Friday 26 October 2012

مصر ومفهوم الدولة الكرتون


تبدو مصر الآن مثل رجل خرج لتوه من معركةٍ حامية الوطيس، وقد اكتسى وجهه بخليطٍ من التراب والعرق والدم. انتهت المعركة ولكن لا يزال الرجل يعتقد أنها لم تبدأ بعد. يمر الرجل بتلك الحالة التي يطلقون عليها اسم "انعدام الوزن"، بينما هي في الحقيقة خدعة يقوم بها العقل كي يستطيع الجسم أن يتعامل مع جراحه.

وهنا تفرض ملاحظاتٌ بعينها، نفسها على هذا الوضع الذي تمر به مصر، والتي تبدو عاجزة عن استيعاب أبعاده بشكلٍ كامل.

أولاً: قائد الجيوش وحامي الحمى..

من المثير للاهتمام متابعة كل هذه المناورات بالذخيرة الحية التي يحضرها الرئيس الجديد محمد مرسي. فالرجل اختار صورتين له كي تتصدرا الصحف ويصبحا مصدراً رئيسيا لمن أراد أن ينتج مطبوعات دعائية عنه.

الصورة الأولى هي لذلك الحاكم الزاهد المتدين الذي يرتاد المساجد ولا يتخلف عن أداء صلاة الفجر مع رعيته، ولا يترك منبراً إلا وقد اعتلاه خطيباً وواعظاً.

والصورة الثانية هي لذلك القائد الهمام الذي يظهر وهو يحمل النظارات المعظمة ويتابع جنوده وهم يطلقون صواريخهم ورصاصهم نحو السماء، فيما الطائرات تحلق والسفن تبحر والقادة يشرحون للرئيس أن الجيش قادرٌ على حماية سماء الوطن وحدوده وأرضه، وسحق أعدائه في المساء!

هذا الحرص الرئاسي على حضور كل هذه المناورات يحمل في طياته تساؤلات، ربما لا يحب البعض أن تثار..

١. هل هذا الحرص على الظهور كقائدٍ عسكري مغوار سيصرف الأعين عن الفشل في دور الرئيس المسؤول عن خطط التنمية والنهضة وبرنامج المائة يوم العظيمة؟

٢. هل هذا الحرص على الوجود المستمر بين قادة القوات المسلحة يحمل خوفاً وتوجساً من نوايا الجيش الذي تم إقصاؤه عن حكم البلاد، سواء بشكلٍ مباشر في حالة المجلس العسكري أو عبر الوكالة من خلال تجارب الرؤساء الذين أفرزهم خلال السنوات الستين الماضية؟

٣. هل استخدام ورقة "القائد الأعلى للقوات المسلحة التي عبرت وانتصرت" سيمنح الرئيس تفويضاً شعبياً، بعد أن تعثر الحصول عليه عبر ورقة "مشروع النهضة"؟


ثانياً: على خطى ناصر!

يعرف القاصي والداني تفاصيل هذه العداوة المريرة بين جماعة الإخوان والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. فالرجل كان عضواً في الجماعة ثم حليفاً لهم عندما قام بانقلابه العسكري ثم خصماً لهم عندما وقع الصدام بينهما في إطار الصراع على السلطة الذي أعقب الإطاحة بالنظام الملكي.

وبالرغم من هذه العداوة إلا أن أعضاء في الإخوان أطلقوا تصريحات تبدي إعجابها بنهج الرجل في السيطرة الكاملة والشاملة على الدولة.

كان هناك هذا التصريح الذي أطلقه خيرت الشاطر في مدح العدالة الاجتماعية التي أتى بها ناصر، والتي منحته تفويضاً شعبياً مكنه من استبعاد المشاركة الشعبية في صناعة القرار، والانفراد وحده بكل القرارات المصيرية الخاصة بالحرب أو السلام أو التنمية.

ثم تصريح عصام العريان في تبرير تسجيل مكالمات النائب العام مع الرئاسة المصرية بقوله "ما ناصر كان بيتجسس على خصومه".

ثم تصريح آخر بأن عبد الناصر صنع نخبته، ومن حق الإخوان أن يصنعوا نخبتهم التي تقود الرأي العام.

وتتلاقى كل هذه التصريحات مع نهج عبد الناصر في الانفراد بصنع القرار وإقصاء المشاركة الشعبية عن السياسة الخارجية أو الخيارات الاقتصادية والتنموية.

لكن ما لم يدركه بعض قادة الإخوان، أن ناصر أنجز "مقايضة" غير مكتوبة مع الشعب، تم بمقتضاها منح الأغلبية مكتسبات اجتماعية واقتصادية في مقابل تفويض كامل له.

