Monday, 14 May 2012

جمهوري إسلامي مصر.. سبعة أيام داخل جمهورية النفاق


اللوحة للفنان خالد البيه http://www.flickr.com/photos/khalidalbaih/

من مجلة فورين بوليسي في عددها الصادر يوم الاثنين السادس من مايو عام ٢٠١٩.

مرت سبعة أعوام منذ آخر زيارة لي إلى مصر أو الجمهورية الإسلامية المصرية (وفق الاستفتاء الشعبي الذي أجري قبل خمس سنوات!). لم تسمح لي السلطات بالدخول إلى البلاد رغم أنني أحمل جواز سفرٍ مصري. حجتهم أنني أحمل الجنسية الأمريكية وأن القانون المصري لم يعد يسمح بازدواج الجنسية. لكن العام القادم ستجرى ثالث انتخابات رئاسية، والحكومة الحالية تريد أن تبدو منفتحة على الصحافة الغربية.

الطريق إلى الفندق: طهران تسير في القاهرة..

لم أصب بالدهشة عندما رأيت صورةً كبيرة لمؤسس جماعة "العائلة" في المطار والى اليمين منها صورةً أصغر لرئيس البلاد "عصمت الناجح" في قاعة الوصول بمطار "حسين الباني" الدولي (الاسم الجديد لمطار القاهرة!).

كل شيءٍ تغير منذ أن وصلت "جماعة العائلة" إلى الحكم قبل سبع سنوات. حينها انتهت الجولة الثانية من الانتخابات بفوز مرشح الجماعة "أحمد وجدي" بالرئاسة وذلك أمام المرشح الإسلامي "عبد العاطي أبو منصور"، والذي يقضي الآن عقوبة بالسجن بعد أن اتهمته السلطات بأنه يتآمر على قيم الدولة الإسلامية! وهي القضية التي أثارت جدلاً دولياً حول مدى التزام الحكومة المصرية بحقوق الإنسان.

في عام ٢٠١٦، وبعد أن نجحت "جماعة العائلة" في إزالة العائق القانوني الذي يحول دون ترشح "عصمت الناجح" للانتخابات، فاز "الناجح" بمقعد الرئاسة كما هو متوقع! وما أثير حول تزوير واسع للانتخابات وقتها أصبح الآن شيئاً من الماضي. فكل من شكك في الانتخابات عوقب بالسجن بتهمة "تكدير السلم الأهلي وإشاعة البلبلة في المجتمع"..!

وحتى الشخصية السياسية الأبرز في المعارضة المصرية، وهو "الدكتور محمد السراجي"، رحل عن الحياة العام الماضي وهو رهن الإقامة الجبرية، بعد أن منعت السلطات أسرته من نقله الى المستشفى. ولم يستطع أنصاره أن يشاركوا في مراسم تشييعه بسبب القيود التي فرضتها السلطات المصرية، والتي وصلت إلى منع وسائل الإعلام من تغطية الجنازة.

في الطريق من المطار إلى الفندق، لم أر أية أمرأة لا ترتدي الحجاب. فقد فرضته السلطات المصرية في السنة الأولى من حكم الرئيس السابق "أحمد وجدي"، والذي يشغل الآن منصب رئيس "الهيئة الإسلامية للحفاظ على وحدة الأمة"، وهي الجهاز الحكومي المتهم بأنه يحرك الدعاوى القضائية ضد رموز المعارضة.

لكن يمكن بسهولة ملاحظة حجم البؤس الذي يعيشه المصريون من خلال النظر إلى وجوههم. فالابتسامة التي كان يشتهرون بها اختفت وأصبح الجميع يخاف من التحدث أمام الغرباء وخصوصا إذا كانوا من الأجانب. ففي العام الماضي اعتقل كثيرون بتهمة "الاتصال بجهات أجنبية دون الحصول على تصريح"..! 

