انتشرت في الفترة الأخيرة جملة في صيغة سؤال، بين الشباب الذين صنعوا وفكروا في الثورة، وهي: لماذا لا يموت ولاد الوسخة؟
والمقصود هنا "بولاد الوسخة" هم الطبقة السياسية التي امتطت الثورة واستغلتها من أجل مصالحها السياسية الضيقة، ثم حددت هدفا لها وهو التخلص الجماعي والدائم من صناع الثورة الحقيقيين، باستخدام كل الوسائل، وفي كل الميادين بما فيها ميدان البرلمان!
في الخربشات التويترية التالية أحاول الإجابة على سؤال: لماذا لا يموت ولاد الوسخة؟!
نبدأ ببلد بعيد عن مصر وينظر إليه بأنه أعرق ديمقراطية في العالم وهو بريطانيا. النظام السياسي البريطاني تشكل على مدى عقود طويلة من الصراع السياسي بين تيارات وأجنحة مختلفة من النخبة الحاكمة..
بعد سنوات من هذا الصراع السياسي، وصل النظام البريطاني الى وضع يسيطر فيه حزبين على الحياة البرلمانية والسياسية. حزب المحافظين وحزب العمال. يعني يمين ويسار..
وأي حد يحب يمارس العمل السياسي في بريطانيا لازم يدخل يا حزب المحافظين، يا حزب العمال. ودول هما الحزبين اللي بيتناوبوا على تشكيل الحكومة دائما
لكن النظام السياسي البريطاني سمح لغير الراغبين في الدخول الى أي من المعسكرين بالدخول في حزب تالت وهو الليبراليين الديمقراطيين. ودة حزب أقلية دائما. يعني عمره ما بيصل للحكم.
وبالتالي فالحكم محصور في نخبة سياسية من خريجي مدرستين ثانوي في بريطانيا: مدرسة إيتون ومدرسة هارو. ودول هما النخبة الحاكمة دائما في هذا البلد
لما حصلت الانتخابات الأخيرة في بريطانيا، كان النظام السياسي وصل لمأزق. الناخبين حسوا بأن لازم يعاقبوا حزب العمال على سياساته الاقتصادية خلال الأزمة المالية، وعلى سياساته الاجتماعية منذ وصوله الى الحكم في 1997، ولكن لا يجب السماح للمحافظين بالوصول للحكم بسبب الخوف من سياساتهم الاقتصادية.
وفق العملية الانتخابية المعقدة في بريطانيا واللي هي مصممة لخدمة النخبة السياسية سواء محافظين أو عمال، الناخب مخلاش أي حزب يفوز بالأغلبية..
وهنا ولأول مرة بقى لحزب الأقلية زي الليبراليين الديمقراطيين أهمية. لأن أي حزب كبير حيتحالف معاه ممكن يبقى معاه أغلبية ويشكل حكومة إئتلافية..
حصلت مفاوضات بين زعماء الأحزاب الثلاثة وقعدت بريطانيا خمسة أيام بلا رئيس وزراء معروف! الملاحظة إن البلد كانت ماشية حلاوة ومفيش انفلات أمني.. بلد مؤسسات بجد، مش بلد فوتوشوب زي بلاد تانية!
الليبراليين الديمقراطيين اختاروا الدخول في حكومة إئتلافية مع المحافظين (رغم تناقض توجهات المحافظين السياسية مع المانفيستو بتاع حزب الليبراليين الديمقراطيين) وكله علشان يوصلوا للحكم لأول مرة في تاريخهم
بعد الأزمة السياسية، كان في إدراك بأن لازم يتم إصلاح نظام التصويت في بريطانيا، وكان فيه اقتراح حيؤدي الى انهاء هيمنة نظام الحزبين الكبيرين، وكان الاقتراح مدعوم طبعا من حزب الليبراليين الديمقراطيين لأنه معناه السماح له بفرصة الوصول للحكم المرة الجاية.
وحصل استفتاء على إصلاح النظام الانتخابي وطبعا انتهى بالرفض ورجعنا للمربع رقم واحد. حزبان كبيران يسيطران على الحياة السياسية لقرون طويلة قدام ومفيش أفق لحل أزمة النظام السياسي البريطاني في مسألة توسيع قاعدة المشاركة السياسية.
