن، وأن الصلاحيات السلطانية الممنوحة لهم لا يمكن القبول بها من قبل المجتمع، حتى وإن تم اللعب بورقة الاستقرار الأمني.

وتبدو المشكلة في أن القائمين على تسيير الأمور في مصر فشلوا في التوصل الى صيغة جديدة لمفهوم الأمن في مصر. الأمن الذي يحمي الناس ومصالحهم لا أن يستعبدهم ويستغل ظروفا، هو يعلم قبل غيره، أنها طارئة، حتى وإن طالت.

لذا فإن الصدام مع التراس الأهلي كشف عن أن الشرطة في مصر تتعامل مع الغاضبين منها على أنهم "خصوم يجب القضاء على شوكتهم" لا مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات وفق القانون والاعلان الدستوري المعمول به في البلاد. ولم تدرك الشرطة أيضا أنها يجب أن تكون كأي جهاز شرطة في العالم، واقفة على مسافة متساوية من الجميع، وغير متورطة في أي خصومات أو عداوات مع أي فئة في المجتمع.

التراس الأهلي، والذي يمثل جمهورية لها سيادة وولاء اسمها "جمهورية النادي الأهلي"، تعامل مع الشرطة بروح انتقامية، واستطاع أن يكشف عن تنظيم وقدرة على الحشد تثير الدهشة، وتجعل الذاكرة تعود الى الزمن الذي قامت فيه أجهزة الدولة بتشجيع الولاء للنوادي الكروية كبديل عن الولاء للجماعات الاسلامية في ثمانينات القرن الماضي.

كانت المؤشرات كلها تشير الى صدام قادم في 9/9 مع الشرطة وربما حصار لمقر وزارة الداخلية، واختار القائمون على تسيير الأمور في مصر أن يتجنبوا الصدام، لا عن حكمة هبطت عليهم فجأة من السماء، وإنما لأن المطلوب كان امتصاص أي رد فعل غاضب على أحداث استاد القاهرة، ثم استخدام رد الفعل هذا للعودة الى المفهوم الأمني الذي كان سائدا قبل الخامس والعشرين من يناير.

حصار سفارة:

توجهت حشود غاضبة من ميدان التحرير الى مقر السفارة الاسرائيلية في الجيزة وعبرت عن غضبها بأن دمرت السور الذي بني حديثا حول المبنى الذي تقطنه السفارة من أجل توفير حماية إضافية لها.

كان واضحا أن المجلس العسكري والحكومة فشلوا في احتواء الغضب الشعبي من واقعة مقتل ستة جنود مصريين بالقرب من الحدود الدولية بين مصر وإسرائيل.

بل زاد من الغضب الشعبي ما بدا من ارتباك فاضح في اتخاذ موقف واضح يعبر عن الغضب الرسمي من واقعة مقتل الجنود. فبينما بدا الاسرائيليون يحاولون امتصاص غضب رسمي نقله قرار سحب السفير المصري، إذ بالحكومة المصرية ترفع عنهم الحرج وتتراجع عن القرار وتصفه "بمسودة تم تسريبها للإعلام قبل أن يتم اتخاذ قرار". هي حكومة إذن لا تصلح لقيادة جمهورية موز في أمريكا اللاتينية! حكومة بدت في أقل من عدة ساعات أنها لا تستطيع أن تتخذ قرارا وأنها باعترافها مخترقة من وسائل إعلام قادرة على تسريب "مسودات قراراتها"..!

هذا الارتباك أدى الى زيادة الغضب الشعبي الذي لم يجد أمامه سوى التوجه نحو السفارة الاسرائيلية وهدم سور بدا وكأنه "عائق مائي وترابي آخر" يجب عبوره لرفع العلم على "البلكونة" الأخرى!

لكن الوضع تطور ووصل الى اقتحام شقة تابعة للسفارة، تستخدم كأرشيف، ورمي مستندات خاصة بالسفارة في سماء القاهرة، في مشهد بدا أكثر جموحا من خيال أي سينمائي يريد أن يصور الحالة الواقعية للسلام بين مصر وإسرائيل.

الاطراف الرئيسية المشتركة في المسؤولية/التعامل مع الأزمة، كشفت عن أن اقتحام الشقة التابعة للسفارة وما رافق ذلك من أحداث عنف ماراثونية في الشوارع المحيطة بها وأمام مديرية أمن الجيزة، يضر بمسيرة الثورة في مصر ويؤخر أي انتقال مدني للسلطة في مصر.