أصبحت مصر في الأعوام السبعة الأخيرة أحد أكثر الدول انغلاقاً في العالم، تليها في القائمة كوريا الشمالية.

اليوم الأول: أين ذهب الأقباط؟

فور وصولي إلى الفندق، اتصلت بصديق قبطي يعمل صحفياً و"مصرح له بالاتصال بالأجانب"! فوجئت بترحيبه الفاتر بي على الهاتف وبمحاولته إنهاء المكالمة بسرعة! لكنه عندما ظهر أمام باب غرفتي رحب بي بحرارة وأعتذر عما بدر منه في المكالمة وذلك لأن "جميع الهواتف مراقبة، وإذا بدا ودوداً معي فإن ذلك قد يعرضه الى مراقبة السلطات له وربما سحب التصريح الحكومي بالاتصال بالأجانب، وهو ما سيغلق عليه باب رزقه كمرافق للصحافة الغربية في البلاد!”.

لم ينس صديقي أن يخبرني بهذه المعلومات ونحن نسير خارج الفندق. فكل الغرف ملغمة بالعديد من الميكروفونات الدقيقة، والتي أنفقت على شرائها الحكومة المصرية مبالغ طائلة خلال الأعوام السبعة الماضية. وهو السبب الذي دفع الرئيس "الناجح" في إحدى خطبه العامة الشهر الماضي الى تهنئة رجال الصناعة المصريين لقيامهم بالاستثمار في مصنع جديد متخصص في تصنيع أجهزة التجسس. وقد علق الرئيس على هذا "الإنجاز الوطني العظيم" بالقول "أن من شأن هذا المصنع أن يطور قدرات الوطن في الحفاظ على أمنه من القوى الأجنبية التي لا تريد الخير لأبناء هذه الأمة"..!

سألت صديقي (والذي لن أذكر اسمه حمايةً له من أية تهم قضائية توجه له!) عن وضع الأقباط منذ أن وصلت جماعة "العائلة" إلى الحكم. بنبرة فيها الكثير من الأسى أجاب: عددٌ كبير منهم هاجر خارج البلاد، وقد شجعت السلطات ذلك. فيما انتقل عددٌ آخر إلى الشريط الساحلي الشرقي للبلاد والى القرى السياحية في سيناء، حيث يحظر على المسلمين الاختلاط بالسائحين الأجانب أو بالعمل في الفنادق هناك، وذلك لأنها تقدم الخمور. أما الأقباط في الصعيد فلم يتأثروا كثيراً نظراً لما يتمتع به صعيد البلاد من حكمٍ ذاتي وفق الاتفاق الذي أبرمه "كبير جماعة العائلة" مع كبار الأعيان ورموز المجتمع هناك ويقضي بترك مدن الصعيد تختار ما يناسبها من قوانين الشريعة كي تطبقه أو أن تحتكم إلى الأعراف والعادات الخاصة بهم.”.

اليوم الثاني: هوليوود الشرق ترتدي النقاب!

منذ أن نجحت "جماعة العائلة" في السيطرة على جناحي السلطة، التنفيذي والتشريعي، قبل سبع سنوات، والسينما المصرية محاصرة بجدارٍ عالٍ من القوانين التي تقيد الإبداع. فالرقابة المصرية أصبحت تنافس الرقابة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في قائمة المحظورات الممنوع ظهورها على الشاشة أو المواضيع المحظور التطرق إليها في الأعمال الفنية.

رغم ذلك، استطاع عددٌ من السينمائيين المصريين ممن استطاعوا الخروج من البلاد أن يصنعوا أفلاماً حول المواضيع المحظورة، وأن يهربوا أعمالهم داخل البلاد من خلال ملفات مشفرة على شبكة الإنترنت. ولا يخلو هذا الأمر من مخاطرة، خصوصاً وأن هناك عقوبات بالسجن المشدد لمن يكتشف أنه اخترق أنظمة حجب المواقع أو نجح في تفادي أنظمة الرقابة على التصفح في الإنترنت، والتي تفوقت فيها مصر على الصين!

