يروى
أن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود قال
لأبنائه وهو على فراش الموت:
لا
تشاركوا الناس حلالهم، فيشاركونكم الحكم.
(أي:
لا
تشاركوا الناس مصالحهم التجارية، كي لا
يشاركوكم السلطة).
كما
يروى أنه أوصى أبنائه بإبقاء العلاقات
دافئة مع دولتين هما الولايات المتحدة
الأمريكية ومصر.
وفي
الوصيتين، عبر عبد العزيز، أو ابن سعود
كما يحب المؤرخون الإنجليز أن يلقبوه،
عن ذكاءٍ وبصيرة، تدعوان للتأمل.
فالمملكة
التي أنشئها بالسيف، تحتفل هذا العام
بعيد ميلادها الثمانين وهي أقرب ما يكون
لرجلٍ في العمر نفسه، لكنه يمتلك الكثير
من الأموال والأعداء الطامعين فيه،
والقليل من الطاقة كي يجابه كل هذه
التحديات.
لماذا
المملكة العربية السعودية تمتلك هذه
الأهمية؟
ينظر
البعض للمملكة الصحراوية باعتبارها
خزاناً كبيراً للنفط.
ولكنها
خلال أعوامها الثمانين استطاعت أن تجد
لها أهمية أكبر من فكرة ارتباطها بالنفط.
فالسعودية
اليوم هي أحد المفاتيح الرئيسية لإقليم
الشرق الأوسط، وهي أحد خطوط المواجهة
الأمامية للغرب مع إيران.
كما
أن لديها تأثيراً ضخماً في محيطها.
يكفي
أن السعودية التي يبلغ تعداد سكانها حوالي
٢٨ مليوناً، قادرة على التأثير في بلد
بحجم مصر والتي يبلغ تعداد سكانها نحو
تسعين مليوناً، بسبب العمالة المصرية.
وهو
ما انعكس في تغيرات اجتماعية وثقافية
حدثت لقطاعات واسعة من المجتمع المصري
عندما بدأت هذه العمالة في العودة إلى
بلدها محملة بمفاهيم، تأثرت بثقافة أهل
المملكة.
كما
لابد من الالتفات إلى الثقل الديني للمملكة
السعودية، والإنفاق المالي الضخم على
الترويج لهذا الثقل في بلاد العالم
الإسلامي من خلال المراكز الإسلامية التي
تمولها السعودية والتي تتبنى تفسير الإمام
محمد بن عبد الوهاب للإسلام.
لكن أهمية
المملكة في هذا التوقيت بالذات تأتي من
أنها على شفا مرحلة من التغيرات العميقة
التي قد يكون لها تأثيرات هائلة على محيطها
الإقليمي، وخصوصاً دول الخليج.
من أين
يمكن أن يأتي التغيير المنتظر؟
أولاً:
البعثات
التعليمية..
حسب
ميزانية المملكة في ٢٠١١، فإن حكومة
الرياض تنفق خمسة مليارات وثلاثمئة
وثلاثين مليون دولار سنوياً على ٢٥٧ ألف
مبتعث للتعلم خارج المملكة.
منهم ١٢٠
ألفاً من الدارسين والباقي من المرافقين
لهم.
هذا العدد
الكبير من المواطنين السعوديين الذين
يتم إرسالهم إلى أستراليا والولايات
المتحدة وبريطانيا وكندا سنوياً للتعلم،
سيعود محملاً بأفكار عن الديمقراطية
والمشاركة في الحكم وصنع القرار والشفافية
والمحاسبة.
في مرحلة
لاحقة قد تبدأ هذه البعثات التعليمية في
التأثير على مجريات الأمور في المملكة
وربما في الضغط أكثر للحصول على إصلاحات.
لكن على الأرجح
فإن هذه الفئة من المجتمع السعودي ستكون
مكونة من أولئك الذين يؤمنون بالإصلاح
من داخل النظام.
ثانياً:
جيل الأحفاد..
تحتفل
المملكة بعيد ميلادها الثمانين فيما
ملكها يقترب من التسعين.
ولي عهده
يعاني من مشاكل صحية، كحال أولياء عهده
السابقين اللذين رحلوا تباعاً.
ومع
اقتراب خروج جيل أبناء عبد العزيز من
الساحة، تبدو الفرصة مهيأة لأحفاد عبد
العزيز قد يصلوا إلى سدة الحكم.