نفس التجربة، ولكن بصيغة مختلفة، تمت بين الشعوب الخليجية والعائلات الحاكمة هناك. ففي مقابل ما يحصل عليه المواطن الخليجي من حصة من الثروة النفطية، يتنازل للعائلة الحاكمة عن حقه في الاعتراض أو المشاركة في حكم البلاد.

أما من يدرك من الإخوان حقيقة هذه المقايضة، فإنه يصطدم بخيارات الجماعة المحدودة في تحسين الوضع الاقتصادي أو منح الأغلبية مكتسبات اقتصادية، تؤدي إلى تفويض شعبي أو تنازل جزئي عن الحريات العامة.


ثالثاً: مصر ومفهوم الدولة الكرتون!

تبدو الدولة في مصر مثل قطعة من الكرتون. بقليل من الجهد يمكن ثني هذه القطعة في الاتجاه الذي تريد. ثم يمكن لك أن تلونها باللون الذي ترغبه. لكن عند رحيلك، فإن خلفك سيثني هذه القطعة في اتجاه آخر، وسيلونها بلونٍ مغاير. وبعد تعاقب الحكام، ستبدو هذه القطعة من الكرتون وقد اهترأت من كثرة الطي وتضارب الألوان التي تلطخت بها.

وصلت قطعة الكرتون تلك إلى يد الإخوان بعد أن اهترأت. فالذي أحضرها إلى مصر، محمد علي باشا الكبير، أختار أن يكون جيش ابنه إبراهيم باشا هو الوصي على تلك القطعة. وعندما انهارت مملكة محمد علي بعد نحو مائة وخمسين عاماً، اختار أول حاكم مصري أن يثني تلك القطعة من الكرتون إلى اليسار قليلاً وأن يصبغها بمزيجٍ من الأحمر والأخضر.

أما خلفه، فاختار أن يثني قطعة الكرتون إلى اليمين قليلاً وأن يصبغها بمزيجٍ من الأزرق والأخضر. ثم جاء مبارك ليسلم جزءاً من تلك القطعة إلى ابنه الأصغر وجزءاً آخر إلى زوجته وجزءاً ثالث إلى أصدقاء نجليه، لتتلطخ تلك القطعة بتشكيلة واسعة من الألوان المتضاربة، ويتم ثنيها كيفما تراءى لأصحاب النفوذ والمال.

ووقعت تلك القطعة المهترئة من الكرتون (التي تسمى الدولة) في يد الإخوان، ليحاولوا ثنيها كثيراً إلى اليمين، ويصبغوها باللون الأخضر، دون أن يدركوا أن تلك القطعة على وشك الانفراط!

وهنا ينبغي ملاحظة أن هذه الدولة (أو قطعة الكرتون المهترئة) لا تحمل أية ضمانات بعدم العودة إلى الوراء والارتداد عن تجربة الاحتكام إلى الصناديق في اختيار الحاكم.

كما لا تحمل هذه الدولة المهترئة أية ضمانات لعدم العودة إلى اللحظات التاريخية التي مرت بها مصر وحسمت فيها أجنحة السلطة صراعها على السيطرة على الدولة باستخدام قوة السلاح.

لكن يبدو الخطر الأكبر أمام هذه القطعة المهترئة من الكرتون (الدولة) هو أن تتحلل إذا ما انهار السد الذي يمنع طوفان الغضب الشعبي، بسبب عدم معالجة الأسباب الحقيقية التي دفعت الناس للنزول خلال ثورة يناير ٢٠١١.

بعد كل هذا، هل هناك بالفعل محاولة "لأخونة" مصر؟ نعم هناك مؤشرات على هذه المحاولة، لكن لا يبدو هذا الأمر مهماً. فالطوفان قادم، وعلى الجميع أن يستعد!

3 comments:

  1. Very comprehensive excellent article

    ReplyDelete
  2. احييك على هذا التحليل المنهجى والعقلانى احمد بك .. واراك تتواصل مع مفهوم الدوله الرخوه وكل نظريات الدوله الفاشله التى سبقت ثورة 25 يناير وان كنت اختلف معك قى النتيجه النهائيه بانه لاخوف من اخونة الدوله لان الطوفان قادم لاننا بصدد دوله دينيه ستمسك وتحكم بالحديد والنار بدعاوى دينيه شرعيه وسيستمر الامر طويلا وان كنت ستراهن على حركة التاريخ فستكون هناك بحور وبحور من الدماء لو قرر الاخوان ترك تلك القطعه المتفسخه الكرتونيه وهنا ستكون الدوله ليست بدوله وليست حتى بكرتونيه بل معرضه للانقسام والاحتلال وكل مللم يرد بمقالتكم التى اقدرها .. كل الود والتقدير

    ReplyDelete