وما يقال عن السينما، ينطبق على المسرح. فكل المسرحيات أصبحت تتحدث عن القيم الأسرية وعن "مشروعات النهضة" التي تتبناها الحكومة. والاستثناء الوحيد هي تلك المسرحيات التي تعرض في القرى السياحية بالساحل الشرقي وفي سيناء والتي يسمح فيها لعدد محدود من الفنانين بتقديم "الأشياء التي تروق للإخوة السائحين من حملة الجنسيات العربية"!

في اليوم الثاني قمت بزيارة إحدى دور العرض السينمائية التي أعتدت على مشاهدة الأفلام فيها خلال طفولتي. شاهدت فيلماً ملحمياً طويلاً عن حياة أحد رموز الجماعة الراحلين. كان الفيلم بالأبيض والأسود وقد امتلأ بمشاهد التعذيب فيما خلا من أية شخصية نسائية!

اليوم الثالث: زيارة إلى متحف "الكفرة" وميدان الباني (التحرير سابقاً)..

في اليوم الثالث قمت بزيارة المتحف المصري. كنت أنا المصري الوحيد (حتى ولو لم تعترف السلطات بذلك!) الموجود في المتحف والذي أصبح الدخول إليه يتطلب إبراز جواز سفرٍ أجنبي أو الحصول على تصريح خاص من السلطات بالنسبة للمصريين.

لم أستطع التوقف عن الضحك وأنا أقرأ اللوحات التعريفية الجديدة التي وضعتها السلطات أمام المعروضات الفرعونية والتي تؤكد جميعها على أن "الفراعنة كانوا من الكفرة الذين استحقوا العذاب في الدنيا"!

أما ميدان التحرير (والذي أصبح ميدان الشهيد الباني) فقد تحول من رمز الثورة المصرية في يناير ٢٠١١ (والتي تطلق عليها وسائل الإعلام اسم الثورة الإسلامية الكبرى) إلى ساحة كبيرة من الأعمدة الخرسانية القبيحة التي تحمل أسماء "شهداء الحركة الإسلامية خلال القرن العشرين"! ويقول المعارضون إن السبب وراء قيام السلطات بتشييد هذه الأعمدة الخرسانية يعود إلى خوفها من تجمع عشرات الآلاف من الناس في الساحة للاعتصام، خصوصاً وأنه كان رمزاً للثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس الأسبق مبارك، والذي لا يزال يعيش في المستشفى العسكري الذي نقل إليه قبل ثمانية أعوام.

اليوم الرابع: روزاليوسف تصبح مجلة "أم إحسان"..!

لم أستطع أن أقاوم عدم التحدث إلى زملائي الصحفيين. فمصر التي لها تاريخ عريق في الصحافة أصبحت على رأس قائمة الدول الأكثر معاداة لحرية الصحافة.

في اليوم الرابع لزيارتي إلى مصر التقيت بصديقي الصحفي الذي أصبح عاطلاً عن العمل منذ وصول "جماعة العائلة" للحكم. فقد تم فصله من المؤسسة الصحفية التي يعمل بها وأصبح مراسلاً لإحدى المطبوعات العربية المتخصصة في كرة القدم!

حدثني صديقي الصحفي (والذي سأمتنع عن ذكر اسمه أيضاً) أن النكتة الأكثر انتشاراً في الوسط الصحفي هي أن الحكومة ستصدر قراراً تغير فيه من أسماء المطبوعات لتصبح مجلة روزاليوسف مجلة أم إحسان، نسبةً إلى الابن الوحيد لمؤسسة المجلة وهو الأديب الراحل إحسان عبد القدوس. وأن صحيفة الأهرام ستصبح صحيفة الباني، نسبةً إلى مؤسس "جماعة العائلة حسين الباني"، والذي أصبح وضعه في الدولة المصرية يماثل وضع أتاتورك في الدولة التركية!