وهو ما سيضع
عليهم آمالاً عريضة من مواطنيهم الراغبين
في تغيير حقيقي، أو من حلفائهم في الغرب
الذين يخشون أن تصل ثورات الربيع العربي
إلى المملكة وتهدد تدفق النفط.
ثالثاً:
العدوى..
تبدو
ثورات الربيع العربي كالطوفان.
لا أحد يستطيع
أن يتحكم بتدفقه أو الدول التي يختار
اجتياحها.
هذا الطوفان
معدي. فالشعوب
تتعلم من تجارب جيرانها بسرعة، كما أنها
قادرة على استباق خطوات حكامها بذكاء
لاعب شطرنج محترف.
ولا يبدو
الشعب السعودي محصناً من العدوى.
قد يبدو أنه
اقتنع خلال المرحلة الراهنة بمساوئ
الثورات، والتي تحاول وسائل الإعلام
السعودية من صحف وقنوات تلفزيونية إبرازها
على مدار الساعة، ولكن هذا الاقتناع قد
لا يستمر طويلاً.
إذ أن خطوات
الإصلاح التي قام بها الملك السعودي عبد
الله بن عبد العزيز منذ أن تولى حكمه تبدو
شديدة البطء ولا تواكب وتيرة التغيرات
الإقليمية.
كما أنها
تعتمد على سياسات قد تشكل مسكنات للآلام
وليست علاجاً للمشاكل التي يعاني منها
الشعب السعودي، والتي يعود عمر بعضها إلى
عهد والده عبد العزيز.
قد لا
يؤدي أي حراك شعبي داخل المملكة إلى تغيير
شامل في بنية النظام، ولكن من المؤكد أنه
سيدفع باتجاه المزيد من الإصلاحات الجذرية
في بنية هذا النظام، وربما يؤدي لاحقاً
إلى إطلاق صيغة ما من المشاركة الشعبية
في الحكم والمحاسبة.
ما هي
أبرز تحديات مملكة ابن سعود؟
أولاً:
الثورات
العربية..
لم تطح
الثورات بأنظمة الحكم في دول المنطقة
فحسب، وإنما بدأت في إعادة بناء المنطقة
جيوسياسياً.
وهو ما سيشكل
تحدياً أمام مملكة لا تزال تبدو متخبطة
حيال الثورات في العالم العربي.
فهي غير مرحبة
بها كما حدث مع الحالة المصرية واليمنية
والبحرينية، ولكنها داعمة لها كما حدث
في الحالة الليبية ويحدث حالياً في الحالة
السورية.
ثانياً:
خلافات أحفاد
عبد العزيز..
يبدو أن
أحفاد ابن سعود ليسوا على قلب رجل واحد.
وتشي التسريبات
القادمة من المحيطين ببيت آل سعود بأن
الخلافات على مراكز السلطة والنفوذ بين
الأحفاد على أشدها.
وقد تطفو هذه
الخلافات على السطح في حال رحيل الملك
وولي عهده وانتقال الدور في تولي الحكم
إلى جيل الأحفاد.
ولا يبدو
أن جيل الأحفاد من بيت آل سعود يمتلكون
ذكاء فهد أو حنكة وخبرة فيصل.
ولكن بعضهم
يبدو أكثر قدرة من غيره على إدارة سياسة
البلاد الخارجية والقيام بإصلاحات داخلية
بالتزامن مع ذلك، مثل رئيس الاستخبارات
السعودي السابق الأمير تركي الفيصل.
ثالثاً:
ضعف النفوذ
السعودي في الخارج..
بنجاح
الثورة المصرية في خلع الرئيس السابق
حسني مبارك، خسرت المملكة السعودية أهم
حليفٍ إقليمي لها.
وفق تعبير
أحد رجال الأعمال السعوديين المقربين من
بيت آل سعود فإن "مبارك
كان من الخطوط الرئيسية للدفاع عن المملكة
في إقليم الشرق الأوسط"،
كما أنه كان شريكاً رئيسياً في الحرب
الباردة مع إيران.
وعلى
الرغم أن الرئيس المصري محمد مرسي قدم
تطمينات عديدة للسعوديين حيال موقف مصر
ما بعد الثورة من إيران، فإن أمراء آل
سعود لا يثقون فيه كما كانوا يثقون في
مبارك. ولا
تزال تحذيرات ولي العهد الراحل الأمير
نايف من جماعة الإخوان المسلمين تتردد
في آذانهم كلما سمعوا اسم أول رئيس مصري
منتخب بعد ثورة يناير.
