Tuesday 20 March 2012

البابا شنودة: أربعون عاماً بين الاصطدام والاحتواء


قبل محاولة الإبحار مع المواقف والاختيارات السياسية لرأس الكنيسة القبطية الراحل، البابا شنودة لابد من التوقف عند النقطتين التاليتين:

1. جزء من مشاكل المجتمع المصري، سببه أن هذا المجتمع لم يجد في نفسه الجرأة لمواجهتها وهي بعد في مرحلة البذور. مثال على ذلك الاحتقان الطائفي الموسمي الذي بدأ منذ 1972 مع أحداث الخانكة الطائفية.

2. منذ السبعينيات، والمجتمع يفضل أو بالأحرى يستسهل مواجهة مشاكله من خلال الخطاب الإعلامي المنزوع الدسم أو الفارغ من المحتوى الجاد. مثلا: في كل مرة حدث فيها توتر طائفي فضل المجتمع أن يشاهد أوبريتاً موسيقياً تلفزيونياً عن وحدة عنصري الأمة، وأن يستمع الى حكايات فلكلورية عن أن أماً مسيحية ربت طفلاً مسلماً وعلمته مبادئ الدين الإسلامي، وأن أماً مسلمة تبنت طفلة مسيحية يتيمة!

البابا والسادات: الاصطدام أفضل من السير عكس التيار!

قبل تولي السادات الحكم لم تكن المشكلة الطائفية مطروحة في مصر. كانت المعركة الأساسية لهذا المجتمع هي التنمية السريعة وإثبات الثقل الإقليمي. كان هذا ظاهرا في إدراك عبد الناصر بأن معركته الملحة هي في إحداث تنمية اقتصادية بوتيرة سريعة دون مشاركة سياسية، يعتقد أنها يمكن أن تعطلها. لذا فلم يكن المجتمع يبحث عن الهوية الدينية، في ظل دولة مدنية لديها مشروع جامع لكل المصريين.

بعد تولي السادات ومحاولته بناء شرعية منفصلة عن شرعية عبد الناصر، اختار اللعب بورقة الدين. المفارقة أن هذه هي الورقة التي أدت الى الاصطدام بالبابا لاحقاً ثم تسببت في مقتل السادات نفسه عندما تحولت الورقة الى لاعب لديه أوراق لعب!

عبد الناصر والبابا كيرولس
في المقابل فإن البابا شنودة كان أول بابا سياسي في تاريخ الكنيسة. بذكائه أدرك أن نظام السادات مستعد للمقايضة في مقابل الحصول على شرعية جديدة وأنه يمكن في سبيل ذلك أن يبني للكنيسة أصولا سياسية يمكن له أن يضغط بها على النظام فيما بعد، بعد أن اختارت الدولة رفع سقف المواطنة عن مواطنيها.

لكن المشكلة أن السادات كان مستعدا للإمساك بسلكين عاريين يحملان تيارا كهربائيًا عاليا، ووضعهما في جسد الوطن، فيما عرف بسياسة: الصدمات. ومن بين هذه الصدمات عزله للبابا في 1981 بعد أن وصلت العلاقة بينهما الى نقطة اللاعودة.

من يعود للتاريخ يجد أن البابا شنودة اختار الاصطدام بالسادات ورفض السير معه الى القدس لأنه خشي أن الاصطدام مع المجتمع والإقليم سيكون أكثر كلفة على الأقباط. كان البابا شنودة قارئا جيدا للتاريخ ويدرك أن مبادرة السلام التي خرج بها السادات فجأة على المجتمع، هي قفزة نحو مزيد من الاستقطاب السياسي والديني في مصر والإقليم أيضا. وأن السير مع السادات في هذه القفزة نحو المجهول ستجعل الكنيسة هدفاً سهلا لمن يريدون أن يخلطوا بين الصراع العربي الإسرائيلي وبين الأجندة الدينية.