فمن المحظور في الصحافة المصرية أن يتم التطرق إلى سيرة "الباني" بأي نقد. كما أن الكتب التي كتبت عنه قبل الثورة والتي تخالف الرواية الرسمية لسيرته، ممنوعة من التداول، ومن يحتفظ بها يحاكم بتهمة "الإساءة لرمز من رموز الأمة".

ومن المدهش أن الدولة المصرية تحت حكم "جماعة العائلة" لم تستلف من الدولة التركية الفكرة الأتاتوركية فحسب، بل أنها استلفت من الجمهورية الإسلامية الإيرانية فكرة المرشد الأعلى للثورة، حيث "كبير جماعة العائلة" هو الذي يتم الرجوع إليه من قبل رئيس البلاد ورئيس الهيئة الإسلامية للحفاظ على وحدة الأمة، والتي تماثل جهاز تشخيص مصلحة النظام في إيران. وخلال ولاية الرئيس السابق "أحمد وجدي"، كان الحاكم الفعلي للبلاد هو كبير الجماعة. بينما عندما تولى الرئيس "الناجح" الحكم، انتقل ميزان السلطة من مكتب كبير الجماعة إلى القصر الجمهوري.

لم أندهش من قائمة المحظورات الصحفية التي سردها لي صديقي! كما لم أندهش أيضاً من سطوة الرقيب في ظل حكم "جماعة العائلة" والتي أدت إلى منع العديد من رموز مصر من الكتابة وإلى هرب الأديب علاء الأسيوطي من البلاد بعد أن فرضت عليه السلطات الإقامة الجبرية ومنعته من النشر. وما سمعته من صديقي عن حال الصحافة، فسر لي لماذا كل الصحف المصرية تحمل عنواناً رئيسياً موحداً كل يوم!

اليوم الخامس: المعايير الأخلاقية المزدوجة!

بالرغم من الطابع المحافظ للدولة والتشدد الذي تبديه السلطات فيما يتعلق بالأخلاق العامة، إلا أن اللافت ارتفاع نسب التحرش الجنسي في المجتمع. ويتحدث المعارضون عن حالة واسعة من "النفاق المجتمعي". فبعض الأحياء العشوائية داخل العاصمة، والتي لا تستطيع الشرطة الدينية أن تدخلها، يتوافد عليها العشرات كل يوم من أجل تناول الخمور والمخدرات وممارسة الدعارة. ومن المدهش أن الحكومة تغض الطرف عن تلك الممارسات طالما أنها لم ترتكب في الأحياء الراقية من العاصمة!

وبينما لا يكف التلفزيون الرسمي عن إذاعة خطب كبير الجماعة والرئيس والأناشيد الحماسية التي تمتدح مشروع النهضة، فإن القنوات الخاصة المنتشرة في المقاهي الشعبية الموجودة في الأحياء العشوائية، لا تنقل سوى الأغاني الهابطة التي لم تعد تكتفي بالإيحاءات الجنسية! والغريب أن الحكومة تغض الطرف عن هذه القنوات، رغم أن موادها تصور في مصر!

اليوم السادس: زيارة إلى مكتب الرئيس حفظه الله..

تلقيت دعوة من مكتب الرئيس "الناجح" لزيارته وإجراء حوار صحفي معه. أرسلوا لي سيارة من طراز "فتح"، وهي السيارة الوطنية المصرية والتي أطلقها الرئيس السابق "أحمد وجدي" في مصانع "فتح للسيارات – نصر سابقاً!”. لم أندهش أن السيارة الحكومية الخضراء اللون لا تتمتع بأي وسيلة من وسائل الأمان!

