من الصعب أن ننكر أن هناك حالة عميقة من الاحباط وعدم الرضا في أوساط المؤمنين بالثورة حول ما أنجزته الثورة بعد عام على بدايتها. والاحباط مبرر ومفهوم..
لكن في حالات الاحباط يكون من الضروري عدم الاستسلام لها، لأن الخصم سيظن أنه انتصر. فالصراع هنا على فكرة وهي الثورة، وهزيمة الفكرة هي في التوقف عن الايمان بها.
كي نستطيع التغلب على الاحباط مما وصلت إليه الأمور علينا التأمل في النقاط الثلاثة التالية: 1. العودة لجذور الثورة 2. تعريف الثورة 3. أن ننظر الى المسألة في إطار أكبر..
نبدأ بالعودة الى جذور ما بدأ في 25 يناير 2011 وانتهى الى ما حققه في 12 يناير 2011.
لنتذكر أن في 25 يناير كان المطلب الشعبي الأساسي يركز على طريقة تعامل الشرطة مع الشعب!
في الأيام التالية وقبل 28 يناير، كانت بعض القوى السياسية تحاول أن تستفيد من تظاهرات 25 يناير لمصالح سياسية قصيرة الأمد مثل الاخوان والوفد.
في 28 يناير، ونتيجة القمع في 25 يناير والغباء في الاحتواء الأمني، والتآكل المرعب في بنية النظام، دون أن يدرك ذلك معارضوه، ضرب النظام بتسونامي بشري لا يمكن السيطرة عليه!
فاجأ الانهيار السريع للشرطة، وهو جيش أكبر في تعداده من تعداد جيوش الخليج مجتمعة، وحرق مقرات الحزب الوطني، المعارضين للنظام أكثر من رأس النظام نفسه والذي لجأ للجيش كخيار أخير لمواجهة هذا التسونامي الاحتجاجي.
وهنا بدأت موجة تسونامي ثانية على الأرض! فلأول مرة منذ يناير1977 يكون عم عوضين وأم السيد هما اللاعب الأقوى على الأرض! هم سادة هذه البلاد لا رأس النظام السياسي والأمني أو الفرعون في صيغته الرئاسية.
راهنت القوى التقليدية كالاخوان والوفد ورجال الأعمال المتحالفين مع النظام ولجنة الحكماء المكونة من وجوه أكاديمية ووجوه أخرى تمثل النظام في حقب سابقة، على أن النظام يستطيع النجاة، وكانت أعينهم مصوبة نحو مكاسب سياسية سريعة، مثل نيل الاعتراف من النظام في حالة الاخوان، أو بالنسبة لحالة لجنة الحكماء ورجال أعمال النظام، الحصول على قطعة من كعكة السلطة التي سيجبر النظام على إعادة تقسيمها بعد نجاته وبعد اختفاء المشاركين في السيطرة عليها مثل قيادات الحزب الوطني.
لكن سقف عم عوضين وأم السيد كان أعلى بكثير من سقف الاخوان والوفد ورجال الاعمال ولجنة الحكماء. ولم يكن السبب بعد نظرهم ولكن لأن ليس لديهم ما يخسروه.
كانت غلطة نظام مبارك أنه لم يفعل كما فعل نظام الأسد أو نظام صدام، عندما ربطوا بقائهم ببقاء قاعدة شعبية واسعة يمكن أن تتحرك لنجدته وقت الأزمات الداخلية أو العدوان الخارجي كما حدث مع صدام في أعقاب حرب 1991.
ويمكن أن ندرك حجم القاعدة الضيقة التي ارتبط بها نظام مبارك من خلال محدودية عدد أعضاء لجنة الحكماء ورجال الأعمال ورؤساء الأحزاب ومن يعملون بالاعلام، والذين سارعوا بالحفاظ على فكرة منع مبارك من السقوط خلال الأيام الثمانية عشر، من خلال الترويج لخطاب "مصر مستهدفة" مرورا بخطاب "ليس من اللائق ومن أجل سمعتنا في التاريخ!” وانتهاءً بخطاب "فلندعه يكمل الرئاسة من أجل انتقال سلمي للحكم".
كانت الصورة الدقيقة لما يحدث على الأرض تصل لمفاصل الشبكة الأستخباراتية من خلال بث حي لكل ما يحدث في الشوارع الرئيسية للمدن الكبرى في مصر..
نقلت هذه الشبكة الاستخباراتية الصورة بدقة الى القيادات التي تشكل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذين وجدوا أنفسهم أمام خيارين: إما أن ينجو مبارك، أو تغرق المركب بكل من فيها..