كان البابا شنودة بعيد النظر أيضاً في رفض مبادرة القدس. فقد كان يدرك أن المسلم الذي يسير مع حاكم مسلم في طريق خاطئ لن يدفع الثمن الذي يمكن أن يدفعه قبطي يسير مع حاكم مسلم في نفس الطريق!

كان من المعروف عن السادات أنه يشخصن السياسة، وبالتالي وجد أن المعركة مع البابا شنودة مسألة كرامة شخصية ويجب أن يذهب إلى أبعد مدى وهو العزل وتحديد الإقامة. وكانت المفارقة مدهشة. فالبابا الذي اختاره الرب وفق تعاليم الكنيسة، قد عزل من حاكم دنيوي، يعتقد بأن له سلطة روحية بالإضافة الى سلطته السياسية!

من اللافت للنظر أن السادات اصطدم بالبابا شنودة بينما كان البعض في الخليج يبحث عن الرزق. وعندما عاد هذا البعض، كان سبباً إضافياً في الاحتقان! فقد عادوا ومعهم مناخ صحراوي لا يعرف التعدد الثقافي والديني الذي عرفته مصر منذ عصر الفراعنة.



اغتيل السادات وجاء مبارك وشرع في إجراء مصالحة سياسية واسعة مع كل التيارات والاتجاهات، لكن البابا ظل معزولا في الدير حتى 1985. أي بعد مرور نحو أربعة سنوات على اغتيال الرجل الذي عزله!

البابا ومبارك: مع الرئيس ذاك أفضل جداً!

خرج البابا الى مصر مختلفة عن مصر التي تركها عندما حددت إقامته في الدير. كان الإقليم قد اختار أن يلعب ورقة الدين في أفغانستان في مقابل "امبراطورية الالحاد"، وهي التسمية المفضلة لدى رونالد ريجان وحلفاؤه في المنطقة من دول الخليج وباكستان.

اصطبغت الثمانينات بحرب أفغانستان. ريجان في البيت الأبيض يواجه امبراطورية الالحاد بدعم من السعودية ومصر وباكستان، فيما المسيحية البروتستانتية الأمريكية تدخل في حلف مع الاسلام الوهابي لمحاربة الالحاد الشيوعي! مزيج ملتهب من الألوان الدينية التي لا يحبذ البابا الدخول معها في معركة أو حوار أو أي نوع من التفاهمات.

اختارالبابا بدهاء شديد أن يتجنب التورط وأن يكون في نفس مركب مبارك، وأن يعمل في هذه الأثناء على ترسيخ أصول الكنيسة السياسية والاقتصادية.

كان مبارك يخوض حربا شرسة مع الجماعات الاسلامية حينها ولم يكن قادرا على قبول أن يكون البابا على الجانب المعارض، كما لم يكن البابا مستعدا لمعارضته في الوقت الذي يرى فيه أن الجماعات الاسلامية تضع الكنيسة والدولة "الكافرة"، وفق أدبياتهم، في سلة واحدة.

وبدأ عصر المقايضة التي دفع ثمنها أقباط مصر وكان فقرائهم أكبر ضحايها. مبارك زعيما سياسيا للمسلمين والبابا وكيله لدى الأقباط، في مقابل ترسيخ سلطته السياسية على الأقباط وعدم وقوف الدولة مع التيار العلماني في المجتمع القبطي أو تسليط الأضواء عليه.

كان التيار العلماني القبطي تاريخياً قد ضرب من قبل الدولة في أعقاب ثورة يوليو 1952، وذلك عندما تصادف أن أقطابه هم من كبار رموز الإقطاع. وخلال السبعينيات، حاول السادات أن يستغل هذا التيار لضرب البابا، وهو ما جعل التيار يرفض خوفاً من الإطاحة به من قبل كافة تيارات المجتمع القبطي. وفي الثمانينات والتسعينيات وصولا الى خلع مبارك، كان الحلف السياسي بين البابا ورأس الدولة، أقوى من التيار العلماني القبطي وقادرا على تحويلهم الى مجموعة من الهراطقة والمجدفين!