بعد إجراءات أمنية معقدة، استقبلني الرئيس في مكتبه بقصر القبة الجمهوري، والذي لا يزال محتفظاً بنفس الأبهة الملكية. ربما التغيير الوحيد الذي طرأ على المكتب الرئاسي أن صورةً كبيرة لحسين الباني كانت معلقة فوق كرسي الرئيس!

كان الرجل شديد الترحاب والابتسام أيضاً. رحب بي باعتباري "ابناً باراً للوطن، رفع رأس الأمة عالياً في صحافة الغرب المعادية للإسلام والمسلمين"..!

سألته عن تجريدي من الجنسية المصرية. أجاب باقتضاب: "دي قوانين يا أخي الكريم ونحن دولة تحترم القانون حتى ولو طبقوه على ولادي!”

سألته عن إنجازات حكومته التي يرأس وزرائها السيد "محمود شعلان". أسهب الرئيس في التحدث عن مشاريع الحكومة التي "قضت على الفقر في مصر وجعلت نسبة الأمية في البلاد لا تتجاوز الربع في المئة"، وبالطبع تحدث كثيراً عن التزام الحكومة "بمشروع النهضة الذي طرح قبل عشر سنوات ولكن لم يخرج للعلن إلا بعد الثورة الإسلامية الكبرى، وذلك لأننا كنا نخشى من أن يسرقه نظام الرئيس المخلوع مبارك وينسبه إلى ابنه جمال"..!

سألت الرئيس عن القرى السياحية التي يحظر على المسلمين دخولها وعن القانون الذي فرض بموجبه الحجاب على جميع السيدات.. أجاب: “نحن لم نأت بجديد.. طب ما السعودية كدة ومحدش في صحافة الغرب بيتكلم! ليه؟ علشان النفط.. إحنا بس اللي شاطرين ينتقدونا علشان معندناش نفط!”.

قلت للرئيس أن الصحافة في الغرب تنتقد السعودية أيضاً وأن ما حدث في مصر لم يسبق حدوثه منذ الحاكم بأمر الله الفاطمي! قال الرئيس بغضب: “اللي مش عاجبو ما يزورش بلدنا.. إحنا دولة ديمقراطية ودة اللي اتفق عليه نواب الشعب وفقهاء الأمة.. وبعدين يا أخي حكومات الغرب بتحترمنا جداً.. هي بس الصحافة الغربية اللي بتقل أدبها علينا”..!

استفسرت منه عن السبب الذي دفعه إلى قول هذا الكلام. أجاب الرئيس: “كله بتمنه.. أنا قبل ما أكون رئيس كنت تاجر وعارف إن التاجر الشاطر هو اللي يعرف يجيب لبضاعته أعلى سعر! إحنا بقى عرفنا نسوق بضاعتنا كويس عند الغرب..”

أنا: “وما هي هذه البضاعة سيادة الرئيس؟"

الرئيس "الناجح": “السلام.. الحدود الآمنة مع إسرائيل مش ببلاش.. عاوزين سلام يبقى ما يتدخلوش في علاقتنا بشعبنا.. أنت أكيد عارف وضع سيناء كان عامل إزاي قبل تولي أخي "أحمد وجدي" الرئاسة.. النهاردة مفيش دبانة في سيناء بتطير بدون ما نسمح لها بالطيران!”

أنا: “هل معنى هذا أنكم تعتبرون السلام سلعة للمقايضة؟"

الرئيس "الناجح" بغضب شديد: “عذراً يا أخي الفاضل.. أنا مضطر أقوم أصلي العصر.”

أنا: “بس العصر ما أدَنش لسة!”

الرئيس "الناجح": “حيأدِن دلوقتي"..!

اليوم السابع والأخير: وأخيراً رأيت المعارضة..!

لن أسرد تفاصيل وصولي إلى أحد الأحياء العشوائية التي أصبحت معقلاً للمعارضين، كي لا يتعرض مرافقي من وزارة الإرشاد للضرر، وقد أظهر لي "جدعنة" أعادت لي الثقة في قدرة المصريين على الاحتفاظ بروحهم الأصيلة.