من يقول غير ذلك هو على الأرجح مازال تحت تأثير "قدر كبير من النشوة" سببه مشاهد عبرت عن المزاج العام لأغلب المصريين من فكرة السلام مع إسرائيل.

لكن من يتأمل في وقائع ما جرى تلك الليلة يجد أن ما حدث يبدو مريبا في توقيته وفي ترتيبه.



الأطراف المشاركة في المسؤولية/التعامل مع الأزمة:

المجلس العسكري والحكومة: من وقائع تلك الليلة فإنه من الواضح أن الأوامر الصادرة للجنود المكلفين بحماية المبنى الموجود به السفارة لم تتضمن أي تعليمات بالتعامل الحازم أو الوقائي مع المحتجين. بل تم ترك المحتجين يهدمون السور المحيط بالمبنى، وهو ما يعبر عن الغضب الشعبي من موقف المجلس من واقعة قتل الجنود المصريين، ومن الرفض الشعبي للعلاقات مع إسرائيل.

لكن الأمور تطورت عندما انسحبت قوات الأمن من أمام مدخل المبنى، وهو ما بدا مريبا لأحد شهود العيان والناشطين، عبد الله شلبي، في شهادته على الأحداث لقناة بي بي سي عربي في موجز أخبار الرابعة والنصف فجرا بتوقيت لندن.

ثم تطورت الأمور أكثر وتم اقتحام الشقة التابعة للسفارة وإلقاء أوراق لا تحمل أي أهمية معلوماتية. أوراق مثل طلب فيزا لزيارة إسرائيل، طلب هبوط طائرة فيها مسؤولين عسكريين إسرائيليين، طلب ترخيص حمل سلاح، وطلبات أخرى لا تكشف سرا أو تفضح اتفاقا!

وما تم لاحقا من المجلس/الحكومة كشف أن هذه هي اللحظة التي ينتظرها دعاة الحلول الأمنية لا الحلول السياسية وبدا ذلك في تفعيل كل بنود قانون الطوارئ وتبرير المحاكمات العسكرية في وقت كانت الحملة فيه قد تصاعدت على مثل هذا النوع من المحاكمات التي تتناقض مع حقوق المواطنين في محاسبتهم أمام قاضيهم الطبيعي.

ومن اللافت أن الارتباك عاد الى القابضين على مفاتيح السلطة في مصر عندما قالت الأهرام في بوابتها الالكترونية فجر يوم العاشر من سبتمبر أن مصادر مطلعة، دون أن تسميها، قد أخبرتها باعتزام عصام شرف تقديم استقالة حكومته، ليعود المجلس ويرفض الاستقالة وفق وسائل الاعلام التي تابعت لعبة البنج بونج المتكررة بين المجلس والحكومة!

قوى الثورة: على الفور سارعت 6 أبريل وصفحة كلنا خالد سعيد بإدانة الاقتحام واعتبر شادي الغزالي حرب في تصريحات تلفزيونية على برنامج بانوراما الاخباري على قناة العربية أن الاقتحام هو مؤامرة من المجلس لعرقلة مسيرة الثورة وتأخير انتقال السلطة الى المدنيين. وكانت 6 أبريل قد اتهمت قوى إسلامية بأنها وراء الاقتحام فيما اتهم شادي الغزالي حرب مندسين تابعين للامن.

وليلة اقتحام الشقة التابعة للسفارة وفي الساعات اللاحقة قام بعض الثوار على تويتر بمهاجمة من أدانوا الاقتحام ووصل الأمر الى حد اتهامهم بأنهم خرجوا عن خط الثورة وأنهم أصبحوا عبئا عليها.

وقبل ذلك كان قد تم شن هجوم عنيف في تويتر على الكاتب والسيناريست بلال فضل لأنه طالب من يحاصرون وزارة الداخلية بالكف عن "الاعتداء اللفظي على أمهات ضباط وجنود الأمن" احتراما "لرقي الثورة وسلميتها ورسالتها". وبدا أن السيادة داخل تلك القوى التي تقول إنها تمثل القلب الحقيقي للثورة، هي للصوت العالي لا المنطق أو العقل أو احترام "الرسالة الحضارية" للثورة المصرية.