خلاصة القصة: لما القوى السياسية الحاكمة تشكل النظام السياسي أو تحط قواعد اللعبة السياسية في البلد، لازم طبعا حتشكلها وفق مصالحها الطويلة الأمد
هذه هي بالضبط أزمتنا الراهنة في مصر. إن قوى المجتمع الحقيقية (الفقراء الذين يشكلوا القاعدة الأكبر في المجتمع) جاتلها لحظة تاريخية من السماء (بعد خلع مبارك) لتشكيل النظام السياسي اللي يخدم مصالحها، ولكن ضاعت اللحظة!
ليه ضاعت هذه اللحظة؟ لأن قوى المجتمع تم تضليلها وفوضت عملية تشكيل النظام السياسي لقوى سياسية وفق فخ "الصناديق قالت نعم" وتم اختطاف العملية كلها من قبل النخبة الحاكمة التي تشكلت سريعا بعد خلع مبارك.
اللي حصل ببساطة، إن الطبقة الحاكمة في مصر من جيش أو قوى سياسية منظمة وكبيرة زي الاخوان، استغلوا اللحظة دي لصنع نظام سياسي على مقاسهم فقط..
وبالتالي مكانش من مصلحة النخبة الحاكمة إنها تسيب قوى المجتمع هي التي تصيغ وتصنع النظام السياسي، لأنهم خافوا إن تيار سياسي آخر هو اللي يحكم..
علشان كدة كانت كل المعارك اللي حصلت من ساعة تنحي مبارك هي معارك بين نخبة حاكمة عاوزة نظام سياسي وقواعد لعبة سياسية تسمحلها بالوصول الدائم للحكم
والمصيبة إن الناس اللي قاموا بثورة شعبية، فوضوا صياغة مصيرهم للجيش ورجعوا بيوتهم، والجيش خد الكيكة وقسمها مع القوى المؤثرة في الشارع وهم الاخوان
وانتهت كل الأحلام الكبيرة في إننا كشعب تركنا النخبة الحاكمة تصنع نظام سياسي لن يفرق في قواعد لعبته عن نظام مبارك، وبالتالي إعادة إنتاج مبارك من خلال شكل جديد يتمثل في مكتب إرشاد أو مجلس عسكري حاكم أو من وراء ستار.
وطبعا من المستحيل تصنع في لحظة ملتبسة زي اللي إحنا فيها، إجماع شعبي يمكنك من النزول للشارع وإسقاط النظام اللي بيتشكل على مقاس النخبة الحاكمة الحالية (عسكر/إخوان)
والكارثة إننا دلوقتي داخلين على انتخابات لرئيس، هو نفسه مش عارف صلاحياته! لأن ببساطة مفيش دستور! يعني مفيش عقد اجتماعي! يعني الأستك واسع أوي
بالتالي أياً كان اسم الرئيس، أبو الفتوح ولا أبو فروة، في النهاية أنت محكوم بقواعد لعبة سياسية لم تشارك في صياغتها، وتسمح للنخبة الحاكمة بإقصائك دائما وشطب كل ما يتعلق بحقك في الوصول السلمي للحكم وفق قواعد لعبة سياسية عادلة.
لذلك كل معارك المجلس إنه محدش يتدخل في شئون الجيش، وكل معارك الإخوان إن البرلمان يشكل الحكومة، وكل ما عدا ذلك من قوى المجتمع الحقيقية قاعدة بتتفرج على التلفزيون!
علشان كدة حيظل الفقير في هذا البلد فقير جدا والغني غني أوي واللي يعرف ظابط شرطة أو جيش يبقى أمه داعياله! لأن النظام السابق أعاد إنتاج نفسه تاني..
لما نقول إن النظام السابق أعاد إنتاج نفسه، مش معناه إن الفلول رجعوا.. المقصود إن القواعد السابقة للعبة السياسية اللي أدت الى انهيار البلد رجعت وسمحت بالوصول الى نفس الصيغة اللي كانت بتحكم البلد خلال مبارك.
فيه مستويين من النظر الى الأزمة الحالية. المستوى الأول: الانشغال بتفاصيل مين بيتخانق مع مين؟ والمستوى التاني وهو الأخطر: مين بيرسم شكل البلد لمئة سنة؟
الصراع بين النخبة الحاكمة في مصر مش صراع على وزارة الري أو صلاحيات وزير النقل، وإنما صراع على أحجامهم في النظام السياسي اللي هما بيشكلوه..