وصلت إلى الحي العشوائي قبل سفري بساعات. كنت أعلم أن الحكومة لو اكتشفت زيارتي إلى هذا الحي، فإنها ستقوم بترحيلي فوراً. لذا فقد اخترت أن تكون تلك الزيارة هي نشاطي الأخير قبل أن أغادر القاهرة.

على مدخل المبنى الرمادي وجدت علم مصر القديم بألوانه البيضاء والسوداء والحمراء ونسره الذهبي معلقاً على إحدى الشرفات. في داخل الشقة التي تجمع بها عددٌ من المعارضين الشباب وجدت العلم القديم أيضاً معلقاً على الحائط. قالوا لي أن عقوبة من يرفعه أصبحت السجن لخمس سنوات. فالعلم الأخضر الجديد هو المسموح فقط برفعه في البلاد.

لم أندهش من جلوس المعارض الإسلامي إلى جانب المعارض اليساري. فالبعض يتحدث عن أن معارضي النظام من الإسلاميين أكثر من معارضيه من الليبراليين. سألت أنس عن سبب معارضته للنظام رغم أنه إسلامي؟

أجاب أنس، وهو شاب في منتصف الثلاثينيات: “عندما قمنا بالثورة لم نكن نريد سوى العدالة الاجتماعية والحرية للجميع. وهي الأمور التي فشلت في تحقيقها الحكومات التي تدعي أنها تسير وفق شرع الله. الانحلال زاد في المجتمع الذي أصبح يعاني من النفاق. أصبحنا أكثر نفاقاً من المجتمع السعودي. الفرق أنهم يملكون النفط ونحن لا نملك إلا الفقر! كل اللي بتقوله الحكومة هي سلسلة لا تنتهي من الأكاذيب! أعداد من يموتون سنوياً من أمراض يمكن علاجها أكبر بكثير من المعلومات المنشورة. لو استمر بنا الحال هكذا، فسننقرض! وإذا تجرأ أحدٌ وسأل المسؤولين عن هذا الارتفاع المخيف في الوفيات، أجابه: قدر الله يا ولدي!”

طلبت من رامي التحدث، لكنه فضل أن يكمل أنس كلامه "الأحسن إنك تعرف الحقيقة من واحد إسلامي علشان تصدق!”.

أكمل أنس منفعلاً: “العدالة الاجتماعية اللي بشرونا بيها طلعت سراب.. الحكومات كلها بتخدم رجال أعمال مرتبطين بعلاقات مصاهرة مع مكتب الإرشاد والفساد الحكومي بقى أسوأ من عصر مبارك! الكل بياخد رشوة والحكومة عارفة وبتكدب.. العمارات كل يوم بتقع ومفيش حد بيتكلم ولما أعداد الضحايا بيرتفع بيكتبوا في الصحافة إنها وقعت بسبب زلزال! مش عاوزين يقولوا إنها وقعت بسبب الغش.. ما يقدروش لأن المقاول راجل بيعرف ربنا ومربي دقنه وواصل! الحياة بقت كدب في كدب.. إحنا مش الجمهورية الإسلامية المصرية.. إحنا جمهورية الكدب العربية!” وبكى أنس..

في العام القادم سيتم انتخاب رئيس جديد للبلاد وهو الرئيس "عصمت الناجح"! فقط في مصر يصبح اسم الرئيس معروفاً قبل الانتخابات بعامٍ كامل!

ملحوظة: تم تغيير جميع الأسماء لدواعٍ قضائية!