وبدلا من النظر جنوبا الى ثورة اليمن، حيث الحكمة يمانية، والى تمسك ثوارها "بسلميتها" رغم الانتشار الكثيف للسلاح هناك، حاول ثوار الصوت العالي النظر غربا نحو ليبيا حيث السلاح والمواجهات الدموية هي التي حسمت مسار الثورة هناك. وكالعادة تم الاقتداء بثورة ليبيا المسلحة دون التمعن في خصوصية الوضع الليبي واختلافه كلية عن الوضع في مصر أو في تونس.

إسرائيل: تعتبر الكلمة التي ألقاها رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو كاشفة لكيف تعاملت إسرائيل مع الأزمة، بل واستفادت منها.

فقد شكر نتنياهو إدارة الرئيس الأمريكي على تدخلها الفعال من أجل "إنقاذ طاقم السفارة من عواقب وخيمة". ثم شكر "القيادة المصرية على تدخل قواتها الخاصة لإنقاذ طاقم السفارة". ثم شدد على أهمية السلام مع مصر ورغبة إسرائيل في الحفاظ على اتفاقية السلام "لأنها تخدم الشعبين". دون أن ينسى أن يشير الى أن "المنطقة تشهد زلزالا سياسيا عنيفا لم تشهده منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، وأن إسرائيل تريد وقوف العالم معها خلال هذا الزلزال".

ولم ينس نتنياهو أن يروي مكالمة قائد الأمن الاسرائيلي في السفارة والذي قال لرؤسائه في تل أبيب: "إذا قتلت انقلوا لعائلتي الخبر وجها لوجه لا عبر الهاتف". هنا يقول نتنياهو أنه أخذ السماعة وقال لقائد الأمن: "لا تقلق.. سنفعل كل ما بوسعنا كي نخلصك ونخلص طاقم السفارة من الحصار".

مكالمة نتنياهو كانت مثل فيلم سينمائي فيه كل العناصر المطلوبة للنجاح الجماهيري! قليل من الأكشن وقليل من الدراما وقليل من القيادة وكثير من إظهار "بربرية العدو"..!

 لكن الأهم من الفيلم السينمائي الذي قام بأدائه رئيس الوزراء الاسرائيلي هو التأكيد على الخيارات الاستراتيجية لإسرائيل في المرحلة القادمة: وهي الحفاظ على السلام مع مصر مهما كلف ذلك من ثمن، وترميم العلاقات مع تركيا وامتصاص غضبها، لأن سورية هي مفتاح الفوضى/الاستقرار في المنطقة لعشرين عاما مقبلة على الأقل.

الاسلاميون: ربما هم الأكثر ذكاء على الساحة السياسية في مصر الآن وهم الرابح الأكبر منذ تنحي حسني مبارك عن الحكم. هم يرفضون الصدام مع المجلس العسكري حتى لو كلفهم ذلك جزءا كبيرا من شعبيتهم. في نفس الوقت هم يجيدون لعبة توزيع الادوار. فبعض الأجنحة ترفض أي خطوات قد يتخذها المجلس وتشكل تهديدا سياسيا لهم في المرحلة المقبلة. وهم أيضا يعلنون أن طاعة المجلس هي لمصلحة الأمة والبلاد والعباد.

ويدرك حكماء الاسلاميين ممن حضروا حقبا تاريخية اصطدمت فيها القيادة العسكرية للبلاد مع تياراتهم، أن الصدام مع العسكر قادم لا محالة، ولكن المطلوب هو تأخيره بأي ثمن وخفض الخسائر عندما يقع.

لذلك لم يكن مستغربا إدانة الاخوان المسلمين لما جرى من اقتحام للشقة التابعة للسفارة، وقيام إسلاميون آخرون بتحميل "القوى العلمانية" المسؤولية، بل واتهامهم بأنهم يريدون "هدم الدولة وكيانها" ووصفهم بأنهم "مجموعات من الفوضويين".



البحث عن قيصر:

كل الأطراف المذكورة أعلاه، ما عدا قوى الثورة المشغولة بانقساماتها، ترغب في التوصل الى "قيصر جديد" يكون قادما من المؤسسة العسكرية وقادرا على تحقيق الأهداف التالية:

1. السيطرة على البلاد أمنيا وتنسيق العمل بين سلطاتها المختلفة والحصول على مبايعة وولاء أجهزتها الأمنية المختلفة.