بحسابات سريعة توصلوا الى: 1. لو نجا مبارك فسيكون ضعيفا بحيث ينفذ ما نطلبه منه من استبعاد للوريث ومن مشاركة صريحة لنا في الحكم من أجل التحضير لما يعرف بعملية “اليوم التالي لما بعد مبارك” والتي كانت كل القوى الإقليمية والدولية تنتظرها بفارغ الصبر ولا تعلم ما الذي ستسفر عنه. وبالطبع لم يكن اليوم التالي لما بعد مبارك يعني أي شيء سوى وفاته بطريقة طبيعية.
2. لو لم ينج مبارك، فلتكن نهايته على أيدينا كي يغرق وحده دون أن تغرق المركب بالنظام بالكامل وربما يؤدي ذلك في مثل هذه الأوضاع الى تفكك الدولة المهترئة.
لو عدنا الى اللاعب الأقوى على الأرض وهو عم عوضين وأم السيد، نجد أنهم انتقلوا من مرحلة "قرص ودن" النظام الى مرحلة إسقاط رأسه في وقت قصير بشكل فاجأهم هم أنفسهم قبل أن يفاجأ البيت الأبيض أو البنتاجون أو وزارة الخارجية الامريكية، وهي الأطراف الخارجية الأكثر انزعاجا مما كان يحدث في مصر!
هذا النجاح السريع في تحقيق شيء مستبعد (وهو الانتقال من رفض جمال مبارك الى خلع أبيه) أدى الى أن يكون الطموح الثوري أعلى بكثير من إمكانياته الحقيقية على الأرض!
فنصف الذين تحالفوا مع الثوار، كالاخوان والسلفيين، تركوا الميدان ليتفرغوا للعبة إثبات الوجود على الأرض أمام العسكر ثم الحصول على وضع الشريك في الحكم!
وفجأة وجد الثوار أنفسهم بدون العناصر التالية والتي كانت معهم في الميدان: 1. الاخوان والسلفيون 2. فئات عريضة من مجتمع غير ثوري بطبيعته 3. المجتمع الدولي.
وكانت الأسباب الرئيسية لانسحاب هذه العناصر تتمثل في الآتي: 1. الاخوان والسلفيون انسحبوا للتفرغ لمعركة السلطة 2. المجتمع غير الثوري انسحب انتظارا لمكاسب اقتصادية سريعة 3. المجتمع الدولي انشغل بحرب ليبيا وبتغيرات مذهلة في الإقليم، هي الأكثر صخباً واضطراباً منذ الحرب العالمية الأولى وما عرف حينها باسم الثورة العربية الكبرى.
بعد ذلك جاءت مرحلة تشتيت الثوار ما بين معسكري "نعم" و"لا" في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ثم تفتيت الثوار بين ائتلافات شباب لا أحد يعرف بالتحديد عددها أو ماهيتها، وصولا الى معركة انتخاب رئيس لا يعرف أحد صلاحياته بما فيه الرئيس نفسه عند انتخابه!
لكن أكبر التحديات التي واجهت معسكر الثوار كانت من داخله، حيث دخل هذا المعسكر الغير موحد أيدلوجياً في دوامة من الانقسامات والائتلافات، والاكتفاء بالظهور مع يسري فودة في برامجه التلفزيونية المستطردة، وترك الأرض للإخوان والسلفيين ولمن "قالت الصناديق لهم نعم"!
كان أمام الثوار طريقان: 1. طريق طويل وهو العمل على التوعية الثورية على الأرض 2. طريق قصير وهو محاولة استغلال الاعلام المرئي في التوعية الثورية.
اختار الثوار الطريق الثاني وهو الطريق الأقصر دون أن يدركوا أن الاعلام المرئي الخاص مسيطر عليه من خلال رجال أعمال متحالفين مع السلطة الأمنية!
كان الاحباط النتيجة المنطقية لثوار فشلوا في الوصول برسالتهم الثورية الى أوسع شريحة من المجتمع بسبب مأزق الاعلام المرئي. قناة التحرير نموذجاً.
وكان رد فعل السلطة هو في السماح لرجال أعمال مبارك بالاغراق في شراء وسائل الاعلام والتطرف في رسائل ثورية في البداية ثم عند الحصول على بعض المصداقية الشعبية الانتقال الى التشكيك في الثوار..
ما سبق هو تحليل سريع لحركة بدأت شعبية غاضبة من أداة القمع الرئيسية في يد النظام، وصولا الى قوى ثورية معزولة ومحاصرة وسط مجتمع غير ثوري وميال نحو المقايضة السياسية!
بعد أن انتهينا من تحليل سريع لجذور الثورة نبدأ المرحلة الثانية وهي البحث في معنى الثورة..