خلونا نرجع لمثال بريطانيا أو حتى أمريكا. هذه دول، الديمقراطية فيها تمر بأزمة عميقة والسبب أنها لم تعد تعبر عن القوى الحقيقية في مجتماعاتهم..
لكن لأن بريطانيا وأمريكا عندهم: دولة مؤسسات حقيقية أو ما يطلق عليه "خدام النظام" Civil Servants، وشبكة آمان اجتماعي، فمشاكل الآلة السياسية بيتم التحايل عليها من قبل النخبة الحاكمة..
أما بالنسبة لمصر فلازم ندرك الآتي: 1. الفقراء هم الطبقة الأكبر في المجتمع وغير ممثلين على الإطلاق 2. مفيش دولة مؤسسات 3. مفيش شبكة أمان اجتماعي
وطالما النخبة الحاكمة الحالية هي اللي حتكتب الدستور يبقى دة معناه إن الدستور حيبقى أداة تخدم وصولها الدائم للحكم من خلال شكل النظام السياسي!
ولذلك النخبة الحاكمة مش مهتمة بالحديث عن حقوق الأقليات ودائما بتحب تصدر لنا صور الترابط بين عنصري الأمة وأوبريتات الوحدة الوطنية الحمضانة..!
المفروض مثلا إن الدستور وهو عقد اجتماعي بمفهومه الواسع، يقدم آليات كي يتم تمثيل الاقليات في السلطة وفق أحجامها وبالتالي يكون فيه دولة تقف على مسافة واحدة من جميع الذين يدينون لها بالولاء.
لكن الحاصل إن النخبة الحاكمة (عسكر/إخوان) مش عاوزين آليات تسمح لأقليات أو تيارات سياسية تمثل الشارع أو الشارع نفسه، يشاركوا في الحكم مستقبلا لأن دة معناه خروجهم من اللعبة أو إضعاف دورهم فيها.
لذلك جملة "الصناديق قالت نعم" اللي قالها أحد رموز التيار الاسلامي خلال الاستفتاء على التعديلات الدستورية أو ما عرف باسم موقعة الصناديق، هي جملة عبقرية! لأنها تعبير عن عقلية النخبة الحاكمة اللي عاوزة تفويض شعبي في صنع نظام خاص بيها من خلال حشد الأصوات في اتجاه لا علاقة له بالسياسة!
نرجع بقى شوية للتاريخ ونشوف ليه حزب الأغلبية في مصر وهو حزب الفقراء، لم يتم تمثيله في صياغة مستقبل النظام اللي حيحكمه لمدة مئة سنة قدام
السبب بأن النخب السياسية الحاكمة في مصر منذ الفراعنة، كانت دائما هي اللي بترسم قواعد اللعبة السياسية بما يخدم مصالحها في الوصول الدائم للحكم أو البقاء الدائم فيه.
ولذلك كان دائما لدينا حاكم قوي لديه رؤية، فيشد البلد لقدام، وبعدين يموت، فيموت معاه مشروعه. ودة حصل مع محمد علي وعبد الناصر على سبيل المثال.
ومع مشروع محمد علي أو مشروع ناصر، مكانش فيه عقد اجتماعي بين قوى المجتمع والنخبة الحاكمة علشان يكون لهم حق في الحفاظ على المشروع بعد وفاة الحاكم. ولكن كان فيه عقد اجتماعي بين النخبة الحاكمة وطبقة الأفندية أو القادرين على مشاغبة النظام وفق آلياته.
ودائما كان حزب الأغلبية وهو حزب الفقراء مستعد يعقد مع النخبة الحاكمة مساومة سياسية قائمة على: إديني مكتسبات اجتماعية وليك مني تفويض على بياض
ولما وصلنا لحاكم ضعيف وبلا رؤية زي مبارك، فوجئنا بإن النظام السياسي القائم على الولاء وجماعات المصالح الرأسمالية هي اللي بتشد الرئيس وراها..
ولما مبارك تم خلعه، فوجئنا لأول مرة بإن مش بس شيلنا حاكم ضعيف، وبالتالي وقعنا على شبكة أمان وهي دولة مؤسسات، وإنما وقعنا في حجر العسكر والاخوان..!