2. القدرة على الوفاء بتعهدات مصر الدولية وتحديدا ما يتعلق باتفاقية السلام مع إسرائيل.

3. أن يكون رمزا لهيبة الدولة ومحافظا على كيانها وشكلها كدولة مركزية تخضع السيطرة فيها للجهة الوحيدة المسموح لها بامتلاك القوة وهي المؤسسة العسكرية.

4. يرغب الاسلاميون في أن يكون لهم نصيب مؤثر في السلطة في المرحلة المقبلة ولا يبدو أنهم يمانعون في اقتسامها مع المجلس العسكري في أي صيغة مستقبلية له.

ومن المستبعد أن يكون "القيصر الجديد" قادما من الأسماء المدنية المطروحة كمرشحين محتملين للرئاسة. فعمرو موسى لن يكون سوى عصام شرف آخر ولكن بدرجة رئيس جمهورية. ومحمد البرادعي يساهم في إضعاف نفسه أكثر من جهود خصومه! وعبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي قد يكونون رؤساء جمهوريات بعد ولايتين رئاسيتين على الأقل.

على مائدة عشاء:

في شهر مايو الماضي جمعتني مائدة عشاء مع مجموعة من الصحفيين القادمين من تسع دول مختلفة حول العالم. كنت المصري الوحيد بينهم. وكان الموضوع المسيطر على الجلسة هو الانبهار والاعجاب الشديد بالثورة المصرية وسلميتها وقدرتها على تغيير نظام قمعي مثل نظام مبارك. فقط زميلة إيرانية لم تبدو منبهرة أو سعيدة وقالت لي: احذروا أن تسرق ثورتكم مثلما سرقت ثورتنا قبل ثلاثين عاما. في تلك الليلة ظننت أنها تشعر بالغيرة من قدرتنا على التغيير وفشل الايرانيين في ذلك. الآن فقط تذكرت واقعة اقتحام السفارة الأمريكية في طهران!


10 comments:

  1. يا عم حسام أخجلتني بكلامك الحلو... ثم دة بعض مما هو عندكم بالفعل :-))

    ReplyDelete
  2. أحياناً يكون الكلام في العقل وقاعد بيزن.. عايز يطلع.. ومش عارف.

    آجي أقرأ حاجة أقوم أقول "أيوااااا .. هوا ده الصح".

    ده ينطبق على التدوينة دي.

    ReplyDelete
  3. مره اخرى كلماتك السهله واسلوبك السلس يتمكنان من شد انتباهي علي الرغم
    من شعوري بالنعاس الشديد ولكن اختلف معك هذه المره
    فاليوم لاول مره من فبراير اشعر بقوه الشعب وسطوته فبعد
    احداث امس كانت القاهره تزخر بمظاهرات حاشده يسموها
    فئويه خرج فيها العمال والمهندسون والمدرسون يطالبون بحقوق
    طال غيابها وهنا كان الرد من الحكومه بتفعيل قانون الطوارئ المعمول
    به بالفعل في خطوه هي الاكثر ارتباكا في رأيي
    لان المجلس بدا يعي خطوره موقفه وتصاعد لهجه الاحتجاج تجاهه
    من كل اطياف الشعب لذا آري ضوء الشمس في اخر الممر
    واراهن علي الشعب الذي قابلته في الميدان وسمعت صوته هادرا في طلعت
    حرب ..انا الشعب انا الشعب لا اعرف المستحيلا

    ReplyDelete
  4. شكرا يا عبد الرحمن على الكلام الحلو :-)

    ReplyDelete
  5. يا سمسم أتمنى كلامك يطلع صح.. ولكن أتمنى أن يرزقنا الله الكثير من الحكمة، فهي شحيحة للغاية في المحروسة هذه الأيام!

    ReplyDelete
  6. مدونة رائعة...أحييك عليها...

    ReplyDelete
  7. شكرا cassiopea2010 على هذه الكلمات التي أستمد منها طاقة تجعلني أواصل الكتابة :-)

    ReplyDelete
  8. اكثر ماشد انتباهي هو توضيحك السلس للمؤامره وتلاعبات السلطه بدون مبالغه او تهويل في الاحداث فنقلك للاحداث كما هي ولكن باسلوبك الخاص المتميز يجعلها اكثر صدقا بالتوفيق وشكرا

    ReplyDelete
  9. ياه اعتقد ان القيصر الجديد ظهر

    ReplyDelete