13 comments:

  1. تدوينتك بعبقريه روائية بتتكلم عن مستقبل الجماعة الشمولية والتى سوف تستخدم التكنولوجيا الحديثة والاعلام لطمس الحقائق وتغييرها لصالحهم ، ولتوجيه الناس حسب ما يترأى لهم عبر عملية غسل مخ مكثفة ووسط اجرائات قمعية شديدة لدرجة ان الرجل يشك فى كل من حوله أول ما قرأتها فكرتنى بـ رواية جورج أوريل 1984
    والكلمة الشهيرة "انتبه : الأخ الكبير يراقبك" والتى سيتم أستبدالها بـ "أنتبه: المرشد يراقبك" ، هذا بخلاف شعارهم الذى سيكون "الله هو السلطة" وهو الشعار المطبق من كل الأنظمة الشمولية لا إله سوى السلطة .. تخلق ما تشاء و تقرر ما تشاء و تفعل ما تشاء , ولا يعلم حدود الرئيس أو المرشد :) و قدرته إلا هو , هو الواحد الأحد و الفرد الصمد المحيي المميت الرزاق القهار ، وهذه الأنظمة لا تريد أن تحكمك و تنهبك فقط , إنّها تريد أن تمسخ إنسانيتك لتكون مجرد روبوت مسير بيدها .... تدوينة رائعة يا أحمد :)

    ReplyDelete
  2. جتها نيلة اللى عايزة خلف ...

    ReplyDelete
  3. طبعا تدوينه رائعه كالعاده يا احمد وخليتنى اخد بالى ع ما سوف نقيل عليه بس مش عارفه ليه حاسه انه ان شاء الله مش هيحصل ده

    ReplyDelete
  4. يا سلام عليك ياولد (باللهجه النوبيه لعلي الكسار) اول مره اشوف مدون يتنبأ فالشعراء فيما اعتقد هم فقط القادرون علي استشراف المستقبل ملحوظه 1 (لا اقصد الانبياء ولا اذكرهم لا من قريب ولا بعيد حتي لا اتهم بأذدراء الاديان)
    واعتقد ان هذ السرد الجميل هو زياره لمستقبل المحروسه القريب حمدلله علي السلامه يا استاذ احمد
    ملحوظه 2 اتحفظ علي ما قلته حضرتك بخصوص اقباط الصعيد حيث اني قبطي صعيدي فالمتوقع عوده الرومان وازدهار تجاره الاسود والحيوانات المفترسه في الصعيد
    سلامي وسلام الله معك

    ReplyDelete
  5. تحفه ... بس ان شاء الله مش هيحصل كده وهنعمل التدوينه ديه فيلم ;)

    ReplyDelete
  6. تهانينا على أسلوبك الرائع و الممتع

    ReplyDelete
  7. أحييك على هذه التدوينة الرائعة .. وأملي ألا يتحقق هذا السينارية المرعب

    ReplyDelete
  8. يالهوي ع المغصصصصصصصصصص
    ده المصران الغليظ ركب على قفايا والصاعد والهابط بقو سمبوكسات!!!

    ReplyDelete
  9. موضوع جيد و سرد ممتع
    لكن ستكون مصر مقسمة من ثلاث إلى خمس دويلات قبل هذا الوضع بوقت كبير...

    ReplyDelete
  10. تصور مش بعيد ... اسلوبك جميل اوى وسردك ممتع

    ReplyDelete
  11. النظرة المسددة من قبل الغرب و بعض المصريين ادت الى كتابة هذه المقالة و تبعاتها و هي الردود
    السادة الافاضل لست من انصار مرسي و لا انا من الفلول و ايضا لست ملتزما في الدين ولا علماني او ليبرالي
    ما اراه في مصر نشأ نتيحة ثقة الشعب في بعض الرموز و تلك الرموز وجهت هذه الثقة الى غير محلها
    اتمنى الا نتسرع فقد صبر الشعب المصري اكثر من عشرين سنة على مبارك
    و اعلم ان اهل مصر بهم من الخير ما يكفي الارض قاطبة
    ارجو ان لا تستعجلو في اصدار الاحكام نتيجة تصرفات بعض المحسوبين على الاخوان
    دمتم بود

    ReplyDelete