من يتأمل سلوك البابا السياسي في دعمه لمبارك في جميع الاستفتاءات والانتخابات يدرك أنه كان الخيار السياسي المفضل للبابا وأنه فضله على أن تقع الدولة في يد خصم قوي مثل السادات قادر على الذهاب بعيدا جدا في خيارات الصدام أو زعيم قوي مثل عبد الناصر قادر على المساواة بين جميع خصومه في التنكيل السياسي.

على الرغم من أن ملف الكنيسة كان من اختصاصات أمن الدولة، وهو أمر مهين، لكن البابا لم يكترث لذلك واختار أن تكون العلاقة الخاصة مع مبارك هي الأساس الحاكم لعلاقة الدولة بالأقباط.

ومن ضمن أسس هذه العلاقة اللعب المزدوج لمبارك والبابا شنودة على وتر أن الخطر الذي يهدد النظام، يهدد الأقباط، وأن من الأفضل لهم أن يراهنوا على مبارك والبابا كزعماء سياسيين / روحانيين لا يمكن الخروج على سياساتهم / تعليماتهم.

علاء مبارك والبابا شنودة
لا يشكك أحد في أن البابا كان يريد تحقيق ما يخدم الأقباط، لكن تحالفه مع مبارك، حقق مصلحة للكنيسة كمؤسسة وأضر بغالبية الأقباط الذين كانوا يريدون دولة ترعى شئونهم الدنيوية لا كنيسة روحية تقدم خدمات دنيوية وبالتالي تفرض عليهم وصاية سياسية.

والمتأمل في التركيبة الطبقية للمجتمع القبطي في مصر يجد أنه مثل بقية المجتمع، أقلية غنية مؤثرة على علاقة وثيقة بالسلطة، وأغلبية فقيرة مهمشة تشعر بالحصار الدائم من قبل الدولة التي تتجاهلهم والكنيسة التي تتعامل معهم باعتبارهم رعية لا يجوز لها الاعتراض، بالاضافة الى استقطاب ديني حاد يدفع البعض المتطرف داخل المجتمع بالنظر لهم باعتبارهم أغراباً لا أبناءً حقيقيين للوطن.

وكانت النتيجة أن التيار العلماني القبطي هو أكثر من دفع ثمن التحالف بين مبارك والبابا. فقد كان الجميع معارضا لهم بما فيهم فقراء الأقباط الذين تتضرروا من هذا التحالف!

البابا والثورة: الوفاة المفاجئة لعلاقة الزواج مع السلطة!

كانت لحظة الانتفاض الشعبي الكامل والشامل على مبارك في يناير 2011، بمثابة الضربة التي أطاحت بكل السلطات الأبوية في مصر بما فيها سلطة البابا السياسية على الأقباط.

لم يكن هناك فارقا كبيرا في العمر بين البابا شنودة ومبارك، وكان لدى الرجلين نفس الفكرة تجاه الثورة، وهي أنها أزمة عابرة ستنتهي بترسيخ النظام لقواعد جديدة ستجعله أكثر بطشاً بخصومه.

ولو كانت الثورة قد فشلت كنا سنرى البابا شنودة وشيخ الأزهر وهم يزورون مبارك في القصر الجمهوري ويجددون له البيعة باعتباره نجا من محاولة اغتيال شبيهة بما حصل له في أديس أبابا عام 1995.

ولا يجب النظر الى موقف البابا من الثورة على أنه موقف ينتقص منه كشخصية عامة كانت ترى أن مصلحة الأقباط هي عدم الاصطدام العنيف بالحاكم في لحظة اضطراب كبرى!

فقد كان البابا يعتقد أن لو مبارك نجا من هذا الانتفاض الشعبي، سيكون عنيفاً في الانتقام وخصوصا مع حلفائه التقليديين مثل الكنيسة، لو اختارت الوقوف مع الثورة.