الثورة: تغيير عميق في بنية المجتمع وهيكله الطبقي والاجتماعي، سواء أكان التغيير إيجابيا أم سلبيا، ديمقراطيا أم ديكتاتوريا، وبناء دولة تعبر عن هذا التغيير.
الثورة لم تحدث حتى الآن بالنسبة لمصر أو أي دولة عربية! فلم تتغير بنية المجتمع أو تتحقق العدالة الاجتماعية ولم تحصل الثورة على دولة خاصة بها.
وإنما ما حدث يمكن تسميته بأنه "مسار ثوري مستمر" انطلق في شكل انتفاضة شعبية ويحاول الآن صياغة أهدافه وتحقيقها، حتى وإن بدا ذلك بطيئاً ومتعثرا.
نماذج الثورة التي تحقق أهدافها بسرعة يمكن أن نجدها في الثورات الكوبية، البلشفية، الصينية، المصرية 1952. وتشترك جميعها في فكرة الانقلاب/التمرد العسكري المسلح.
كل هذه الثورات أصبحت ثورات نتيجة ما حققته من تغيير عميق في بنية مجتماعاتها وفي بنائها لأنظمة تعبر عنها. لكن انطبقت عليها عيوب دولة ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع وأحد أنبغ من أنجبتهم العرب.
من عيوب دولة ابن خلدون أن هناك جيل مؤسس للدولة يبذل الدماء في بنائها والحفاظ عليه، يليه جيل شاهد الجيل المؤسس وتضحياته، فيقوم بالحفاظ على الدولة، وجيل الأحفاد الذي يتسبب في انهيار الدولة نتيجة استهتاره بالأسس التي قامت عليها.
ولو قامت هذه الثورات التي بدأت كانقلاب عسكري وانتهت الى حكم غير ديمقراطي، بإشراك قاعدة أوسع من الشعب، لكانت حققت ما نجحت فيه الثورة الامريكية التي شرعت فور نجاحها في كتابة دستور للأمة الأمريكية من خلال جيل الآباء المؤسسين، كما يطلق عليهم في الأدبيات الأمريكية.
هنا ننتقل الى المرحلة الثالثة وهي النظر الى الثورة المصرية أو "المسار الثوري المستمر في مصر"، بصورة أشمل وأعمق من تفاصيل التجاذبات السياسية.
رغم فشل الثورة في السيطرة على السلطة من أجل بناء دولة تحافظ على الثورة وتحقق أهدافها، إلا أنها نجحت في هدم حائط الخوف، وهو إنجازها الأكبر..!
هذا الإنجاز أدى الى مجموعة من الانجازات الفرعية التي بدأت في تغيير طبيعة شخصية هذا المجتمع غير الثوري. من بينها صنع شرخ في فكرة الفرعون المعصوم..!
لأول مرة بدأ هذا المجتمع أن يدرك أن الفرعون المعصوم، هو مجرد لص رخيص، يخشى المواجهة ويرتعد الى درجة التمارض، وليس كما حدث في الحالة العراقية عندما تم محاكمة دكتاتور دموي، فإذ به يفرض على الذهنية الجمعية للمجتمع العراقي فكرة الأسير الشامخ القادر على الصراخ في ساحة المحكمة بصوت جهوري!
بدأ هذا المجتمع في إدراك أنه قادر على هزيمة السلطة المسلحة بغير سلاح! وهذا لم يكن واردا في الذهنية الجمعية لهذا المجتمع الذي يقدس حرمة الدم.
صحيح أن الثورة لم تحصل بعد على دولتها، لكنها ضربت المقدسات الثلاثة لمجتمع اعتاد منذ عصر الفراعنة على تقديس الفرعون، قائد الجيوش، وكبير الكهنة!
في هذا الاطار الأوسع يمكن القول أن المسار الثوري الذي بدأ كموجة تسونامي في 28 يناير، لن يتوقف إلا وقد أصبح ثورة كاملة، حتى وإن واجه حائطا عاليا من الإحباطات.
بناء على ما سبق، لا داعي للإحباط، ولكن المطلوب تغيير الوسائل والتكتيكات، والانخراط بجدية في الطريق الأصعب وهو بناء قواعد شعبية مؤمنة بالثورة.
والله من وراء القصد، والنصر لثورة بدأت كفكرة، والأفكار لا تموت أو تنتحر!
بريشة الفنان البولندي كاميل جورجون |
أول مرة أقراها لكن بصراحة تحليل رائع لفكرة الثورة و ما بعدها و للأسف ما يزال هذا التحليل سارى حتى الآن بالرغم من مرور سنتين على الثورة و سنة على كتابته
ReplyDelete