أما
النفوذ السعودي في واشنطن فقد ضعف كثيراً
بعد رحيل الجمهوريين عن الحكم.
ولا يبدو
أوباما متحمساً كثيراً لخوض غمار حربٍ
جديدة في الشرق الأوسط.
قد يأمر
بعمليات عسكرية خاطفة مثل مشاركته في قصف
مقرات القذافي الأمنية، أو مشاركته
المرتقبة في ضرب المشروع النووي لإيران،
ولكنه ليس مستعداً لإرسال أعداد كبيرة
من الجنود الأمريكيين إلى المنطقة كما
فعل جورج دبليو بوش.
أما على
الصعيد الخليجي، فأبناء زايد في الإمارات
أبدوا قدراً ملحوظاً من العداء "للهيمنة
السعودية على البيت الخليجي".
وتمثل ذلك في
خلافهم مع الرياض حول إعادة ترسيم الحدود
بين البلدين وفي مساهمتهم في إفشال مشروع
العملة الخليجية الموحدة بسبب الخلاف
على مقر البنك المركزي الخليجي.
ولم يتبق
للسعودية حلفاء تعتمد عليهم في البيت
الخليجي سوى الكويت التي تبدو غارقة في
مشاكلها الداخلية بسبب ديمقراطيتها
المنقوصة، أو البحرين الغارقة في عدم
الاستقرار بسبب الخلاف بين الأغلبية
والأقلية على الحقوق والواجبات.
فيما قطر
وسلطنة عمان اختارا التحليق بعيداً عن
الإجماع الخليجي منذ أكثر من عقد من
الزمان، وتمثل ذلك في إقامة علاقات مع
إسرائيل أو في احتضان قواعد عسكرية
أمريكية، تعتبر الأهم في المنطقة.
رابعاً: عودة التطرف..
منذ نهاية حرب الخليج الثانية عام 1991، ومملكة ابن سعود تدفع ثمن دعمها
لجماعات المجاهدين العرب الذين نقلتهم الى افغانستان في ثمانينات القرن الماضي من
أجل محاربة الاحتلال السوفيتي.
فأبرز قادة هذه الجماعات، وهو أسامة بن لادن، كان أحد الذين اصطدموا مع بيت
آل سعود حول الوجود العسكري الأمريكي في المملكة. وقد أدى ذلك الى سلسلة من عمليات
التفجير التي استهدفت القوات الأمريكية، والتي أدت لاحقاً الى قيام البنتاجون بنقل الجزء
الأكبر والأهم من قواته ومعداته الى قطر.
خلال السنوات العشر الأولى كان وزير الداخلية الراحل الأمير نايف بن عبد
العزيز وابنه محمد يقودان المواجهة مع التطرف في المملكة. ورغم النجاحات الكثيرة
التي حققتها أجهزة الأمن السعودية في ملاحقة المتطرفين داخل وخارج حدود السعودية،
إلا أن الثمن الذي دفعته البلاد كان باهظاً.
ويتذكر سكان الرياض فترةً خلال أواسط العقد الماضي عندما كانت الحواجز
الأمنية في العاصمة السعودية تماثل في عددها تلك الموجودة في الضفة الغربية.
ورغم جهود المملكة الحالية لمحاربة المتطرفين في اليمن، حيث العدد الأكبر
منهم أنشأوا لهم قواعد هناك، إلا أن احتمال عودة التطرف لا تزال قائمة، خصوصاً وأن هذا
التطرف قد أوجد له جذوراً في المجتمع السعودي بسبب الدعم الحكومي له خلال حرب
المجاهدين في أفغانستان.
وصايا
ابن سعود..
أين وصايا
عبد العزيز من كل هذه التحديات؟ وما هو
مستقبل مملكة ابن سعود؟ وهل يستمر بيت آل
سعود في الحكم؟ وكيف سيكون شكل التغيير في مملكة بلغت من العمر عتياً؟ تبدو هذه
الأسئلة معلقة بدون إجابة بسبب تركيبة
المجتمع في هذه المملكة، والتي تشبه في
حركتها واضطرابها تشكيلات الرمال المتحركة
في الربع الخالي.