لمن يقارنون موقف البابا في الوقوف مع مبارك خلال الثورة بمواقف الجماعات الأخرى التي ترددت في نصرة الثورة من يومها الأول مثل الاخوان أو تلك التي شكلت لجاناً للحكماء من أجل الإبقاء على مبارك، يتجاهلون أنه ليس معتنقا لدين الحاكم وبالتالي حساباته مختلفة.

ويمكن تصور أن البابا اختار عدم المجازفة بالوقوف ضد مبارك ونصرة الثورة لأنه: 1. لم يكن مقتنعا بأنها ثورة، مثل كثيرين غيره في عمره ومن قضوا مسيرتهم في النظر الى الحاكم باعتباره اختياراً إلهياً. 2. أن البابا لديه تجربة اصطدام عنيفة سابقة مع السادات وقد كان حينها في منتصف العمر، وهو ليس على استعداد بالمجازفة والاصطدام وهو في هذا السن. 3. يحاول الحفاظ على مكتسبات الكنيسة السياسية والاقتصادية التي حصلت عليها منذ أن بدأت علاقته بمبارك عام 1985.

بعد خلع مبارك، أدرك البابا أنه يخرج إلى مصر جديدة، شبيهة بحالة خروجه إليها بعد العزل الذي فرضه السادات. كان يدرك أن ما كان قائما لم يعد موجوداً.

فمع خلع مبارك، تحطمت المعادلة السياسية القائمة بين رأس الكنيسة ورأس الدولة منذ 1985. كانت المعادلة قائمة على العلاقة الشخصية بين مبارك والبابا ولم يكن لها أي شكل مؤسسي. لذلك لم يرث المجلس العسكري الحاكم هذه العلاقة.



ولهذا أيضاً لم يكن مفاجئا للبابا أن الجنرالات ليسوا مثل مبارك في مسألة عدم الاصطدام المباشر بالأقباط، وتفضيل الاتصال والتفاهم مع البابا للسيطرة على المعارضين منهم لحكم المجلس العسكري.

فقد كان الجنرالات غير مقتنعين بجدوى الاعتماد على مبدأ تفويض شؤون الأقباط المعارضين لهم للبابا، في لحظة كانوا يتصورون خلالها أنهم هم الدولة والدولة هم وأن هذه الدولة هي في مهب الريح!

لذا فإن أحداث ماسبيرو كانت شهادة الوفاة الرسمية لعلاقة البابا شنودة بالدولة المصرية والتي ولدت عام1985. فلأول مرة تساوى عنصري الأمة في التعرض للقمع العنيف والدهس!

لكن المأزق الذي واجهه البابا أنه وجد نفسه محاصرا بين جنرالات مستعدين للسير الى أبعد مدى مثل السادات، وبين أقباط يريدون أن يكونوا مع الثورة!

ومما زاد الوضع صعوبة على البابا أنه أتيحت لأول مرة التيارالعلماني القبطي الفرصة على الإفلات من سلطة البابا السياسية التي انهارت بخلع مبارك وباختيار الجنرالات للاصطدام بجميع من يعارضونهم.

نتيجة هذه الظروف العاصفة فضل البابا أن يطير على ارتفاع منخفض في لحظة الاضطراب الكبرى التي أعقبت خلع مبارك، على أن يصطدم بالجنرالات أو بالقوى الإسلامية المتحالفة معه.

ولو حدث وكان قد أتيح لأحد أن يسأل البابا عن الموعد المناسب الذي يراه لوفاته، لربما أجابه بأنه يفضلها الآن! فالرجل أدرك أن حقبة جديدة بدأت وتحتاج لبابا يستطيع الإبحار وسط عاصفة هائلة من التغيرات التي تجتاح مصر والإقليم بأكمله.



1 comment:

  1. بجد جميل..تابعتك علي التويتر بس دائما افضل المقال..عاش

    ReplyDelete