وطبعا كان فخ الاستفتاء على التعديلات الدستورية، اختبار من العسكر هدفه:1. معرفة القوى المؤثرة والمنظمة 2. معرفة الحجم الحقيقي للإخوان على الأرض
والنتيجة إن الطرفين لما أدركوا بإنهم صحيح لا يمثلوا الأغلبية ولكن قادرين على التضليل والحشد، قعدوا مع بعض ووصلوا لاتفاق يشكلوا من خلاله النظام السياسي في المرحلة القادمة بما يضمن حماية مصالحهم.
لذلك كان من مصلحة العسكر/إخوان إنهم يستبعدوا بسرعة أي قوى ممكن تخاطب حزب الأغلبية/حزب الفقراء زي تيار اليسار مثلا. وهنا كان التضليل والتشويه زي قناع بانديتا وفيلم الرجل التنين ومخطط حرق سينما مترو وتياترو يوسف بك وهبي!
وكان من مصلحة النخبة الحاكمة الجديدة العسكر/إخوان إنهم مش بس يستبعدوا قوى ممكن تخاطب حزب الفقراء ولكن يشرفوا على تشكيل دستور يمنع دة مستقبلا.
ودة معناه إن حزب الفقراء سيزداد فقرا والمصالح الرأسمالية الحليفة لنظام مبارك ستقدم فروض الطاعة والولاء للعسكر/إخوان وتزداد ثراء، والبلد تلبس نظام سياسي لا يعبر عن أغلبية من يعيشون تحت سمائها.
ولهذا السبب تحديدا يحاول العسكر/إخوان اختزال الثورة في فكرة خلع مبارك ومحاكمته وصولا لإعدامه لو اتزنقوا أوي، لأن مش عاوزين حزب الفقراء يطالب بحقه في صياغة شكل الحكم والنظام السياسي اللي حيخدمه.
وفي النهاية إحنا وصلنا لانتخابات رئاسية (في اعتقادي عبثية) هدفها رئيس يكون مشدود من إيده الشمال من قبل العسكر ومن إيده اليمين من قبل الاخوان
ولذلك أقول: نحن أعدنا إنتاج نظام منتهي زي نظام مبارك، من خلال السماح لنخبة حاكمة بوضع قواعد لعبة سياسية ستعيد تشكيل كل بلاوي النظام القديم..
من الآخر إحنا قمنا بثورة عظيمة وانتهينا الى الوقوع في مصيدة قوى انتهازية تقامر بمستقبل البلد من أجل مصالحها السياسية وليس من أجل حزب الفقراء
لا أراكم الله مكروها في ثورة عزيزة عليكم..
عظيم بس المفرود ان افراد الإخوان اتباعلهم فكرة العدل عن طريق اقامة دولة الإسلام و ده مش هيحصل ففي منهم كتير هيسيبوا الجماعه ده غير اللي سابوهم اصلا بعد الثورة ف ده هيضعفهم شويه لإن افرادهم هم اللي بيأمنولهم موضوع الانتشار الخ و ممكن ممكن يعني انتخابات الرئاسة تجيب للشعب صدمة فا يفوق ان حقه مرجعش و الرئيس بقي مجرد واجهة او دميه يحركها العسكر/الإخوان فيرجع يثور من تاني، و الدستور ملوش اهمية كبيرة في الوقت ده غشان لو كان نفع حد كان نفع مبارك
ReplyDeleteرأي حضرتك مفيد جدا.. أعتقد إني أتفق مع كل ما قلت لولا إن الخوف هو اعتمادنا على سيناريوهات محتمل تحصل ومحتمل لأ
ReplyDeleteالدستور هوا اهم شئ ف الوقت الحاضر لأنه في النهاية اللي ممكن الشعب لو معجابوش يحتكم بيه ودي لحظه فارقة اما نضع اسس الدوله عن طريق وضع دستور مدني يحفظ الحريات ويحدد صلاحيات البرلمان والرئيس بشكل يسمح بتداول السلطة او يفصل ليخدم الأخوان بأن بوضع دستور دوله دينية يفرض فيها التوجه الديني بتاع مجموعة معينة على الجميع و تعمل وصاية على الأفراد لتضمن ان تصور المجموعة الديني يكون هو المهيمن على كل افادالشعب سواء رضوا او ابوا
ReplyDeleteدي أول مرة أعلق عندك و أول مرة أدخل المدونة بصراحة التدوينة رائعة بكل المقايس .. الحل زي ما ذكر في التعليق الأول ثورة جديدة ... لكن للأسف هتاخد وقت لغاية لما الناس تفهم الخدعة بسبب عامل التغيب
ReplyDelete